جاء إعلان الجيش الإسرائيلي عن مقتل هاشم صفي الدين، والذي كان أحد المرشحين المحتملين لخلافة زعيم “حزب الله” حسن نصرالله وبينما قتل في غارة بالضاحية الجنوبية لبيروت إثر استهداف إسرائيلي نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، ليؤكد أن أفق الصراع بين الحزب الموالي لإيران وإسرائيل يمتد نحو سيناريوهين رئيسيين، أولهما، استمرار استهداف “هياكل الحزب ومؤسساته، وتدمير بنيته العسكرية، فضلا عن إضعاف موارده، بخاصة القادة المحتملين والذين يمكنهم ملء فراغ نصرالله، أو من لديهم القدرة على إعادة صفوف الحزب وبناء قدراته من جديد”، وفق مصدر سياسي لبناني.
ويقول المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه (خاصة بعد شيوع تهديدات عشوائية من عناصر الحزب وتلقي تهديدات مباشرة)، إن “حزب الله” يتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى في حين يبحث عن “الثغرات التي تسللت منها إسرائيل عبر شبكة من العملاء والجواسيس، حيث ساهمت بدورها في الحصول على معلومات بهذه الدقة منذ تفجيرات “البيجر” ومرورا باغتيال نصرالله وحتى الوصول إلى قادة “فرقة الرضوان”، وأخيرا هاشم صفي الدين مع مؤسسات الحزب المالية “مؤسسة القرض الحسن”، ما جعل الاستهدافات العسكرية مدوية وتحقق نتائجها في ظل التفوق التكنولوجي والعسكري الإسرائيلي”.
لبنان.. أحد ارتكازات طهران الجيوسياسية
ويلفت المصدر لـ”الحل نت”، إلى أن “حزب الله” يحاول بشكل أو بآخر أن ينتهي من “تحقيقاته الداخلية والوصول إلى نقاط الضعف التي جعلت بنيته الأمنية والاستخبارية مكشوف لهذا الحد، غير أن هناك معوقات في ظل القصف العنيف على الضاحية وعدة مناطق تقع ضمن نفوذ الحزب جنوب لبنان، منها طلبه بوصول ضباط إيرانيين يباشرون هذه التحقيقات، لكن تحول دون هذه الخطوة قوى عديدة في لبنان كما في خارجها، منهم رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يقود مفاوضات باسم “حزب الله” بهدف وقف إطلاق النار وتنفيذ القرار الأممي لمجلس الأمن الدولي 1701، حيث سيكون دخول الإيرانيين على خط المعركة في هذه اللحظة بمثابة إعلان جديد للحرب وتوسيع الصراع مع كل لبنان ويضع الحرب الشاملة قاب قوسين أو أدنى”.
ويرجح المصدر أن يكون الانخراط الإيراني في لبنان في مرحلة لاحقة في حال وقوع “السيناريو الثاني”، وهو استهداف إسرائيل عمق طهران في إطار ردها المحتمل والمرتقب، مشيرا إلى أن استهداف مواقع نفطية أو نووية “بشكل مدمر وغير محدود”، سيجعل نظام الملالي “يبحث عن خطة للضغط على الغرب والولايات المتحدة بتحريك ضباط وقادة من الحرس الثوري لبناء قواعد حزب الله وتشكيل اصطفافاته من جديد حتى الوصول إلى لحظة ردع جديدة، لإبطاء حدوث الفراغ السياسي والعسكري لحزب الله في لبنان الذي يمثل أحد ارتكازات طهران الإقليمية والجيوسياسية”.
مع هذا، فإن المواجهة بين إيران وإسرائيل تبدو وشيكة، لكن أفق واحتمالات ما بعد الرد غير محسومة بشكل قاطع، بيد أن المؤكد هو تركيز إسرائيل على تفكيك “حزب الله” وإنهاء وجوده الميلشياوي كونه حالة سياسية وأمنية في لبنان، ما يجعل مراحل الصراع متعددة، ولا يتوقف “بنك الأهداف” عند المستوى العسكري والأمني مثل مخازن السلاح ومستودعاته والأنفاق التي يتم من خلالها التهريب، أو اغتيال القادة المؤثرين في الحزب وقوات النخبة، بل وتدمير بنى وهياكل الحزب المدنية التي يعتمد عليها في تمويل أنشطته العسكرية مثل ذراعه المالية “مؤسسة القرض الحسن”.
وبحسب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على منصة “إكس/ تويتر”، والذي أكد اغتيال صفي الدين، فقد “أغارت طائرات حربية لسلاح الجو بتوجيه استخباري لهيئة الاستخبارات العسكرية على مقر قيادة ركن الاستخبارات في حزب الله الواقعة تحت الأرض في قلب المجتمع المدني في منطقة الضاحية الجنوبية ببيروت”. وتابع: “تواجد داخل مقر القيادة أكثر من 25 عنصرا من ركن الاستخبارات في حزب الله ومن بينهم المدعو صائب عياش مسؤول التجميع الجوي في ركن الاستخبارات ومحمود محمد شاهين مسؤول ركن الاستخبارات لحزب الله في سوريا”.
إن إيران لن تتوانى عن إعادة بناء “حزب الله” بتعويض فائض الثقة والقوة المهدرتين نتيجة ما سببته الاستهدافات الإسرائيلية من تداعيات جمّة، بحيث تظل لبنان في حيز “الولي الفقيه” بالمعنى السياسي والعقائدي.
وحسبما ذكر بيان الجيش الإسرائيلي فإنه “تم القضاء برفقة صفي الدين على المدعو علي حسين هزيمة قائد ركن الاستخبارات في حزب الله والذي ساعد خلال مناصبه على توجيه وتنفيذ عمليات إرهابية عديدة ضد قواتنا بما فيها العملية الإرهابية في جنوب لبنان في شباط/ فبراير 1999 وغيرها من العمليات”. وشدد البيان على مواصلة “جيش الدفاع استهداف قادة حزب الله وكل من يشكل تهديدا على دولة إسرائيل ومواطنيها”.
ويمكن القول إن ضخامة العدد الذي تم استهدافه من قبل إسرائيل في صفوف الحزب المدعوم من طهران، حتى الاثنين الماضي، ثم اغتيال صفي الدين وآخرين في غضون اليوم التالي، ليتخطى 52 قائدا، يرشح بتنامي مستويات الصراع وعدم انحساره، والهدف هو إبطاء قدرات الحزب في إعادة تنظيم صفوفه.
تفكيك “حزب الله”
فيما سبق لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أن أكد على رغبته في شلّ أي إمكانية للحزب باستعادة دوره العسكري في المستقبل، ومنعه من أن يشكل أي تهديد على إسرائيل كما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي.
وذكر نتنياهو أن خطته في ذلك، تقتضي تعطيل إمكانية الحزب في الحصول على موارد عسكرية وتسليحية. وتفكيك “حزب الله” يقع ضمن استراتيجية ضرورة الانتهاء من نفوذ القوى الميلشياوية الولائية التي تسيدت الإقليم في العشرية الأخيرة، وتوسع نفوذها الجيواستراتيجي بين سوريا واليمن والعراق ولبنان.
ورغم ذلك يبدو أنه هدف صعب ومعقد، بينما تسعى له تل أبيب على خلفية الضربات المستمرة، وتنفذ من خلالها آلية عسكرية مباشرة تراكم بها هزائم في صفوف قادة مؤسسين. إذ إن مثل تلك التنظيمات العقائدية قائمة على أسس ومرجعيات متغلغلة في الحواضن الطائفية والشيعية، وتتجاوز الامتيازات الاجتماعية والروابط الاقتصادية الرعائية إلى ما يشبه “عقد اجتماعي” يعتمد على تشكيل هوية وسردية للأفراد والكتل الاجتماعية الواقعين تحت نفوذه وتأثيره. فيما تظل لديه قدرة على امتصاص الصدمات والتمرد بين قواعده.
أما مزايحته فلا تكون بأدوات خشنة إنما بقوى لها الإمكانية على تعزيز هوية مغايرة يتم الاحتماء بها، وذلك ما يمكن للدولة اللبنانية في حال تعافيها أن تقوم به عبر مؤسسات مدنية تتبنى قيم وحقوق مواطنية وغير طائفية.
فمرحليا، الإضعاف محتمل وقائم بشكل كبير، فضلا عن احتمالات دخول الحزب في صدامات تماثل ما جرى في الحرب الأهلية مع قوى أخرى، في ظل الشحن السياسي والطائفي المعارض له. لكن الانقسام والتفكك النهائي وتشظي الحزب، ليس بوارد الحدوث، أيضا مرحليا. تقويض الحزب هو ما تنجح فيه الضربات من خلال قطع الشرايين الحيوية التي كانت تغذي التنظيم الميلشياوي، وذلك من خلال قصف المعابر البرية والحدودية كمعبر “المصنع” الحدودي المتاخم للحدود اللبنانية السورية.
بالعودة إلى المصدر السياسي اللبناني، فإن رد الفعل العنيف من قبل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، كان رسالة مباشرة وواضحة بغطاء عربي، مفادها أن “ما وراء تصريح قاليباف والذي يتجاوز الوصاية إلى التمهيد بتدخل إيراني ميداني في لبنان، ليس مقبولا، وأن محاولة تشكيل حاضنة مع الولي الفقيه بعد فقدان ممثله الأكثر شعبية حسن نصرالله، أيضا لم يعد ممكنا أو مقبولا”، لافتا إلى هناك “إسناد عربي من مصر والسعودية إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة لتعزيز موقف الدولة اللبنانية”.
ويصيغ المصدر اللبناني مقاربة أن “حزب الله سيجد في مقابل عدم فك ارتباطه بغزة، جبهة مشتعلة في إيران، بما يجعل غزة و”جبهة الإسناد” مقابل طهران”.
إذاً، فإن الحزب في تلك اللحظة الوجودية يبحث مرة أخرى عن سد الجيوب وتجسير الفجوات، وقد “أتاحت أنظمة المراقبة الجديدة التي تستخدمها إسرائيل، إمكانية تحديد مواقع (حزب الله) وكوادره؛ لمعرفة أماكن إقامتهم، وأين توجد مكاتبهم، ومع من يتناولون القهوة، وفي أي وقت يذهبون لممارسة الرياضة”، وفق ما تنقل صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية عن قيادي بالحزب في لبنان. موضحا القدرات الاستخبارية التكنولوجية لإسرائيل التي نجحت في تجميع المعلومات واستثمارها في اصطياد “العملاء” و”الجواسيس” المحتملين.
تحديات أمام الطموحات الإيرانية
وقال التقرير الفرنسي: “لم يشكّ أحد داخل الحزب في وجود مثل هذه الشبكة التجسسية من جانب إسرائيل، التي تعلمت الدرس من الفشل الجزئي في حربها السابقة ضد الميلشيا الشيعية الموالية لإيران في عام 2006. وعندما وقعت أولى عمليات الاغتيال التي استهدفت كبار قادة (حزب الله)، في كانون الثاني/ يناير الماضي، صدر الأمر من الحزب بتخلي عناصره عن الهواتف الجوالة”.
كل الطموحات الإيرانية بالحفاظ على وكيلها تواجه تحديات عديدة ومتفاوتة. ومع الخسائر التي مُني بها “حزب الله”، والأعباء المختلفة التي تفاقم أوضاع النظام الإيراني، فإن قدرة الأخير على لملمة شتات الحزب وتقويته تبدو ضعيفة.
يقول قيادي بـ”حزب الله” معلّقا للصحيفة الفرنسية: “لكن لم يكن هناك أي فائدة (من القرار). كان لدى الإسرائيليين تسجيل سلوك أولئك الذين أرادوا القضاء عليهم. كان على هؤلاء (القادة في حزب الله) أن يغيروا حياتهم بشكل جذري، لكن ذلك كان مستحيلا”.
وجاء في التقرير إشارة لافتة بأنه “إذا كانت الحرب في سوريا قد سمحت لجماعة “حزب الله” بتعزيز قدراته القتالية بين عامي 2012 و2020، ففي المقابل، أضافت هذه الحرب مفاقمة نقاط ضعفه. لقد جنّدت إسرائيل كثيرا من المعارضين السوريين الذين لجأوا إلى جنوب لبنان، وهم يعارضون بشدة (حزب الله) الذي حاربهم في الداخل لإنقاذ بشار الأسد”.
ونقلت الصحيفة الفرنسية عن دبلوماسي فرنسي مطلع على شؤون لبنان أن “إضعاف (حزب الله) يجب أن يؤدي إلى سيطرة إيران على الوضع (داخل الحزب)”، وهو رأي أكده مصدر إيراني مطلع بشكل عام قائلا: “سيملأ الضباط الإيرانيون الفراغ داخل الجناح العسكري لـ(حزب الله)، الذي أصبح ضعيفا الآن. ويحتاج الشباب الذين سيتولون المسؤولية إلى المشورة بشأن الاستراتيجية العسكرية. ولذلك؛ فإن الوجود العسكري الإيراني من المتوقع أن يكون أكبر. وقد حدث هذا بالفعل بين عامي 1982 و1987 في السنوات الأولى لوجود (حزب الله)”. وهو ما يتعارض مع الهدف الإسرائيلي المتمثل في تقليص “البصمة الإيرانية” بين حلفاء إيران الإقليميين.
خلاصة القول، إن إيران لن تتوانى عن إعادة بناء “حزب الله” بتعويض فائض الثقة والقوة المهدرتين نتيجة ما سببته الاستهدافات الإسرائيلية من تداعيات جمّة، بحيث تظل لبنان في حيز “الولي الفقيه” بالمعنى السياسي والعقائدي، وارتباطاته البراغماتية المعلنة والخفية، بما فيها المصالح الجيوطاقاوية المستجدة في شرق المتوسط.
لكن كل الطموحات الإيرانية بالحفاظ على وكيلها تواجه تحديات عديدة ومتفاوتة، لا يمكن التهوين من شأنها، أو كبح خطط إسرائيل. ومع الخسائر التي مُني بها الحزب، والأعباء المختلفة التي تفاقم أوضاع النظام الإيراني، فإن قدرة الأخير على لملمة شتات الحزب وتقويته تبدو ضعيفة، وتعطل من فرص استعادة الحزب لمواقعه وصفوفه كما في السابق.
والأرجح أن هناك فرصة جادة لاستعادة الدولة اللبنانية عافيتها بمساندة الدول الإقليمية، وكمون الحزب ولو بشكل تكتيكي لمنع استنزافه حتى الرمق الأخير، وحتى لا تكون الفوضى والسيولة في الداخل اللبناني الفصل الذي تنتهي عنده كافة الفرص للجميع، وتختلط معها الأوراق.
- بعد مقتل أبرز قادة “حزب الله”.. هل تستطيع إيران بناء الحزب من جديد؟
- منها سلافة معمار.. بطولات نسائية متعددة في دراما رمضان 2025
- “مدينة صور بكاملها يتم إخلاؤها”.. إنذار بالفوضى والدبلوماسية تزداد تعقيداً
- تهديدات تشل حركة شركة حوالات بدمشق: إسرائيل في قفص الاتهام!
- نيللي كريم تشتكي “أوبر” وتستعين بالجمهور: ما القصة؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.