جهود عديدة تبذلها القوى الكبرى لخصم نفوذ بعضها، من إفريقيا التي شهدت انقلابات عدة خصمت من النفوذ الفرنسي فيها لصالح روسيا، إلى دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، حيث تسعى الدول الغربية الأطلسية لسحبها خارج النفوذ الروسي. وفي هذا المضمار، تتقدم أرمينيا على سواها من الدول المأمول استقطابها غربيا. 

في خطوة لافتة، أصدّر البرلمان الأوروبي قرارا يدعم طلب أرمينيا المحتمل لعضوية الاتحاد الأوروبي، نصّ منطوقه: “بحال تقدمت أرمينيا بطلب حصول على وضع المرشح، فقد تمهد الطريق لمرحلة تحولية في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وأرمينيا”. وقد نال القرار إشادة عاجلة من قبل رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، الذي شدّد على عزم حكومته “مواصلة العمل من أجل زيادة تعميق وتطوير العلاقات بين أرمينيا والاتحاد الأوروبي”.

القرار أعلاه لم يأت من فراغ، ففي وقت سابق، كشف وزير الخارجية الأرميني، أرارات ميرزويان، عن دراسة بلاده خيار التقدم بطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي، ضمن مساعي تعزيز علاقاتها بالغرب وسط توتر علاقتها مع حليفتها التقليدية روسيا. قال أرارات حينها: “تجري مناقشة العديد من الفرص الجديدة إلى حد كبير في أرمينيا هذه الأيام، ولن يكون سرا إذا قلت إن ذلك يشمل العضوية في الاتحاد الأوروبي“.

إذ كان بمقدور أرمينيا، وأذربيجان أيضا، سلوك مسار أوروبي قوي على غرار جورجيا وأوكرانيا، حسب موقع “Geopolitical Monitor“، إلا أن صراع ناغورنو كاراباخ مثّل حاجزا فعالا أمامهما. إلى جانب رفض روسيا الصارم للتوجهات الأوروبية والأوروبية-الأطلسية لدول الفضاء السوفيتي، بالنظر لموقف موسكو تجاه تيار التغريب في جورجيا وأوكرانيا. فالتوجه الأوروبي لدول الفضاء السوفيتي غالبا ما ينطوي على بعد أوروبي-أطلسي أو عبر الأطلسي. لذا، تنظر موسكو لتوجه دول ما بعد الاتحاد السوفيتي تجاه أوروبا على أنه أوروبي-أطلسي معاد لروسيا.

عشيرة كراباخ

على إثر ثورة ملونة على رئيس الحكومة آنذاك، سيرج سركيسيان عام 2018، المنتمي لعشيرة كاراباخ الموالية لروسيا، والتي تعتبر الأخيرة ضمانا لضم أرمينيا خُمس أذربيجان إلى أجل غير مسمى، تولى باشينيان رئاسة الحكومة في أرمينيا، متبنيا سياسة خارجية أكثر توازنا، تتمثل بالاندماج مع أوروبا دون الطلاق مع موسكو. خلالها، أجرت بريفان مناورات عسكرية مشتركة مع واشنطن، ووسّعت علاقاتها ببروكسل، وانضمت مؤخرا للمحكمة الجنائية الدولية، بما يعني أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيخاطر بتعرضه للاعتقال حال زيارته أرمينيا. مع ذلك، من الصعب للغاية سحب أرمينيا من منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، اللذان تقودهما روسيا.

بجانب ذلك، لدى موسكو قواعد عسكرية روسية في أرمينيا، ويساعد مكتب الأمن الفيدرالي الروسي في حماية حدود أرمينيا، كما تتولى روسيا تدريب الجيش الأرميني، ويستخدم الأخير معدات عسكرية روسية بشكل أساسي. سابقا، نجحت موسكو عام 2013 بإبعاد بريفان عن شراكة الاتحاد الأوروبي، وبدلا من ذلك، تم ضمها للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي تقوده موسكو. لكن الأخيرة أضحت لاحقا عرضة لضربات أرمينية مزدوجة، بداية بإسقاط سركيسيان وتولي باشينيان السلطة عام 2018. وتاليا، استعادة أذربيجان لأراضيها المجاورة لكاراباخ ثم لكراباخ نفسها عامي 2020-2023. وبحال رفض أذربيجان تجديد تفويضها لقوات حفظ السلام الروسية، تتلقى موسكو الضربة الثالثة، بتلاشي مبرر وجود قواتها في أرمينيا. 

رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن – (إنترنت)

فخلال كلمة متلفزة، قال باشينيان: “إن أنظمة الأمن الخارجي التي تنضوي فيها أرمينيا أثبتت أنها غير مجدية لحماية أمنها ومصالحها”. لاحقا، قالها صراحة: إنه لا يرى “أي ميزة” في وجود القوات الروسية في أرمينيا. مع استبعاده انسحاب وشيك لبلاده من “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”. فيما أورد موقع “تقارير نظم المعلومات“، أن بريفان أبلغت موسكو أنه بمجرد مغادرة حفظة السلام التابعين لها الأراضي الأذربيجانية، لن يكونوا موضع ترحيب في أرمينيا. مرجحا طلب إخلاء روسيا قواعدها المتبقية على الأراضي الأرمينية، والتي يقدر عدد أفرادها بقرابة 10.000 جندي روسي، إضافة إلى 2000 آخرين في ممر لاتشين.

أحمد شياخ، وهو كاتب موريتاني وباحث مقيم في الجامعة الروسية لصداقة الشعوب، قال في حديث مع “الحل نت”، تبدو موسكو الرسمية أكثر هدوءا في تعاملها مع الملف الأرميني على عكس الإعلام الروسي، الذي بدا في الآونة الاخيرة أكثر حدّية في الهجوم على القيادة السياسية الأرمنية الحالية، وعلى وجه الخصوص رئيس الوزراء نيكول باشينيان. ولعل مرد ذلك إلى أن السياسة الخارجية الروسية لا تريد أن تقطع كل الحبال الممدودة لبريفان، أو لأن موسكو غير متسرعة في الملف الأرميني، نظرا للوجود الروسي الصلب فيها، حيث تمتلك قاعدة عسكرية في مدينة غيومري الواقعة في منطقة شيراك، وهي القاعدة التي تم تمديد مدة إقامتهما من 25 عاما إلي 49 عاما، أي حتى 2044 ، باتفاقية لم تلغ لغاية الآن، إضافة إلى وجود حرس الحدود الروسي في أرمينيا، يتولون حراسة حدودها مع كل من تركيا و إيران.

حليف من خارج “الناتو”

نظرا لفشلها في الدفاع عن أرمينيا، فإن مشاركة أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي “مجمدة بشكل أساسي”، قال باشينيان. مؤكدا على أن مسألة الحفاظ على القاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا ليست على جدول الأعمال. ومع تزايد مخاوفها من هجمات أذربيجانية على أراضيها، وقّعت أرمينيا عقدا لشراء ثلاثة رادارات من طراز Ground Master 200″”، مع مناظير وأجهزة الاستشعار من فرنسا. إلى جانب توقيعهما خطاب نوايا لبدء عملية شراء أنظمة الدفاع الجوي “ميسترال”، حسب موقع “بوليتيكو“. مشيرا إلى إرسال باريس، خلال الأشهر القادمة، مسؤولا عسكريا فرنسيا للعمل كمستشار دفاعي للسلطة التنفيذية الأرمينية في قضايا مثل تدريب القوات المسلحة. كما ستقوم فرنسا بتدريب الجنود الأرمن ومساعدة يريفان في مراجعة الدفاع الجوي الأرميني لتحديد النقاط العمياء.

لكن لا يمكن توقع ترك أرمينيا لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي ومغادرة الفضاء الروسي دون مساعدة غربية كبيرة لبريفان، تساعدها في تنويع وتخفيف أمنها وطاقتها واعتمادها الاقتصادي على روسيا. وكجزء من هذا، قد ترغب الولايات المتحدة في النظر بدعوة أرمينيا لتصبح حليفا رئيسيا من خارج “الناتو”، حسب المجلس الأطلنطي. وهنا، يجب على واشنطن توفير التدريب والمعدات لتعزيز القدرات الدفاعية لأرمينيا، ومساعدتها على تطوير جهاز أمني أكثر قوة واستقلالية، والمضي قدما في احتمال بناء محطة طاقة نووية صغيرة في أرمينيا، توفر لها حافزا لاتخاذ قرار ضد الشراكة مع روسيا في مجال الطاقة.

أرمينيا بدأت خروجها عن النفوذ الروسي منذ سنوات، حسب ديمتري بريجع، وهو باحث في الشأن السياسي الروسي، ومدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية. ومؤخرا، تشعر بريفان بأن موسكو تركتها بمفردها في مواجهة أذربيجان ومن خلفها تركيا. وتحاول أرمينيا التقرب للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “الناتو” نوعا ما، عبر تدريبات مشتركة أجرتها أرمينيا مع الولايات المتحدة الأميركية. ما يضاعف الهواجس الروسية تجاهها.

خلال الانتخابات الرئاسية الروسية، التي تم إجراؤها في 17 آذار/ مارس الحالي، لم ترسل أرمينيا وفودا لمراقبة هذه الانتخابات كعادتها، يقول بريجع في حديث مع “الحل نت”. مضيفا، هناك حالة من التصعيد على الصعيد الدبلوماسي، وعلى صعيد الأمن المشترك بين الجارتين. حيث تنحو أرمينيا الآن لتقوية أمنها عبر تنويع الشركاء، ما قد يغضب روسيا، والتي يمكن أن تقدم على محاولة لتغيير النظام السياسي الحاكم في أرمينيا من باشينيان إلى شخصية تكون أقرب لوجهة النظر الروسية.

من شأن معاهدة سلام موقعة بوساطة غربية مبنية على الاعتراف بكاراباخ كجزء من أذربيجان أن توجه ضربة قاسية لنفوذ روسيا في المنطقة، حسب المجلس الأطلنطي، لما تخلقه من شروط مسبقة لانسحاب بعثة حفظ السلام الروسية من منطقة كاراباخ، والتي تم نشرها في أعقاب حرب عام 2020. وكانت وزارة الخارجية الألمانية قد أعلنت، أن وفدين من أرمينيا وأذربيجان أجريا مفاوضات سلام في برلين في 28 و29 شباط/ فبراير الفائت بموجب الاتفاق المبرم خلال اجتماع ثلاثي عُقد في ميونخ.

“أصدقاء بوتين”

نتيجة قبولها إرسال فريق مراقبة جديد تابع للاتحاد الأوروبي، مع رفضها السابق لمهمة مماثلة عرضتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، عرّض بريفان لتوبيخ وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إذ نشر الاتحاد الأوروبي أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي 40 مراقبا مدنيا في المناطق الحدودية الأرمينية بمهمة استمرت شهرين تم التوافق عليها خلال قمة أرمينية أذربيجانية نظمها الاتحاد الأوروبي في براغ. وهو ما اعتبرته موسكو جزءا من جهود الغرب لطردها من المنطقة. لذا، نال انتقادها. وإلى جوار إلغائه مناورات عسكرية لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي كان مقرر إجرائها في أرمينيا أواخر عام 2023. أعلن رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، أن الوجود العسكري الروسي في بلاده قد يعرض أمنها وسلامة أراضيها لخطر أكبر. قابلت ذلك وزارة الخارجية الروسية بالتنديد، واصفة الادعاء “بالسخيف”.

موسكو منشغلة بقضايا أهم، الأزمة الأوكرانية خصوصا، إلى جانب قضية إقليم ترانسنيستريا، التي بدأت تحتل نقاشا مهما داخل المجتمع السياسي الروسي، حسب شياخ. إلا أن روسيا لن تتنازل بكل تأكيد عن تأثيرها وحضورها التاريخي في أرمينيا. مشيرا إلى أن موسكو تنظر لتصدر فرنسا المحور الغربي الداعي لإلحاق بريفان به، على أنه رد فرنسي، من الرئيس ماكرون تحديدا، علي الرئيس فلاديمير بوتين بعد توسيع نفوذ روسيا في إفريقيا. متوقعا استمرار هدوء السياسة الروسية تجاه بريفان، طالما لم تمس القاعدة العسكرية الروسية هناك، وفي ذات الوقت، تمارس موسكو المزيد من الضغط على بريفان، من أجل ثنيها عن الالتحاق بالمعسكر الغربي.

11 مقياسا مختلفا باستخدامها، احتلت أرمينيا المرتبة الثانية بعد بيلاروسيا بقائمة سمّتها مجلة “الإيكونوميست” “أصدقاء بوتين”. وهي معايير تناولت التعاون العسكري من وجود وتدريب ومعدات تم ذكره أعلاه، إضافة إلى الارتهان الأرميني للطاقة الروسية، مع جوانب أخرى للتعاون والروابط القاطرة لأرمينيا بروسيا. كما تشير المجلة إلى تصويت بريفان ضد قرارات الأمم المتحدة التي أدانت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. مع امتناعها لاحقا عن التصويت الذي أدان غزو روسيا لأوكرانيا واقتطاعها لأربع مناطق من الأخيرة في شباط/ فبراير 2022. خاتمة بنصح صناع السياسة الغربيين بالتخلي عما وصفته “أوهام إحداث تحول قريب بالسياسة الخارجية لأرمينيا المندمجة بشكل وثيق عسكريا ودبلوماسيا وتجاريا وطاقويا مع روسيا”.

ختاما، فإن عزم بريفان على الاندماج بالعالم الغربي تقوضه حقيقة عضويتها في كل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي. إضافة لارتباطها العسكري والاقتصادي والطاقوي العميق بروسيا. كما أن مساعدتها للأخيرة بالالتفاف على العقوبات، تجعل بروكسل مترددة في دعم بريفان، أو اتخاذ أي خطوات قد تستعدي أذربيجان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات