رغم المقاربة النظرية السياسية والعملية التي تبدو قائمة بين الصين والاتحاد السوفيتي السابق، وقد حكم كل منهما بمرجعية “الحزب الشيوعي”، بينما ظل كل منهما في حالة صراع أيديولوجي وتنافس سياسي على من يملك النسخة الصحيحة من الماركسية، لكن القاسم المشترك الذي تجاوز ذلك التنافس كان في سيرة القمع وسجل الانتهاكات الحقوقية وبخاصة ضد المعارضة والأقليات. 

الشيء الوحيد ربما المختلف، هو حالة التماسك الصيني، وقدرته على العمل ببراغماتية تتجاوز مماثله الاتحاد السوفيتي الذي سقط أو بالأحرى تفكك، في حين ظلت “البيروسترويكا” آخر الوثائق التي يعزى إليها نهاية التجربة الاشتراكية الأولى بالعالم.

الإصلاحات التي سعى إلى إدخالها غورباتشوف من خلال برنامجه والتي تعني “إعادة الهيكلة” وطاولها غموض وشكوك بأنها مؤامرة من الغرب والولايات المتحدة، حتى يتسيد العالم القطب الواحد، كانت تتعين في لحظة فقدت شروط التحول الآمن وإمكانية الاستقرار في ظل “حكم العواجيز” على حد تعبير الكاتب الروسي فلاديمير ميديفيديف في كتابه الذي حمل العنوان ذاته.

غير أن الصين لجأت سريعاً إلى التعافي من الوضع السابق حتى لا تصل إلى درجة الشيخوخة والجمود، وواصلت تأمين سلطة الحزب بكافة وسائل القمع وتأميم المجال العام، مع الأخذ في الحسبان ضرورة تبني آليات مرنة للانفتاح في بعض القطاعات لضمان البقاء لمدد أطول في الحكم.

الصين والحكم بالقمع

بخلاف السوفييت، مثلاً، لم تتمتع أي مناطق بالصين للحكم الذاتي ولم يسمح بالانفصال ولو حتى من الناحية الرمزية، الأمر الذي حدث مع إقليم الإيغور، وروجت بكين لسرديات عديدة حول الامتداد التاريخي لبكين وتعميم رؤية قومية شمولية تشمل الكافة. 

كما أن الزعيم الصيني الذي خلف ماو تسي تونغ، وهو دينغ شياو بينغ، تمكن سريعاً وفي وقت مبكر من تحقيق رؤية مزدوجة في إدارة الحكم الذي ظل قمعياً ولا يسمح بهامش للحريات، حيث فكك هيمنة الدولة (مع بقاء المراقبة) على مسائل التخطيط الاقتصادي وسمح بآليات السوق أن تعمل بحرية، ومن هنا، برزت نسخة مغايرة ومعدلة لـ”اشتراكية الدولة” في بكين، أو ما يمكن تسميته رسملة الاشتراكية (على نموذج الاشتراكية العربية في ستينيات القرن الماضي).

هذا ما ألمحت له منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الحقوقي عام 2024، وقالت إنه “لجذب الاستثمارات الأجنبية بسبب تباطؤ اقتصادها، بدا أن بكين خففت  لهجتها العدائية بعض الشيء تجاه البلدان الغربية، وبدأ مزيد من الناس بالتشكيك علناً في الاتجاه الذي تسلكه البلاد تحت حكم شي، معرضين أنفسهم لخطر كبير”.

استفادت الصين من التكنولوجيا الحديثة والمتطورة لديها في توسيع سياساتها الاستبدادية العدوانية، بما أدى إلى شن رقابة قصوى وقمعية على الوسائط الرقمية. وتكاد أن تقع الصين تحت وطأة دائرة مخيفة تشبه “التنين” الأسطوري الذي يهدد أي حركة طارئة بخلاف المتوقع أو ضد التقاليد “الحزبية” العسكريتارية المؤدلجة.

بالتالي، فإن قانون “أسرار الدولة” الذي توسع مؤخراً في أغراضه وأهدافه وبنوده، يدخل ضمن إجراءات عديدة قمعية، منها جدار الحماية العظيم، وأنظمة الائتمان الاجتماعي، وشبكات الكاميرات الرقمية المنتشرة في كل مكان والتي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وهي كلها أنظمة وسياسات وآليات رقابية تضمن طواعية الأفراد وتنميط سلوكهم وضبط أنشطتهم وردع أي محاولة خارج “النظام”، وفي النهاية تعميم السيطرة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية.

تفاصيل قانون “حماية أسرار الدولة”

لا تتوقف بكين عن فرض وتمكين سياسات “الأمن القومي”، وفق شبكة “سي إن بي سي” الأميركية، حيث دشن، مؤخراً، الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قانون “حماية أسرار الدولة”. وتنقل قناة “الحرة” عن الشبكة الإخبارية الأميركية، أن “القواعد الجديدة التي من المقرر أن تصبح حيز التنفيذ في الأول من أيار/ مايو المقبل، أدخلت المعلومات غير السرية المعروفة باسم أسرار العمل ضمن نطاق قانون حماية أسرار الدولة. ويعرف القانون أسرار العمل، على نطاق واسع بأنها معلومات من شأنها أن تؤدي إلى تأثير سلبي على صاحب العمل حال تسربها”.

وقبل نحو عامين، أعلنت كاري لام رئيسة السلطة التنفيذية لمنطقة هونغ كونغ، أن بكين تباشر سياساتها في إنهاء أي ممارسات تقوض “الأمن القومي”، وفق “فرانس 24“.

الرئيس الصيني شي جين بينغ – (رويترز)

وفي المدينة التي تحكمها لام، كانت هناك عقوبات صارمة على 4 جرائم، منها الانفصال أو الإرهاب أو التواطؤ مع قوى أجنبية، لكن تم اعتماد 40 جريمة في التشريع المحلي، بينما لم توضح بشكل تام طبيعة الجرائم والتي تبدو فضفاضة حتى يمكن تسييس الأحكام والاتهامات وتوسيع عمليات القمع من دون قيود قانونية، وقد ذكرت أن التشريع سيكون مرتبطاً بالمادة 23 من الدستور والذي يحدد جملة تهم، منها الخيانة وسرقة أسرار الدولة وغيرهما. وتنص هذه المادة أيضاً، على منع أي منظمة سياسية أجنبية من ممارسة أنشطة سياسية في هونغ كونغ، كما تنص على حظر كل منظمة سياسية محلية تقيم علاقات مع هيئات سياسية في الخارج.

ووفق الزميل البارز بمركز “بول تساي تشاينا”، التابع لكلية الحقوق بجامعة ييل، جيريمي داوم، فإن بند أسرار العمل هو “الأكثر إشكالية”. وفي تموز/ يوليو الماضي، دخل قانون معدل يوسع نطاق تعريف الصين للتجسس حيز التنفيذ، مما يعزز سلطة بكين في معاقبة المتهمين بما تعتبره تهديدات للأمن القومي، فيما تتضمن القوانين الصينية في الأساس عقوبات قاسية في حق المتهمين بالتجسس، تتراوح بين السجن مدى الحياة والإعدام في حالات قصوى.

وذكر داوم، أن “هناك خطر من أن تقوم الإدارات بشكل فردي بتعريف الأمور بحماس مفرط على أنها أسرار عمل. هذا يحد من الحق العام في المعرفة ويعرض الناس أيضاً للمسؤولية المحتملة”.

“جزء من جدارية سلطة بكين”

القانون الصادر في بكين لا يعدو كونه مجرد أمراً عرضياً أو مباغتاً، بل هو جزء من جدارية السلطة التي تحفل بسجل هائل من القمع الممنهج، والإدارة السياسية الصلبة الخشنة، وقد سبق لتقرير “هيومن رايتس ووتش” أن قالت فيه، إن “قمع الحكومة الصينية والقيود الاجتماعية التي فرضتها تكثفت في 2023، بعد أكثر من عقد من حُكم الرئيس شي جين بينغ”.

قالت مايا وانغ، مديرة الصين بالإنابة في “هيومن رايتس ووتش“: “الحكم القمعي للرئيس شي جين بينغ منذ أكثر من عقد واشتداد القيود الاجتماعية، لهما أثر متفاقم على الاقتصاد والمجتمع الصينيَّين. تقاعس الحكومة عن التصدي للانتهاكات الحقوقية يضفي غموضا على مستقبل المجتمع برمته، من الشباب إلى مديري الأعمال”.

تردف: “في هونغ كونغ، نسفت الحكومة الصينية الحريات في المدينة عبر اعتقال الناس تعسفاً بتهم متعلقة بالأمن القومي، وتقديم مكافآت مقابل اعتقال 13 ناشطاً ديمقراطياً ومشرعاً سابقاً منفيين، وتوسيع حملة الترهيب السياسي لتطال نشطاء هونغ كونغ خارج الحدود الصينية. في جميع أنحاء الصين، شدّدت الحكومة قبضتها على المجتمع المدني. وعانت الشركات الأجنبية، التي طالما كان مرحباً بها، في ظل استخدام الحكومة التعسفي للقوة. كما شكّلت إصلاحات مبهمة لقانون مكافحة التجسس ومداهمات الشرطة لمكاتب شركات عالمية وأجنبية قلقاً لهذه الشركات حول ما إذا كانت الممارسات التجارية المقبولة سابقاً أصبحت الآن تشكل جرائم. بعد عام من الإنهاء المفاجئ لسياسة “صفر كوفيد” أواخر 2022، لم يجر أي تحقيق في تعامل الحكومة الصينية مع الوباء. في هذه الأثناء، تعرض المواطنون والصحفيون الصينيون الذين نشروا عن الموضوع، وطالبوا بمحاسبة انتهاكات المسؤولين خلال الإغلاق العام، للمضايقات، والاحتجاز، والمحاكمة”.

في حديثه لـ”الحل نت”، يوضح المراقب الدولي السابق لدى الأمم المتحدة، الدكتور كمال الزغول، أنه قد جاء التعديل على قانون “أسرار العمل ” والذي سيصبح نافذاً في الأول من أيار/ مايو كرد فعل للتنافس الدولي وكرد فعل على الحمائية الاقتصادية التي انتهجتها الولايات المتحدة والدول الغربية للتمكن من تنفيذ مشاريع اقتصادية بسرية تامة في الداخل وفي الخارج، لكن هذا لا ينفي تجذر قضية السرية لدى النظام الحاكم القائم على الانغلاق معلوماتياً خاصة في الصناعات العسكرية النووية والصواريخ الباليستية وعلى الانفتاح اقتصادياً، ولذلك جاء القانون لتجنب سلبيات التنافس الاقتصادي والعسكري مع الولايات المتحدة.

ومن هنا، تم تعريف “أسرار العمل” على أنها معلومات من شأنها أن تؤدي إلى “تأثير سلبي” إذا تسربت. ويُبنى هذا التخوف على إمكانية تسريب أسرار الدولة في مجالات تتراوح بين صنع القرار الحكومي والقرار في “الحزب الشيوعي” إلى الأنشطة العسكرية والدبلوماسية، بالإضافة إلى التنمية الاقتصادية الصناعات التكنولوجية. يقول الزغول.

القانون ومعضلة منافسة الغرب

بالعودة إلى القانون، فقد ذكرت الشبكة الأميركية الإخبارية “سي إن بي سي”: “تصنف القواعد أسرار الدولة على أنها معلومات، إذا تم تسريبها قد تضر بأمن الصين ومصالحها في السياسة والاقتصاد والدفاع الوطني والشؤون الخارجية والتكنولوجيا، وغيرها من المجالات. فيما يأتي قانون حماية أسرار الدولة المحدث في الوقت الذي تشير فيه بكين وواشنطن بشكل متزايد إلى مخاطر الأمن القومي عند الإعلان عن قيود جديدة على الأعمال التجارية”.

وقال المدير الإداري لشركة “تينيو” الاستشارية، غابرييل وايلداو: “سيضيف القانون الجديد إلى الشعور العام بين مجتمع الأعمال الأجنبي بأن انشغال القيادة الصينية بالأمن القومي جعل بيئة العمل في البلاد أكثر صعوبة”. ولم توفر القواعد بشأن أنواع البيانات التي يمكن للشركات الأجنبية في الصين إرسالها خارج البلاد توضيحاً رسمياً بشأن ما يمكن اعتباره “بيانات مهمة”، وبالتالي تخضع لقيود التصدير.

بالعودة أيضاً إلى حديث الزميل البارز بمركز “بول تساي تشاينا”، جيريمي داوم، فإنه يقول: “بالنسبة للشركات الأجنبية، فإن الافتقار إلى الوضوح هو الذي سيظل يشكل خطراً غير محدد على ممارسة الأعمال التجارية في الصين”. وتابع أن، “إضافة أسرار العمل، وذكر المعلومات التي لا تصبح سرية إلا بعد تجميعها مع معلومات أخرى، كل ذلك يثير القلق من احتمال انتهاك المعلومات السرية عن طريق الخطأ”.

هذا القانون يثبت أن الصين تريد متابعة تنافسها مع الغرب بطريقة وبأخرى، ويجسد الإصرار على الصعود وتحقيق الأهداف التي تهم الأيديولوجية الصينية الشيوعية وينقل الصين بالتدرج في عدة مراحل وفق المراقب الدولي السابق للأمم المتحدة، كمال الزغول، وهي “متابعة المشاريع الاقتصادية مثل الطريق والحزام، مجابهة الحمائية الاقتصادية الأميركية والحد من العقوبات الاقتصادية المفروضة، إخفاء الأسرار عن المحيط الإقليمي وخاصة اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين ومعظم الدول الحليفة لأميركا في المحيط الهادئ، وهذا يعطي مؤشر أن أي تصعيد ضد تايوان سيعتمد على عنصر المفاجأة، لكن نقطة ضعف هذا القانون هي أن الشركات ستفسره بالطريقة التي تريدها مما سيحد من حرية العمل الاستثماري داخل الصين وسيقلّل من استقطاب الدول الإقليمية المستثمرة داخل البلاد”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات