السياسة الخارجية الإيرانية معقّدة ومتشابكة الأطراف والحسابات، فهي تعمل على مستويَين رئيسيَين، وكلاهما يُشرف عليه المرشد الأعلى ويخضعان لسلطته، ولكنهما يختلفان في المضمون والشكل. 

المستوى الأول، هو سياسة دولة إلى دولة، والتي تتم إدارتها في معظم الحالات من قِبل الحكومة المنتخبة في طهران. أما المستوى الثاني، فهو علاقات إيران مع العملاء من غير الدول، والتي يُشرف عليها “الحرس الثوري” الإيراني وتتم إدارتها في الغالب خارج نطاق اختصاص الحكومة. 

ولهذا تبدو سياسة إيران الخارجية متناقضة؛ فبينما تروّج البلاد لسيادة نظام حكمها الإسلامي، وتظل الدولة الأكثر صراحة في العالم المؤيد لمعاداة أميركا ومعاداة الصهيونية، فإن علاقاتها تُظهر صورةً أكثر تنوعا. وعلى الرغم من أن حلفاء إيران المتحمسين هم جهات فاعلة غير حكومية، ومعظمها من الجماعات الإسلامية الشيعية، إلا أن طهران تحافظ على علاقات مثمرة بين الدول مع مجموعة من الدول التي تتبنى عدداً من الأنظمة غير الإسلامية.  

فمن المعروف مثلاً أن إيران أقرب إلى الهند من جارتها المسلمة باكستان، وقد فضّلت طهران منذ فترة طويلة أرمينيا المسيحية في نزاعاتها المستمرة مع أذربيجان الشيعية إلى حدّ كبير. فلم يجد القادة المدنيون والعسكريون في إيران أي صعوبة في تطوير روابط مهمة مع الأنظمة “الملحدة” بنظرهم، بما في ذلك أنظمة الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا. لأن المنطلق الرئيسي الذي تتحرك من خلاله إيران هو المصلحة الخاصة حتى لو اتخذت من الدّين ومصلحة الشرق الأوسط ستاراً لنواياها الحقيقية وأيدلوجيتها الدموية.

“الحسينيون”.. نبت شيطاني جديد

خلال هذا الأسبوع، شهدنا تحرّكات مريبة من مليشيات إيرانية تعمل في الخفايا على زعزعة أمن واستقرار جارتها أذربيجان خلال حشد قواتها ضد سياسة البلاد، وجاءت هذه الحركات أو الحشد من وكلاء إيران “الحسينيون” في هذه المنطقة مستغلّة انشغال العالم بالحرب الدائرة في غزة.

صورة تجمع إبراهيم بيغلي قائد ميليشيا “حسينيون” مع قاسم سليماني – إنترنت

هذا الواضع الراهن يضعنا أما عديد من التساؤلات أبرزها: لماذا تسعى إيران متجسدة في أذرعها العسكرية إلى التدخل في سياسة أذربيجان الداخلية والخارجية؟ وهل تشعر طهران بالخطر العسكري من باكو فتسبق هي بالعداء؟ ماهي حقيقة ميليشيا “الحسينيون” وكيف تستخدمهم إيران كروقة ضغط لحساباتها الخاصة؟

مع أنها جماعةٌ حديثة التكوين في مدينة “قم” إلا أنه اختلفت الرؤى حول تاريخ تكوينها أما في 2016، وأما في 2019، والمتّفق عليه هو المؤسّس، توحيد إبراهيم بيغلي، هو الأكثر معاداة لنظام الحكم في جمهورية أذربيجان. 

تكونت في البداية من 14 طالب فقط من جمهورية أذربيجان، وكان الهدف الأساسي هو تكون منظّمة لمحاربة “داعش” في سوريا، فبحسب حركة “حسينيون” أن هدفها الوحيد هو مواجهة المتطرفينَ التكفيريينَ في سوريا وليس لديها خطط لتوسيع أنشطتها في جمهورية أذربيجان. 

ولأن سياسة إيران تعمل في جزء كبير منها مع الجماعات الخارجة على حكومتها، فسرعان ما تلقفت هذا المولود الجديد وعملت على تقديم الدعم المادي والمساعدة العسكرية له. حتى البعض يذهب إلى القول بأن قاسم سليماني، هو الذي أطلق على هذه الجماعة اسم “الحسينيون” بعد ما كانت “حركة المقاومة الإسلامية الأذربيجانية”. 

ويُذكر أن الأذربيجانيين الذين شاركوا في الحرب السورية من خلال جماعة “حسينيون” تم اعتقالهم بعد العودة إلى بلادهم، ومن بينهم “المير زاهدوف”، وهو أحد عناصر لواء “حسينيون” المتواجد في سوريا، وأرسل إلى سجن شكي عام 2021. 

ويحمل “الحسينيون” راية لها جميع السمات الرئيسية للفصائل الأخرى في تحالف مع طهران، والمعروف باسم “محور المقاومة”، مثل تنسيق مشترك باللونين الأصفر والأخضر وبندقية هجومية متضمنة. 

إن الحجم الصغير نسبياً لـ “حسينيون” حالياً لا يعني أنها غير فعّالة؛ لأنه نادراً ما تحظى مثل هذه الميليشيا الصغيرة بالاعتراف على نطاق واسع من قبل إيران، وعلى صعيد القدرات العسكرية العملية، اكتسب أتباع “بيجلي” خبرة ميدانية من القتال في سوريا. كما تلقى أعضاؤها تدريباً عسكرياً من “حزب الله” اللبناني، على حرب العصابات وغيرها من التكتيكات المسلّحة غير التقليدية. 

علاوة على ذلك، مع بدء تراجع الصراع السوري وأصبحت قوات الرئيس السوري بشار الأسد أقل يأساً للحصول على دعم الميليشيات المدعومة من إيران، بدأ عدد من قدامى المحاربين السوريين في “الحسينيون” بالعودة إلى ديارهم في إيران، حيث واصلوا التدريب، وهنا يظل السؤال مطروحاً لماذا العِداء بين أذربيجان وبين إيران؟

باكو وطهران.. الصراع المكتوم

أذربيجان تقطنها أغلبية تركية شيعية ولها امتدادات بين 25 مليونا من الأتراك الأذربيجانيين في إيران، وينظرون إلى جمهورية أذربيجان كامتداد قومي لهم وثمة تنظيمات تابعة لهم تدعو إلى الانفصال عن إيران وتشكيل دولة موحّدة مع أذربيجان الشمالي وهو الاسم الذي يطلقونه على جمهورية أذربيجان. 

إبراهيم بيغلي في لباس رجال الدين الشيعة – إنترنت

بالمقابل تحاول إيران الضرب على الوتر الطائفي الشيعي بين سكان جمهورية أذربيجان وما إنشاء مجموعة “حسينيون”، إلا تمهيدا للتأثير على الشارع الأذري في حالة تدهور العلاقات الإيرانية مع جمهورية أذربيجان. 

ولعقودٍ من الزمن، كانت العلاقات بين النظام الإيراني ومواطنيه الأذربيجانيين متوترة في أحسن الأحوال. لقد شعر العديد من الإيرانيين الأذريين منذ فترة طويلة بارتباط عرقي وثقافي وسياسي ووطني بأذربيجان أكثر من ارتباطهم بالجمهورية الإسلامية. 

ردّت إيران على هذا التهديد المتصوّر من خلال قمع الأقلية الأذرية، والانخراط في الإمبريالية الثقافية والعرقية من خلال منع الأذريين من التّحدث بلغتهم في المدارس، ومضايقة الناشطين الأذريين، وتغيير أسماء المدن الأذرية.

هذا بشكل عام، وبشكل خاص توجد أسباب أخرى للصراع بينهما، فمثلا وجد بعض أعضاء “AIP” السابقين طريقهم إلى “حزب الله” الأذربيجاني، الموجود في البلاد منذ عام 1993، بأسلحة وتمويل من إيران و”جيش الله”، الذي تأسس عام 1995، وقاموا ذات مرة بالتخطيط لهجومٍ على السفارة الأميركية في باكو. 

وأيضاً يُنظر إلى إيران على أنها أكثر دعماً لعدو أذربيجان، أرمينيا. وعليه يرى الباحث في “مركز الشرق”، سعد الشارع، في حديثه لـ”الحل نت”، أن توتر العلاقة بين البلدين ليس حديثاً، بل يعود لعام 1945 عندما أعلنت مقاطعة شمال إيران استقلالها وإعلان جمهورية أذربيجان الشعبية، ورغم إن الشيعة في أذربيجان يشكّلون الأغلبية من السكان إلا إن سياسة طهران كانت مختلفة ومغايرة للتعامل مع شيعة أذربيجان أسوةً في تعاملها مع الشيعة بباقي الدول (العراق، لبنان، اليمن) على سبيل المثال.

يعود هذا الاختلاف لأسباب عديدة أهمها العقلية الانفصالية التي أدت لنشوء دولة أذربيجان، وقرب سياسة أذربيجان من تركيا وحالة التنافس على أسواق الطاقة (الغاز على وجه التحديد) أدت هذه العوامل لبقاء النّدية والتوتر قائم في سياسة البلدين، وهذا دفع بطهران للتقرب من أرمينيا العدو التقليدي لأذربيجان. 

وزيادة عن الأسباب السابقة، فإن هناك حالة تشابه في عقلية إدارة الدولة في كلا البلدين (إيران، أرمينيا) فكلاهما يستخدم الدين كأداة لقيادة الشعب وصبغ شكل الدولة. ولهذه الأسباب تعلم إيران أنها يجب أن تتعامل بحذر عند التعامل مع جارتها، التي كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية الفارسية وإيران القاجارية. 

مناورات على حدود بين البلدين

كان يُنظر إلى إيران بالفعل على أنها الخاسر الأكبر من حيث اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة تركية روسية بين أرمينيا وأذربيجان خلال حرب ناغورنو كاراباخ ، مع ميل ميزان القوى لصالح الأخيرة.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان (على اليمين) يحضر اجتماع وزراء خارجية بحر قزوين في موسكو، بحضور وزير خارجية أذربيجان في روسيا في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2023. (تصوير سيفا كاراكان/غيتي)

هذه العقلية الإمبريالية تفسّر عدوان طهران الأخير على باكو. فقد أدى انتصار أذربيجان الكبير على أرمينيا في أواخر عام 2020 إلى تنشيط الطموح الجيوسياسي الأذربيجاني، والذي تجلّى في إعلان باكو الصادر في تموز/يوليو 2021، والذي تم إقراره بشكل مشترك في برلمانات أذربيجان وتركيا وباكستان، والذي عبّر عن طموحات “الإخوة” الثلاثة ليصبحوا لاعبين مركزيين في المنطقة.

أعقب هذا الإعلان مناورات عسكرية “الأخوة الثلاثة” في أيلول/سبتمبر 2021 على الأراضي الأذربيجانية مع القوات الأذرية والباكستانية والتركية. ردت إيران على هذا التعبير عن القوة من جانب جارتها بالعدوان والتدريبات القتالية المصممة لإرغام باكو على الاستسلام.  ومع ذلك، لم تتعرض باكو للترهيب.

وبدلاً من ذلك، رداً على وابل الخطابات المناهضة لأذربيجان الصادرة من طهران، ظهرت ادعاءات صادمة من مصادر أذربيجانية. على سبيل المثال، أفاد موقع الأخبار العسكري المرتبط بالحكومة الأذربيجانية، أن الجيش الإيراني غزا بشكل غير قانوني الأراضي الأذربيجانية خلال حرب 2020 مع أرمينيا، مما تسبب في الفوضى والارتباك الذي سمح للجنود الأرمن بإعادة تجميع صفوفهم نتيجة لتمديد الصراع و تكلف حياة الأذربيجانيين.

في تشرين الأول/أكتوبر 2021، دعا النائب الأذربيجاني فاضل مصطفى إلى مقاضاة طهران في المحكمة الدولية بسبب هذا الانتهاك لسيادة أذربيجان. علاوة على ذلك، اتهم زميله النائب الأذربيجاني جافيد عثمانوف، نجاة أوجاج، الممثل الرسمي لخامنئي في باكو، بالحفاظ على وكر للجواسيس الإيرانيين في أذربيجان. ومضى عثمانوف يقول: إن أذربيجان تكشف النقاب عن المهمة التخريبية والتدميرية لإيران على الأراضي التاريخية لأذربيجان. 

ورغم أنه لا توجد طريقة لمعرفة ما إذا كانت هذه الادعاءات دقيقة أم لا، إلا أنها تتوافق بالتأكيد مع هدف إيران وسياساتها الرامية إلى خنق النمو والتنمية في أذربيجان. ولكن ربما الأهم من ذلك هو أنها تتناسب تمامًا مع سجل طهران في التدخل في الدول الأخرى في المنطقة والسيطرة عليها.

العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية

إيران شديدة العداء لإسرائيل كما تدّعي حتى الآن؛ وبالتالي فهي تشنّ حرباً بوكلائها على أي دولة تكون حليف لإسرائيل وخاصة لو هذه البلد ذات أغلبية إسلامية. وقد لعب التعاون العسكري الإسرائيلي ومبيعات الأسلحة لأذربيجان دوراً رئيسياً في تعزيز القدرات العسكرية الأذربيجانية قبل وأثناء حرب 2020 مع أرمينيا بشأن ناغورنو كاراباخ. 

الحسينيون وكلاء إيران الجدد في صراعها المكتوم مع أذربيجان
الرئيس الأذري إلهام علييف (يمين) في مؤتمر صحفي عقده مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (يسار) – إنترنت

تشير التقديرات إلى أن الأسلحة الإسرائيلية تشكل أكثر من 60 في المئة من جميع الأسلحة الأذربيجانية وكثيرا ما انتقدت إيران العلاقات المتنامية بين أذربيجان وإسرائيل وتعتبر أن العلاقة بينهما تشكل تهديدا لأمنها.

“الحسينيون” كانوا أداة إيران في تلبية طموحاتها، واستغلوا هذا التعاون في اختلاق احتجاجات ضد السفارة الإسرائيلية واعتقل بيجلي نفسه خلال تظاهرة خارج السفارة. وبعد اعتقاله، حكم عليه بالسجن لمدة سبعة أيام في تشرين الأول/أكتوبر 2021؛ بل إنه تم الاشتباه في قيام الميليشيا بالتخطيط لمهاجمة السفارة في وقت مبكر من عام 2018. 

لهذا يؤكد الشارع في الرد على سؤال “الحل نت” بمدى العلاقة بين حركات “الحسينيون” الأخيرة وحرب غزة قائلا: “لا أعتقد أن الحرب على غزة له دور في تصاعد التوتر بين البلدين، أساساً الإشكاليات كبيرة بينهما ولا تحتاج لدافع إضافي من أجل زيادة التوتر، ربما الحرب على غزة أعطت مادة إعلامية للتراشق بين البلدين أكثر”.

وأخيراً، ربما لا تكون جماعة “الحسينيون”، بأيديولوجيتها الإسلامية الشيعية وارتباطاتها بإيران، جذابة إلى هذا الحد في نظر الطبقة المتوسطة العلمانية والقومية الأذربيجانية. ومع ذلك، فإن قطاعات معينة من السكان في أذربيجان، بما في ذلك الأفراد من الطبقات المحرومة والفقيرة، ستوفر مجموعة محتملة من التجنيد للجماعة إذا استمرت في تطوير مهاراتها القيادية وأساليب الاتصال والتدريب مما يؤدي خلق “حزب الله” جديد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات