كلّ ربيع، تتكرر مأساة “ضحايا الكمأة” في شرق ووسط سوريا، حيث يسقط عشرات القتلى والجرحى ومبتوري الأطراف أسبوعياً خلال بحثهم عن ثمرة الكمأة في البادية السورية الممتدة بين ريفي حلب وحماة. 

البعض يلقى حتفه جرّاء انفجار ألغام يُعتقد أن تنظيم “داعش” قد زرعها في السنوات السابقة، بينما يقضي آخرون على يد مجموعات مسلحة، غالباً ما يُتهم بها عناصر التنظيم نفسه، فيما يُعتقد أن “الميليشيات الإيرانية” وعناصر من “الجيش السوري” يقتلون جامعي الكمأة للحصول على المردود المالي الكبير الذي تجلبه هذه الثمرة، حيث يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد من 5 إلى 35 دولاراً، بحسب حجمها وجودتها.

في شباط/ فبراير الماضي، وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 18 مدنياً، بينهم أطفال، أثناء جمعهم لثمرة الكمأة، مشيرةً إلى أن أكثر من 15 مدنياً قُتلوا بسبب انفجار لغم أرضي، و 3 آخرين قضوا برصاصٍ مجهول المصدر، في مناطق تحت سيطرة “الجيش السوري” وحلفائه وتنظيم “داعش”. وكانت “الشبكة السورية” قد سجّلت في نفس الفترة من العام الماضي أكثر من 258 حالة وفاة لأسباب مماثلة، معظمهم من ضحايا جمع الكمأة.

اتّهمت عشائر عربية بشكل مباشر “الميليشيات الإيرانية” بقتل أبنائها، حيث تكبّدت عشيرة “بني خالد” العام الماضي خسائر فادحة بأكثر من 80 شخصاً بين قتيل وجريح. أصدرت قبائل في البادية السورية بياناً اتّهمت فيه “لواء فاطميون” الأفغاني بارتكاب مجزرة في منطقة الضبيات بريف السخنة شمال مدينة تدمر، أسفرت عن مقتل 75 شخصاً من أبنائها، معظمهم من قبيلة “بني خالد”، مؤكدين أن الضحايا كانوا مدنيينَ عُزّل يجمعون الكمأة. بعد أيام من مجزرة السخنة، هاجم مقاتلو “داعش” عناصر تابعين للدفاع الوطني في ريف الرقة الجنوبي كانوا يجمعون الكمأة، أغلبهم من ريف منطقة السفيرة بريف حلب الشرقي.

صراع نفوذ

مع حلول منتصف كانون الثاني/يناير من كل عام، يبدأ سكان المناطق المتفرقة في البادية السورية، وتحديداً في أرياف حمص، حماة، دير الزور، والرقة، الشروع في جمع الكمأة، وذلك إثر هطول الأمطار. هذه المناطق التي تمتد على مساحة شاسعة تُقدّر بحوالي 75 ألف كيلومتر مربع، شهدت في الآونة الأخيرة تحدّيات جديدة أفرزها الصراع الدائر على النفوذ العسكري والسيطرة الميدانية بين الفصائل المتنازعة في المنطقة، الأمر الذي أدى إلى وضع معقّد يصعب معه تحديد الجهة المسؤولة عن مقتل المدنيين.

لإتمام مهمة جمع الكمأة، يحتاج الجامعون إلى تأمين تصاريح أمنية والحصول على تطمينات من أطراف مختلفة في المعادلة الصراعية. ومع ذلك، حتى بتوافر هذه التصاريح، تبقى المخاطر قائمة، سواء كان ذلك بخطر الوقوع ضحية لانفجار ألغام أرضية، أو تعرّضهم لهجمات مسلحة، أو مواجهة مطالبات بإتاوات على المحاصيل التي يتمُّ جمعها. 

أحمد الجاسم، أحد سكان ريف حمص الشرقي، يعتبر أن جمع الكمأة يمثّل بمثابة “ضربة حظ” تنطوي على مخاطر كبيرة، مشيراً إلى الخطر الدائم الذي يتهدّدهم من الألغام والقنّاصينَ أثناء البحث في المناطق الصحراوية المكشوفة.

في شباط/ فبراير الماضي، وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 18 مدنياً، بينهم أطفال. ويوم أمس أفادت تقارير صحفية متقاطعة سقوط أكثر من 68 شخصاً بين قتيل وجريح وخطف أكثر من 11 شخصاً  أثناء جمعهم لثمرة الكمأة في منطقة كباجب، وهي منطقة تقع جنوب مدينة دير الزور بمسافة تقارب 30 كيلومتراً على طريق تدمر، تتميز بكونها بادية وخالية من السكان. جميع الضحايا كانوا من قبيلة “البوسرايا” في ريف دير الزور الغربي، حسب ما أفادت مصادر صحفية عدة. وقد شهد العام الماضي توثيق أكثر من 258 حالة وفاة، جاءت معظمها لأسباب مماثلة. العشائر العربية وجّهت اتهاماتٍ مباشرة لـ”الميليشيات الإيرانية” بقتل أبنائها، حيث تعرّضت عشيرة “بني خالد” لخسائر كبيرة تمثّلت في سقوط أكثر من 80 بين قتيل وجريح العام الماضي.

أحمد الجاسم، في تصريحات خاصة لموقع “الحل نت”، ذكر أنه في بعض الأحيان يكون الحظ حليفه ورفاقه في جمع كميات كبيرة من الكمأة، لكن سرعان ما يجدون أنفسهم مضّطرين لبيعها لـ”المسلحين” الذي رفض تحديد انتمائهم بأسعار زهيدة لتجنّب المواجهة. هؤلاء المسلحون، بدورهم، يعيدون بيع الكمأة بأسعار مرتفعة، ما يجعلهم المستفيدين الأكبر من هذه التجارة.

الصحفي فراس علاوي، يعتقد أن الصراع على النفوذ خلال موسم الربيع بين “الميليشيات المسلحة” و”الجيش السوري”، يسهم في ارتفاع عدد الضحايا، بالنظر إلى العوائد المالية الكبيرة من بيع الكمأة، حيث يمكن أن يصل سعر الكيلو الواحد إلى 500 ألف ليرة سورية (50 دولار)، ما يشير إلى الأرباح الضخمة التي تُجنى من هذه التجارة. يرى علاوي خلال حديثه مع “الحل نت”،  أن هذه الظاهرة أصبحت مألوفة ومتجذّرة في الثقافة المحلية على مرّ السنين خلال فترة الربيع، ومن غير المتوقع أن تتوقف في المستقبل القريب ما لم يتم السيطرة على الميليشيات الموالية لـ “حكومة دمشق” والقضاء على جيوب تنظيم “داعش” المتبقية في المنطقة.

تاجر يجلس بجوار الكمأة الصحراوية في سوق بمدينة الرقة شمال سوريا في 14 مارس 2023. (تصوير دليل سليمان / وكالة فرانس برس)

قتلى ومفقودين من “القوات الحكومية” 

على الرغم من التحذيرات الأمنية والقرارات الصادرة من “الفرقة الرابعة” التابعة لـ”الجيش السوري” في دير الزور، والتي تحظر التوجّه إلى البادية لجمع الكمأة، كما أكدت مصادر خاصة لـ”الحل نت”، إلا أن جمع الكمأة ما زال مستمرّاً بسبب غلاء أسعارها، على الرغم من سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى بصفوف “الجيش السوري” كل شهر. ناشطون سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة الشرقية تناقلوا أخباراً عن مقتل وجرح عدّة عناصر من قوات “الجيش السوري” في شباط/فبراير الماضي، جرّاء انفجار لغم أثناء جمعهم لثمرة الكمأة بريف دير الزور.

 مصادر صحفية “معارضة” وثّقت مقتل ثلاثة عناصر من ميليشيات “الدفاع الوطني” الموالية لـ”الحكومة السورية” بانفجار لغم أرضي أثناء تواجدهم في سيارة لجمع الكمأة في بادية حمص وسط سوريا.

وكانت صفحات عديدة إخبارية موالية لـ”الحكومة السورية”، قد صرّحت عن فقدان الاتصال بمجموعة تتراوح بين 7 إلى 12 عنصراً من ميليشيا “الدفاع الوطني” في بادية الزملة بريف محافظة الرقة الجنوبي، في حادثة اُتّهم فيها تنظيم “داعش” بالوقوف ورائها. كما أسفر هجوم نفّذه مجهولون بالأسلحة الرشاشة عن مقتل أربعة عناصر من الميليشيات المدعومة من “الحرس الثوري” الإيراني، استهدفت عربة عسكرية على طريق بلدة محكان بريف دير الزور الشرقي. وفي سلسلة من حوادث انفجار الألغام بسيارات عسكرية لقوات تابعة لـ “الجيش السوري”، قُتِل عنصران من تلك القوات إثر انفجار عبوة ناسفة زرعتها خلايا تنظيم “داعش” بسيارة عسكرية في بادية التبني بريف دير الزور الغربي.

مجهولون، يُرجّح أن يكونوا تابعين لـ “الميليشيات الإيرانية”، هاجموا مجموعة من الأهالي العاملين في جمع الكمأة ببادية بلدة المسرب بريف دير الزور الغربي، مما أسفر عن مقتل مدنيين اثنين. هذه الأحداث تحدث وسط صراع متعدد الأطراف يشتد مع بداية موسم جمع ثمرة الكمأة.

مجهولون، يُرجّح أن يكونوا تابعين لـ “الميليشيات الإيرانية”، هاجموا مجموعة من الأهالي العاملين في جمع الكمأة ببادية بلدة المسرب بريف دير الزور الغربي، مما أسفر عن مقتل مدنيين اثنين.

الصليب الأحمر يحاول

في ظل النزاعات المستمرة والصراعات المسلحة التي تعصف بسوريا، تبرز قضية الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب كواحدة من أخطر التحديات التي تواجه السكان المدنيين، خصوصًا الذين يجمعون الكمأة في البادية السورية. لذا، تقوم “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” في سوريا بدور فعّال في التخفيف من هذه المخاطر من خلال جهودها في مجال التوعية والمساعدة بنزع الألغام.

وفي تصريح خاص لـ”الحل نت”، قالت سهير زقوت، المتحدثة باسم “الصليب الأحمر” في سوريا إن وجود الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب يشكل خطرًا جسديًا ونفسيًا كبيرًا على الأفراد والمجتمعات بأكملها، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى آلام وصدمات طويلة الأمد، قد تستغرق سنوات للشفاء. ويؤدي ارتفاع عدد الضحايا إلى زيادة الأعباء على نظام الرعاية الصحية، الهش بالفعل في البلاد بسبب سنوات النزاع.

وأضافت زقوت: “على الرغم من أن ‘اللجنة الدولية’ ليست مصدرًا للإحصاءات في هذا المجال، إلا أننا نشهد بانتظام الحوادث الناتجة عن هذه المخلفات، مما يؤدي إلى مقتل وإصابة المدنيين.”

وأكدت  المتحدثة باسم “الصليب الأحمر” في سوريا على أن الحوادث غالبًا ما تعود إلى فئة الذكور، سواء البالغين أو الأطفال، لعدة أسباب منها المهنة كرعاة الأغنام والمزارعين وجامعي الكمأة. وترتفع وتيرة هذه الحوادث في محافظات دير الزور وحماة وريفها وريف حمص، مشيرة إلى أن المحافظات الأخرى ليست خالية منها.

وتابعت زقوت, أن هناك هناك حاجة لإجراء مسح شامل على مستوى البلاد للحصول على تقييم حقيقي لمدى انتشار التلوث بالأسلحة.” وأشارت إلى أن عدد الضحايا يزداد في المواسم الزراعية، مثل موسم الكمأة في بوادي حماة، حمص، ودير الزور، وموسم الزيتون في أرياف إدلب وحماة.

وختمت تصريحها بالقول انه في عام 2023، شارك ما يقارب من 270,000 سوري في 13 محافظة في جلسات التوعية التي ينفذها 13 فريقًا من “الهلال الأحمر العربي السوري” بدعم من “اللجنة الدولية للصليب الأحمر”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات