لم تكن الأحداث التي شهدتها دير الزور شرق سوريا سوى لحظة تفلت أمني مقصودة لجهة تحقيق غرض بعينه، وهو حلحلة الوضع الميداني بالمنطقة الذي يقع تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

لكن هذه المحاولة الفاشلة سقطت في فخ هائل بينما كشفت عن الأطراف المتورطة في تحريكها وتفجير الأحداث عن عمد. وذلك عبر اتباع أدوات واستراتيجيات عدة، بغية إثارة عنصر التحريض ما بين العشائر العربية ضد (قسد)، واتباع سياسات تقليدية تبعث بصراع هويّاتي بين العرب والكُرد، الأمر الذي يهدف إلى تحقيق ما تطمح إليه هذه الأطراف منذ فترة طويلة وهو إضعاف “قسد” والوجود الأميركي في مناطق دير الزور، وإن كان على حساب كافة أبناء مناطق شمال وشرق سوريا.

الاستثمار السياسي في دير الزور

حاولت المنصات الإعلامية لدى الحكومة السوية كما الجهات المحسوبة على المعارضة السورية المدعومة من تركيا، مثل “الائتلاف السوري المعارض” في أنقرة، الإشارة إلى أن الصراع هو عربي كُردي بحيث يتم تفخيخ الأزمة بذرائع قومية واهية متجاهلين قصدا وجود ممثلين عن مختلف مكونات المنطقة في “قسد”، بداية من العرب مرورا بالكُرد وانتهاء السريان والآشوريين.

في الواقع، كان الصراع المؤقت الذي وصفته أجهزة دعائية تابعة للحكومة في دمشق بأنه “ثورة” رغم أنه لم يحمل ثمة مطالب سياسية أو حقوقية، كما لم يتضمن مطالبات “شعارات” واضحة ومباشرة، يقع في حيز الاستثمار السياسي من جانب أطراف متفاوتة. وهنا برز دور مشبوه لأطراف إعلامية قريبة من دمشق قامت بدور تحريضي وتجييشي وأعلنت الدعم الكلي التام للعشائر العربية رغم توصيفها المدنيين في احتجاجات السويداء السلمية جنوبي سوريا بأنهم “مرتزقة”.

لم يختلف الأمر لدى وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، الذي صرح علانية بأن دمشق تدعم العشائر العربية التي تخوض قتالا ضد “القوات الموالية للولايات المتحدة”، على حد تعبيره في ريف دير الزور، في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية ” في شمال وشرق سوريا.

فيما نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية، عن المقداد قوله إن “الوجود الأميركي سينتهي بفضل ما يبذله أهالي دير الزور والحسكة، جنبا إلى جنب مع الجيش السوري والحلفاء”، لافتا إلى أن ما يجري في الشرق السوري “لا يحتاج إلى بيانات رسمية، لكون المواطنين السوريين يخوضون نضالا وطنيا باسم جميع السوريين، في معركتهم ضد التدخلات الأجنبية والمسلحين الموالين لها”.

يوم الثلاثاء الماضي، ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أن الاشتباكات التي بدأت يوم 27 آب/أغسطس الماضي أودت بحياة 90 شخصا من طرفي القتال، وجاءت هذه الأحداث بعد اعتقال ومن ثم عزل “قسد” لقائد “مجلس دير الزور العسكري، أحمد الخبيل الملقب بـ”أبو خولة”، وعدد من عناصر المجلس.

بينما أعلنت “قسد” يوم أمس الأربعاء، إعادة سيطرتها الكاملة على بلدة ذيبان في ريف دير الزور الشرقي، مشيرة في بيان مقتضب إلى أن البلدة أصبحت خالية من المسلحين الذين فروا إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية حيث أتوا منها سابقا.

المرصد السوري أكد أن “قسد” سيطرت بالفعل بالكامل على ذيبان، التي وصفها بأنها “آخر معاقل المسلحين المحليين”، بعد انسحابهم من البلدة، مشيرا إلى أن قوات سوريا الديمقراطية تجري عمليات تمشيط للبلدة، وتفكيك العبوات الناسفة وتفتيش بعض المنازل بحثا عن المسلحين.

دور إيران في دير الزور

تقول “قسد”، إن مسلحين يتبعون لـ”الدفاع الوطني السوري” الموالي للحكومة السورية دخلوا إلى مناطق سيطرتها في شرق الفرات، وشاركوا في قتالها، حيث أعلنت في بيانات لها العثور على أسلحة إيرانية ببلدات بريف دير الزور الشرقي.

المتحدث الإعلامي باسم “قسد” أشار إلى أنه تم القبض على 4 مسلحين يتبعون لـ”الدفاع الوطني” ببلدة ذيبان بدير الزور شرق سوريا.

كما وتبادلت “قسد” والعشائر العربية الاتهامات بشأن أسباب اندلاع المواجهات بين الجانبين، حيث إن “قسد” حمّلت الحكومة السورية وإيران مسؤولية إثارة العنف في المنطقة لتحقيق مكاسب وفق ما قالت قيادتها.

يقول قادة “قسد” إن قائد “مجلس دير الزور العسكري” أراد الاستقلال بقراره وفرض قوانينه الخاصة على المنطقة بالقوة. وهو وعناصره من أبناء العشائر وليسوا من خارج المنطقة، لكن هذا الاستقلال يعود إلى ارتباطات ومصالح خارجية، ولا سيما المصالح الإيرانية، وبالتالي حصلت هذه المواجهة مع “قسد”.

طبيعة الدور الإيراني في دير الزور والأحداث الأخيرة التي جرت فيها، يعود لأمرين؛ الأول الواجهة الاجتماعية والثقافية والدينية ومحاولة فرض المذهب الشيعي على أبناء المنطقة، بغية التمدد الإيراني شرق سوريا من خلال تصدير هذه الأيديولوجية إلى المنطقة الشرقية، وفق تصريحات عسكرية من “قسد” لوسائل الإعلام.

العديد من المصادر المحلية تقول إن إيران استعانت ببعض الأشخاص المنتمين إلى العشائر ويعملون لديها، للتقرب من العشائر والعشائر الموالية لدمشق بهدف تحريض العشائر ضد قوات سوريا الديمقراطية، بهدف إضعاف الأخيرة، وإخراج القوات الأميركية، ومن ثم التوسع نحو مناطق شرق الفرات، وتحديدا حقل “العمر” النفطي وحقل “كونيكو” للغاز. وانكشف ذلك مع تنامي التوترات الأخيرة التي شهدتها شرق دير الزور، من حيث الهجمات المتفرقة التي نفذتها ميليشيات طهران ضد نقاط تابعة للتحالف الدولي، وتحديدا في منطقة التنف عند المثلث الحدودي السوري العراقي الأردني.

لعل التحركات الإيرانية الأخيرة عبر أسلحتها وتنفيذ هجمات ضد القواعد الأميركية كانت البداية. ثم جرى تحريك جماعة أبو خولة وبعض شخصيات عشائرية تابعة لها مثل نوافق البشير أحد شيوخ عشيرة “البكارة” للعمل على التحريض ضد الكُرد وتصوير القضية وكأنها صراع كُردي عربي، لكنه فشل في ذلك. وبكل تأكيد إيران وحكومة دمشق يقفون بقوة خلف هذه الأحداث وبتوجيه روسي في صراعه مع الجانب الأميركي وهي في السابق إحدى مخرجات “أستانا” بين الروس والإيرانيين والأتراك وتحالفهم ضد الوجود الكُردي وكذلك الوجود الأميركي والداعم لـ”قسد” في شمال وشرق سوريا، وفق العديد من المحللين لموقع “الحل نت”.

تدعيما لهذه الفرضيات، يرى مراقبون أن أطرافا عدة تستثمر في استمرار المعارك الدائرة شمال شرقي سوريا. ومع اتساع نطاق القتال في هذه المنطقة الحساسة، ثمة أطرافٌ عدة لديها مصلحة في تغذية هذه الفوضى، كأنقرة التي تصنّف المقاتلين الأكراد تنظيما “إرهابيا”، ودمشق التي ترفض “الإدارة الذاتية” وتأخذ على الأكراد تحالفهم مع واشنطن، ولا ننسى تنظيم “داعش” الإرهابي، فضلا عن استفادة كل من إيران وحتى روسيا من هذا القتال، حيث إن جميع هؤلاء لديهم مصالح في ضرب النظام الحالي.

بداية أحداث دير الزور

اندلع القتال في ريف دير الزور الشرقي، الأسبوع الماضي، بعد أن اعتقلت “قسد”، أحمد الخبيل، والذي كان يرأس “مجلس دير الزور العسكري” التابع لها.  ومن ثم استولى مقاتلو العشائر على عدة نقاط تفتيش وهاجموا دوريات في عدة بلدات تابعة لـ”قسد”، بما في ذلك الصبحة والبصيرة وذيبان والشحيل بالقرب من حقل “العمر” النفطي على مقربة من مكان تمركز القوات الأميركية.

من جانبها، اتهمت قوات سوريا الديمقراطية في بيان، من وصفتها بأطراف وقوى خارجية، باستغلال الاشتباكات الدائرة في دير الزور بينها والعشائر العربية، معتبرةً أن محاولات إظهار الحرب على أنها بين العرب والكُرد لا تهدف إلا لخلق الفتنة.

بعد إعلان “قسد” انتهاء العمليات في دير الزور، ذكر الناطق باسم “قسد”، فرهاد شامي، عبر منصة “فيسبوك”، ليلة أمس الأربعاء، أن إبراهيم الهفل، شيخ عشيرة “العكيدات” فر باتجاه مناطق الحكومة السورية، بينما قال “المرصد السوري لحقوق الإنسان” إنه متخف.

بينما تداولت شبكات محلية تسجيلا مصورا، وأشارت فيه إلى أن أنه خاص بعشيرة “العكيدات”، وظهر فيه عدد من وجهائها وهم يعلنون تعيين راغب الهفل شيخا بالإنابة لحين عودة إبراهيم الهفل.

مصادر خاصة أكدت لـ “الحل نت” أن إبراهيم الهفل غادر بالفعل ريف دير الزور، عبر وساطة أحد مشايخ “العكيدات” الموالي لحكومة دمشق، وأنه تم نقل الهفل إلى منطقة البوكمال غربي الفرات، حيث التقى بقوات تابعة للجيش السوري وميليشيا “الحرس الثوري الإيراني” المتواجدة في تلك المنطقة.

محافظة دير الزور ذات غالبية عظمى عربية وتنتشر فيها عشرات العشائر العربية. وتسيطر “قسد” على الضفة الشرقية لنهر الفرات الذي يُقسم المحافظة، فيما تتمركز قوات حكومة دمشق ومقاتلون موالون لها وميليشيات موالية لإيران على الضفة الغربية.

كما وتتواجد قوات التحالف الدولي، وأبرزها القوات الأميركية، في المنطقة، بينما تسيطر قوات حكومة دمشق على الضفة الغربية للفرات التي تُعد أبرز مناطق نفوذ إيران والمجموعات الموالية لها من جنسيات متعددة، عراقية وأفغانية وباكستانية، في سوريا. وتنشط في المحافظة خلايا تنظيم “داعش” التي تنفّذ بين الحين والآخر هجمات تستهدف “قسد” وأحيانا قوات حكومة دمشق.

مع إعادة سيطرة “قسد” على كامل مناطق ريف دير الزور والبالغ عددها نحو 125 بلدة، فضلا عن مساعي “قسد” بالتعاون مع التحالف الدولي لمعالجة بعض الأمور ونقاط الخلل والبدء بالحوار مع أبناء المنطقة ووجهاء العشائر، يبدو واضحا أن محاولات دمشق وطهران تتعثر مجددا في تفجير شرق الفرات، خاصة وأن الجانب الأميركي يدرك جيدا أنه هو الطرف المستهدف خاصة بعد الأحداث والتوترات الأخيرة والحديث عن خطة أميركية لقطع الطريق بين بغداد ودمشق، خاصة في المثلث الإيراني بين الميادين – البوكمال والتنف، واحتمال القيام بعمليات عسكرية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات