ليست حرب غزة بالنسبة إلى النظام الإيراني سوى تفصيل صغير في استراتيجيته البعيدة المدى، رغم أن ما يحصل من مواجهات بين “حماس” مدعومة من إيران ضد إسرائيل، يفيد المشروع الإيراني، ويعطيها المبرر لتحريك أذرعها العسكرية في المنطقة التي تقوم بمشاغلة إسرائيل من كل الجهات: “حزب الله” من لبنان، “الحرس الثوري” الإيراني من سوريا، والميليشيات العراقية من العراق، و”الحوثيين” من اليمن.
لا شكّ في أن هذا الأمر لم يأتِ كردّ فعل، إنما يبدو مخططاً له، رغم غسل النظام الإيراني يديه من جبهات المساندة التي تتولاه أذرعه العسكرية، وبالتالي لا يمكن أن يقتنع أي عقل بشري بادعاءات النظام الإيراني الذي يجيد الاختباء خلف الميليشيات التي يموّلها ويسلّحها ويدرّبها.
حرب غزة.. استراتيجية إيرانية
بعد خمسة أشهر من بدء الحرب بين “حماس” وإسرائيل، بلغت حصيلة الضحايا في قطاع غزة حتى الآن نحو 104.500 فلسطيني ما بين قتيل وجريح، حيث وأفادت وزارة الصحة الفلسطينية في القطاع أمس الخميس، بأن حصيلة القتلى منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ارتفعت إلى 31 ألفا و341 فلسطينيا، غالبيتهم من الأطفال والنساء. وأن عدد الجرحى زاد بدوره إلى 73 ألفا و134 جريحا.
الخبير العسكري العميد المتقاعد، ناجي ملاعب، يؤكد لـ”الحل نت”، فرضية إخفاء إيران نواياها الحقيقية وراء ميليشياتها، ويقول: “هذا ما نستنتجه من كلام المساعد والمستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة الإيرانية اللواء يحيى رحيم صفوي، متحدثاً عن حاجة إيران الى أن يكون لها مدى دفاعي استراتيجي لمسافة 5000 كيلومتر يشمل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وهذا تُرجم بتصعيد جديد من الميليشيات العراقية التي قصفت حيفا والحوثيون قصفوا إيلات وصعّدوا من هجماتهم في البحر الأحمر”.
من المتوقع أن تزداد هذه العمليات بواسطة الميليشيات التابعة لإيران، وواهم من يعتقد أن إيران تريد أن تتوقف الحرب في غزة، فهي تستفيد من إضعاف إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً، ومصلحتها أن تبقى حرب الاستنزاف هذه من دون أن تتورط بنفسها في أي حرب كبيرة.
الخبير العسكري العميد المتقاعد، ناجي ملاعب
وتعتمد إيران الاستراتيجية نفسها ضد الأميركيين بواسطة “الحوثيين” في البحر الأحمر، ولا شكّ في أن القادة الإيرانيين يراقبون من بعيد اضطرار الأميركيين والبريطانيين ببذل جهود كبيرة لكبح هجمات “الحوثيين” ولا يوفقّون بذلك، ويرجع ذلك لدعم إيران لهم عبر سفينة “بهشاد” التي تجمع معلومات استخباراتية عن سفن الشحن في البحر الأحمر وخليج عدن.
ولا يزال كلام اللواء يحيى الصفوي في جامعة الحسين يتردد في المحيط العربي الأكثر انزعاجاً من كلامه، فهو تحدّث عن حاجة إيران إلى زيادة عمقها الاستراتيجي إلى 5000 كيلومتر، معتبراً “أن البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط نقطتان استراتيجيتان ويجب أن تركز القوات البحرية والجوية للحرس الثوري على هاتين النقطتين لأن الحروب المستقبلية ستكون بحرية وجوّية”.
البحرين المتوسط والأحمر
عطفا على السياق السابق، يقول الأستاذ في العلوم السياسية في الجامعة “الأميركية” في بيروت، الدكتور هلال خشّان، لـ”الحل نت”، إن كلام الصفوي موزون، “بل لا يُمكن أن يُحمل على محمل الجد، وليس واقعياً، فالعمق الاستراتيجي الذي يريده الصفوي على مسافة 5000 كيلومتر، إذا اتجه به نحو الشمال يصل إلى روسيا، ونحو الشرق يصل إلى الصين، ونحو الغرب إلى أوروبا إسبانيا…إلا إذا كان يقصد المنطقة العربية!”.
ويلفت خشّان، إلى أنه إذا كان يعتبر عمقاً استراتيجياً بواسطة أذرعه العسكرية المنتشرة في المنطقة، فعليه أن يتوخى الدقة، لأن ثمة دول غير منسجمة مع مشروعه تفصله عنها مثل السعودية بينه وبين اليمن، وأكثر من دولة بينه وبين لبنان حيث يهيمن “حزب الله”، وبالتالي يعتبر كلام المسؤولين الإيرانيين أكبر من أفعالهم.
من جهته، يلفت الباحث في مركز “الشرق الأدنى للمعلومات”، الدكتور مجد خليل، إلى أن كلام الصفوي يتطابق مع أفعال إيران في المنطقة اليوم، وهي تسيطر بواسطة أذرعها العسكرية على أربعة دول مشرفة على البحرين الأحمر والأبيض المتوسط.
تتمثّل سيطرة طهران بالميليشيات الشيعية المسلحة التي تشارك في النزاعات الأهلية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وتتحالف إيران أيضاً مع حكومة دمشق، وتمتلك نفوذاً على القرار السياسي في هذه الدول، كما تتعاون مع حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين.
الباحث في مركز “الشرق الأدنى للمعلومات”، الدكتور مجد خليل
ويستمد “محور المقاومة” مشروعيته من القضية الفلسطينية التي غالباً ما ابتكر الشعارات من أجلها كإزالة اسرائيل من الوجود وغيرها، من دون أن يُترجم ذلك عندما سنحت له الفرصة عبر عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها “حماس”، بل أنكر معرفته بها، واكتفى بتحريك جبهات الميليشيات التابعة له في المنطقة لمشاغلة إسرائيل والولايات المتحدة واضعاً قواعد اشتباك وضوابط كي لا تتحوّل إلى حرب شاملة، تصل إلى إيران نفسها.
ويشير خليل، إلى أن إيران أعلنت على لسان كبار قادتها العسكريين مؤخراً أنها تتحكم بشكل كبير في البحر الأحمر والملاحة الدولية المارة في المنطقة وذلك بعد أن بدأ “الحوثيون” باستهداف السفن المتوجهة إلى إسرائيل في باب المندب، فامتلاك أوراق قوة في الإقليم يمكّن إيران من استخدام هذه الأوراق لخدمة مصالحها، إلى جانب تحقيق فوائد اقتصادية كثيرة من سيطرتها على هذه الدول.
ويعتبر خليل “أنّ وجود حزام من الدول حول إيران، فيها قوات مسلحة تدين بالولاء لها، أمر لصالح الأمن القومي الإيراني، إذ يوفّر الحماية لها ويجعل الأراضي الإيرانية بمنأى عن الاستهداف، ولو حدث أي استهداف فسيكون خارج الأراضي الإيرانية، وهكذا تستطيع إيران امتلاك نفوذ كبير ليس فقط على الدول التي تنتشر فيها ميليشياتها بل على الدول الأخرى، وهذا ما يُسمّى عمق استراتيجي إيراني”.
استقرار أم أكثر فوضى
بموازاة ذلك، يُجمع الخبراء العسكريين أن قصف الميليشيات الموالية لإيران على اسرائيل المتجدد، لا يؤثّر عليها، ولا يساهم في تخفيف الضغط على حركة “حماس”، فصواريخ الميليشيات العراقية التي وُجهّت إلى مطار بن غوريون، تصدّت لها القبة الحديدية، إضافة إلى عدم فعالية صواريخ “الحوثيين” نحو إيلات.
ويؤكد من تحدث لهم “الحل نت” أنفاً، أن هذه الميليشيات لم تعد تجرؤ على ضرب القواعد العسكرية الأميركية بعدما تلقّت إيران تهديدات أميركية جدّية بالرد على هذه الاعتداءات عبر قتل قادة ومسؤولين إيرانيين كبار.
من جهته، يرى الدكتور خشّان “أن سياسة الولايات المتحدة الحالية تتجنّب حرب واسعة مع إيران، والأخيرة لا ترغب بقتال أميركا مباشرة، لذلك تقتصر المواجهات على الأذرع العسكرية وواشنطن، علماً إن الإدارة الأميركية تراهن على التغيير الإيراني من الداخل”.
لكن كما يبدو أن الولايات المتحدة وحلفائها يواجهون صعوبات مع “الحوثيين” في البحر الأحمر، بل من الصعب أن تدمّر القدرات العسكرية “الحوثيّة”، وفق خشّان، بسبب التحصينات الصعبة في الطبيعة اليمنية المليئة بالجبال والوديان.
مع ذلك، لا يبدو أن “الحوثيين” قادرون على تعطيل الملاحة بنسبة كبيرة في البحر الأحمر، وربما مصر الأكثر تضرراً من الموضوع، وإغراقهم للسفينة الغربية لوّث بحرهم وبيئتهم. ورغم أن حرب غزة أخّرت حلّ المسألة اليمنيّة، إلا أنها هناك مشروع كبير لليمن في المستقبل يقوم على الفيدرالية.
ويشرح خشّان، أن التأثير الإيراني في المنطقة بلغ حدوده القصوى، وسيبدأ بالتراجع قريباً، ولا سيما بعد حرب غزة، لأن المنطقة آتية إلى مرحلة سلام يتمثّل بالتطبيع بين السعودية وإسرائيل، وهناك مشروع طريق اقتصادي سيمر في مرفأي حيفا ولارنكا، ومن الصعب أن تجد إيران لها مكاناً في هذا المشروع، لأنها دولة أيديولوجية ولا يمكنها أن تكون دولة عادية مسالمة.
ختاماً، قد يكون لإيران مساحة زمنيّة لزعزعة الاستقرار وتحقيق المكاسب عبر ذراعها العسكرية في هذه المرحلة، إلا أن الأمور قد تتغيّر مع إنتهاء الانتخابات الأميركية وبدء عهد رئاسي جديد، سيتعامل مع المشروع الإيراني على نحو أكثر حزماً وقوة، بحيث تكون المعادلة: إذا حرّكت إيران أذرعها العسكرية ضد الولايات المتحدة ستوجّه لها ضربات مباشرة في العمق، وهذا ما يضع حداً لتماديها في سياسة الفجور والوقاحة في الشرق الأوسط.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
بل هو مادة جيدة. وقد عدد بعض نقاط الضعف في النظام الإيراني، وهي بالطبع أكثر من ذلك بكثير. وعلى وجه الخصوص، فإن معظم الكتاب العرب لا يهتمون بالعنصر الداخلي لإيران أو يعيرون القليل من الاهتمام. كل تفاعلات النظام الإيراني ترجع إلى أنه يواجه مجتمعا يغلي ويغلي، وقابل للانفجار. ومن الواضح أن النظام الإيراني، الذي كان خائفًا من إعادة إطلاق الانتفاضة التي استمرت عدة أشهر في عام 2022، أطلق مشروع غزة. كما كان هذا النظام يواجه أزمة انتخابات مجلس الخبراء ومجلس الشورى وأزمة خلافة خامنئي التي من المرجح أن تموت، ولكل هذا كان يبحث عن حل من الخارج، فبدأ الحرب. في المنطقة من شأنه أن يلفت الانتباه إلى نفسه، ويمكن لهذا النظام أن يقمع الداخل بيد مفتوحة. وكان عدد عمليات الإعدام هذا العام أعلى بكثير من الأعوام السابقة. تم إعدام العديد من السجناء السياسيين. وتمت اعتقالات جماعية. بسبب الفساد المؤسسي والمنهجي، فإن النظام الإيراني غير قادر على حل أي مشاكل للمجتمع الإيراني، وخاصة بسبب وجود مقاومة منظمة قوية مثل منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، فهو معرض بشدة للإطاحة به. تصریحات رحيم صفوي فيما يتعلق بالعمق الاستراتيجي 5000 كيلومتر لیس عدا حاجة النظام لإعطاء الحافز والمعنويات لقوات الحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج التابعة له، والتي على الرغم من خطط خامنئي للاستفادة من حرب غزة، تلقت العديد من الضربات ولم ينجح في تحقيق النتيجة المرجوة. ومعرفة هذه المكونات والتعامل معها أهم من التعامل مع التطورات الإقليمية التي لها مكانها بالطبع. شكرًا