انبعاثات تنظيم “داعش” الإرهابي على خلفية الأحداث الأمنية التي شهدتها منطقة دير الزور شرق سوريا بعد تمرد مجموعة من المسلحين المحليين ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، تكشف عن أهداف ومصالح تتحرى أطراف بعينها إلى تحقيقها، الأمر الذي ظهر مع رأس التنظيم الإرهابي الذي يطل ويسعى للثأر والانتقام من “قسد”.

ثمة حاضنة شعبية ممتدة في ريف المنطقة شرق الفرات وبادية مترامية الأطراف، تتواجد فيها قوى معادية وعلى النقيض من “قوات سوريا الديمقراطية”، وهذه الحاضنة قد تجد في التنظيم المسلح والمتشدد أداة مؤقتة لحلحلة الوضع الأمني وتفكيك الروابط التي شكلتها “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا بين مختلف قوى المنطقة من الكُرد والعرب والآشوريين والسريان فضلا عن المسيحيين والمسلمين والإيزيديين في صيغة ديمقراطية، للتعايش بين أبناء المنطقة والتمثيل المجتمعي والسياسي المرن بدون قيود أو تعسّف.

في ما يبدو أن انتهاء العمليات العسكرية في دير الزور واستعادة الاستقرار الأمني بعد التوترات ووقف الفوضى الأمنية، يجعل “الإدارة الذاتية” أمام فرصة لعبور تحديات أخرى ممثلة في ترميم أي فجوات صنعتها الأحداث ثم تشكيل جدران صلبة لمنع تسلل الإرهابيين من المنطقة أو محاولة توظيف الأطراف الخارجية لهم.

فرصة لظهور تنظيم “داعش”

أواخر آب/أغسطس الماضي أطلقت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي التابعة لـ”الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، حملة أمنية تحت مسمى “تعزيز الأمن” في دير الزور شرق سوريا متعددة الأهداف؛ حيث كان الهدف الأساسي منها ملاحقة خلايا تنظيم “داعش” الإرهابي، التي نفذت أكثر من 60 عملية إرهابية استهدفت بها “قسد” وكذلك بعض وجهاء العشائر والمدنيين في المنطقة وموظفي المؤسسات الخدمية.

عنصران من “قسد” في بلدة ذيبان بريف دير الزور شرق سوريا السبت “إ.ب.أ”

إضافة إلى ملاحقة “قسد” لتجار المخدرات الذين يتسللون من الجانب الغربي لنهر الفرات في سبيل الاتجار بها في مناطق شمال وشرق سوريا، بينما الهدف الأخير من الحملة كانت لملاحقة الذين ارتكبوا الجرائم بحق الأهالي. وفي الأيام الأولى من بدء العملية الأمنية تم إلقاء القبض على 10 عناصر من تنظيم “داعش” بحسب تصريح رسمي سابق من مدير “المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية”، فرهاد شامي، لموقع “الحل نت”.

كان واضحا أن أطرافا داخلية وخارجية، لها دورٌ في التوترات الأمنية الأخيرة التي شهدتها منطقة شرق الفرات في سوريا. وتؤكد هجمات فصائل “الجيش الوطني السوري” الموالية لأنقرة على مناطق تابعة لـ”قسد” أنها جاءت لتأجيج تلك المواجهات وبالتالي إضعاف “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة؛ حيث قامت الفصائل السورية الموالية لتركيا بقطع الطريق الدولي “إم 4″ جنوب تل أبيض، فضلا عن وقوع أحداث عنف في قرية الطويل غربي التابعة لريف الحسكة، وقصف القوات التركية والفصائل الموالية لها قرية عرب حسن في ريف منبج الشمالي. ولم يُخفِ ما يعرف بـ”الجيش الوطني” موقفه المعادي واصطفافه ضد “قسد” محرّضا أبناء العشائر العربية الانضمام لصفوفه.

إلى جانب محاولات المنصات الإعلامية التابعة للحكومة السورية، الإشارة إلى أن الصراع هو عربي كُردي بحيث يتم تفخيخ الأزمة بذرائع قومية واهية، متجاهلين قصدا وجود ممثلين عن مختلف مكونات المنطقة في “قسد”، فضلا عن تسلل مسلحين يتبعون لـ”الدفاع الوطني السوري” الموالي للحكومة السورية  إلى مناطق شرق الفرات حيث تواجد “قسد”، والعثور على أسلحة إيرانية داخل مستودعات تابعة للمسلحين الملحيين الذي هاجموا “قسد”.

في ضوء ذلك، برزت مخاوف أميركية من أن يستغل تنظيم “داعش” الإرهابي هذه التوترات الأمنية لصالحه، خاصة بعد قيام سجناء من التنظيم بتنفيذ عصيانٍ في السجن الصناعي “غويران” بمحافظة الحسكة، مما دعا القوى الأمنية لإغلاق جميع الطرقات في أحياء المدينة، وفرضت حظرا للتجوال في منطقتي الشدادي والهول، حيث يقع مخيم “الهول” الذي يضم عوائل مقاتلي التنظيم، بالإضافة إلى تردّد معلومات عن تنفيذ التنظيم لعملية هروب مشابهة للعملية الكبرى التي جرت مطلع العام الماضي.

لذلك، أعلنت السفارة الأميركية في دمشق عن لقاء عقده مسؤولون مع كلّ من “قسد” ووجهاء عشائر، اتُّفق خلاله على ضرورة خفض العنف والحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، لقطع الطريق على تنظيم “داعش” الذي يستغل أي فرصة لشنّ هجمات تكتيكية.

الباحث المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة والإرهاب الدولي، منير أديب، يقول لموقع “الحل نت” إنه لا شك أن حالة الفوضى التي شهدتها شرق الفرات مؤخرا، حيث المعارك التي دارت بين العشائر العربية و”قوات سوريا الديمقراطية”، والدعم الذي قد تلقّته تلك العشائر لأشخاص محسوبين على التنظيم الإرهابي أو من بعض الخلايا التابعة لهذا التنظيم يؤثر على جهود مكافحة الإرهاب في هذه المنطقة، لا سيما وأن تنظيم “داعش” يريد توجيه ضربة انتقامية ضد قوات “قسد” لأنها نجحت في مواجهة هذا التنظيم والقضاء عليه على الأقل في شمال وشرق سوريا.

استثمار “داعش”

كان التنظيم يستثمر في المعارك الأخيرة بشرق الفرات، حيث كان له مصلحة في تغذية هذه الفوضى، من أجل تنفيذ هجمات تكتيكية متعددة ضد “قسد” وبعض النقاط الحيوية في المنطقة، وخاصة مصادر الطاقة. ومع ذلك، كانت قدرة “قوات سوريا الديمقراطية” على إنهاء العمليات العسكرية في دير الزور وبدء حملات تمشيط واسعة النطاق، قد قوضت مساعي التنظيم للظهور، رغم أن احتمالية عودة انبعاثه مجددا أمرٌ ممكن، بالتزامن مع تربّص عدة جهات داخلية وخارجية ضد إدارة “قسد” وقوات التحالف الدولي في المنطقة، طبقا للباحث.

تنظيم “داعش” صعّد من وتيرة عملياته في مدينة الرقة أثناء المعارك التي جرت بين العشائر و”قسد” خلال الأيام الماضية، حيث استهدفت حلاياه سيارة عسكرية لـ”قسد” في منطقة المزارع بريف الرقة الغربي، وكذلك فجّرت عبوة ناسفة بسيارة عسكرية، أدت لفقدان عنصرين لحياتهما، وفق تقارير صحفية.

في الـ 31 من آب/ أغسطس الفائت، قالت القيادة المركزية الأميركية في بيانٍ تعليقا على أحداث دير الزور، أنها لا تزال تركز على العمل مع “قسد” لضمان الهزيمة الدائمة لـ”داعش”، دعما للأمن والاستقرار الإقليميين، موضحة أن الانحرافات عن العمل في مواجهة “داعش” ستؤدي إلى عدم الاستقرار وتزيد من خطر عودة ظهور التنظيم المتطرف.

أثناء اندلاع الاشتباكات بين “قسد” والعشائر العربية، قالت وكالة “أسوشيتد برس” إن ذلك قد يشكل فرصة للجماعة المتطرفة للظهور مرة أخرى. ويقول مايلز كاجينز الثالث، أحد كبار زملاء معهد “نيو لاينز”، إن هذه الاشتباكات توفر فرصة لظهور خلايا “داعش” المتواجدة في وادي نهر الفرات.

تقول بعض المصادر المحلية، إن عناصر من التنظيم كانوا ضمن المقاتلين المحليين الذين استهدفوا نقاطا عسكرية لـ”قسد” في ريف دير الزور الشرقي، إضافة إلى إطلاق التنظيم حملة “فكو العاني” لدعم النساء والعائلات في مخيمي “الهول وروج”، بالإضافة إلى سجون التنظيم في شمال شرقي سوريا.

قوات سوريا الديمقراطية في ريف دير الزور بشرق سوريا يوم 4 أيلول/سبتمبر الحالي “أ.ب”

كذلك، أشار المركز الإعلامي لـ”قسد” إلى تواجد عناصر لتنظيم “داعش” الإرهابي بين القتلى، من خلال شارات يحملونها على ملابسهم، وذلك عقب شنّ هجوم للقوات التركية وفصائل “هيئة تحرير الشام” الموالية لأنقرة على “قسد” في ريفي منبج الشرقي والغربي. وقد انتشر فيديو لمجموعة يقال إنها من “داعش”، توعّدوا فيه قوات سوريا الديمقراطية وهددوا بالتدخل في مواجهات شرق الفرات، واقتحام مخيم “الهول”، وتحرير رفاقهم من السجون شرقي سوريا.

خلاف أيديولوجي

في المقابل، يشير الباحث المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة إلى تعدد وتنوع مكونات “قوات سوريا الديمقراطية”، من أكراد وعرب وآشوريين وسريان، إضافة إلى مسيحيين ومسلمين وإيزيديين. وهذا قد يشكل خلافا أيديولوجيا لـ “داعش”.

لذلك، فإن لدى هذا التنظيم الإرهابي مشكلة حقيقية مع هذه المكونات الكُردية أو حتى غير المسلمة، التي تمثل الأرضية السّكانية في شرق الفرات، وبالتالي فإن هذا الدعم غير المباشر الذي كان يقدمه التنظيم للعشائر العربية في مواجهتها ضد “قسد” يؤثر بشكل كبير على جهود مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه في المنطقة، وفق ما يراه الباحث المتخصص في شؤون الحركات المتطرفة.

بالتالي يرى أديب، أنه كلما اجتمعت “قسد” والمكونات الأخرى في المنطقة لمواجهة “داعش”، وكلما تقاربت وجهات النظر بينهما، فضلا عن تبدد الفتنة التي حدثت أو جددها البعض في شرق الفرات، كلما زاد التعامل مع “داعش” ونجحت “قسد” بالتعاون مع التحالف الدولي للقضاء على التنظيم الأكثر تطرفا.

هذا وأعلنت “قسد” يوم الجمعة الماضي، انتهاء العمليات العسكرية الأساسية في دير الزور ومقتل 25 من عناصرها و29 مسلحا و9 مدنيين خلال العملية الأمنية. وأشار بيان رسمي لـ”قسد” إلى أن العملية استهدفت بدرجة أساسية خلايا تنظيم “داعش”، واتهم الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة السورية بتوجيه الأحداث لمنحى آخر.

البيان نوّه إلى أن حكومة دمشق أدخلت عناصر مسلحة إلى قرى دير الزور من الضفة الغربية لنهر الفرات، ودمجها مع خلايا مسلحة تابعة له تحت مسمى “جيش العشائر”، مبيّنة أن قواتها لم تستخدم الحزم والعنف خلال سير العملية في أيامها الأولى، إلا أن عناصر مسلحة تمادت واعتدت على المؤسسات الخدمية مما شكّل خطرا على الأهالي، مضيفة أنها تدخلت بناء على مناشدة من الأهالي من أجل إنهاء حالة الفوضى وتخريب المؤسسات. واتهم البيان الحكومتين السورية والتركية، بخلق فتنة في سوريا وإعطاء أبعاد خطيرة للأحداث، وخاصة في منطقة دير الزور.

في غضون ذلك، كشف القائد العام لقوات “قسد” مظلوم عبدي، عن إصدار عفو عام أُفرج بموجبه عن مئات المقاتلين المحليين الذين شاركوا في المواجهات المسلحة شرق سوريا، لكن العفو استثنى المقاتلين المرتبطين بالحكومة السورية الذين انضموا إلى مسلحي العشائر، وأُلقي القبض عليهم في مناطق سيطرة “قسد”.

إجمالا، إذا لم تقم “قسد” بالتعاون مع التحالف الدولي بمعالجة وسد الفجوات والاختلالات الأمنية في المنطقة بشكل حازم، فإن حدوث توترات من هذا النوع سيتكرر، خاصة وأن الأطراف التي غذت المعارك الأخيرة في المنطقة تسعى بين الحين والآخر إلى خلق توترات أمنية متعددة الأشكال، من خلال اتباع استراتيجيات عدة، بما في ذلك تغذية خلايا “داعش” لتحقيق أهداف تكتيكية، والتي من كل بدّ تشكّل خطرا كبيرا على المنطقة وشعوبها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات