رغم تصاعد حدّة الصراع في قطاع غزة منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي وارتفاع درجة التوتر، في عدّة جبهات أخرى، تتصل عضوياً بطهران عبر جماعاتها الوظيفية وميليشياتها المسلحة، إلا أن ثمة اهتمام وتحضيراتٌ لافتة توليها جدارية الحُكم في إيران للانتخابات البرلمانية، وكذا انتخابات مجلس الخبراء. 

ويتجلى ذلك عبر عمليات تدقيق كشوف المرشّحينَ من خلال رفض وزارة الداخلية ومجلس صيانة الدستور المئات من قُدامى النظام والمتنافسينَ، الأمر الذي يضع ما يفرزه ذلك الاستحقاق الانتخابي المقرر إجراؤه، مطلع الشهر المقبل، وتحديداً في أول آذار/مارس من أسماء وشخصيات، ما يمكن التنبؤ بمحددات مهامه وأثره على سياسات طهران قيد الترجيح.

ثمّة رؤية تتسع أن الجميع في إيران يدرك أن انطلاق المشهد الانتخابي القادم سيتزامن مع خيبة أمل مجتمعية واسعة النطاق على خلفية الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها المواطن الإيراني، و مدركاته بأن ثروات بلاده تُهدر في مغامراتٍ سياسية وميدانية، ما يدفع عدد من المراقبين ومراكز البحث بفرضية أن تكون نسبة مقاطعة الانتخابات قياسية مقارنة بأي عام آخر بالرغم من الأهمية النسبية لكلا الاستحقاقَين في صياغة ورسم السياسات الخاصة بسياسات واختيار الشخصيات الرئيسية في تركيبة الحُكم سيما اختيار مرشد جديد.

مقاطعة قياسية متوقعة

تأتي انتخابات “مجلس النواب” خلال الشهر القادم وسط ترقّب الجميع، باعتباره أحد المرتكزات الثلاثة للحُكم في الجمهورية الإسلامية، خاصة أن سلطة الحُكم في إيران تدرك أن انتخابات آذار/مارس من العام الجاري هي الأولى منذ اندلاع موجة الاحتجاجات الهائلة التي اشتعلت عقِب وفاة مهسا أميني في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2022. 

رجل فقير يحمل أكياسًا بلاستيكية أثناء سيره بجوار كتابات على الجدران على سياج بالقرب من ضريح مقدس في مدينة قم المقدسة على بعد 145 كيلومترًا (90 ميلاً) جنوب طهران (تصوير مرتضى نيكوبازل / غيتي)

وهذا الأمر يجعل من وضعية الإقبال المجتمعي عليها أكبر قليلاً من مجرد مشاركة فعّالة لكونها ينبغي أن تعكس الارتباط بين السلطة القائمة والقاعدة الشعبية. غير أن المعاناة المعيشية للمواطن والانخراط الإيراني في جبهات التوتر على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط يدفع نحو سيناريو المقاطعة النسبية.

نحو ذلك جاءت تصريحاتٌ تعكس ذلك التوجّه، حيث قال وزير الداخلية السابق، عبد الواحد موسوي لاري، في مقابلة خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، أن “هناك مخاوف من أن يكون غضب الناس تجاه صناديق الاقتراع أكثر خطورة مما كان عليه في العام 2019”.

وذكرت صحيفة “أرمان ملي” الإيرانية، أن نتائج الاستطلاع الذي أُجري من خلال مقابلات مباشرة مع أفرادٍ في طهران تكشف عن نتائج لافتة. إذ أُجري هذا الاستطلاع في الحادي عشر من شهر حزيران/يونيو، في 32 منطقة داخل العاصمة طهران مع 365 شخصا تزيد أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً. 

بحسب هذا الاستطلاع، فإن 58 بالمئة من المشاركينَ لا يعرفون الانتخابات المقبِلة في حين أن 42 بالمئة فقط يتم إبلاغهم بالأمر.

كما صرّح موقع “فارارو” الذي تديره الدولة في الثلاثين من شهر كانون الثاني/يناير الماضي، أن “الناس أصبحوا يعتقدون أن عدم المشاركة بضمير حي في الانتخابات أفضل من التصويت لشخص نحن على يقين من أنه لن يحلّ مشاكلنا”.

تغيير حقيقيّ في إيران؟

إن “مجلس النواب”، الذي يتألف من 290 عضوا، لم يضطلع منذ فترة طويلة سوى بمنسوب محدود في صياغة سياسات النظام، لا سيما فيما يرتبط بسياسات طهران المتّصلة بالقضايا النووية والعلاقات الخارجية. 

المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي يحضر حفل تخرج طلاب القوات المسلحة الإيرانية في أكاديمية الإمام علي للضباط في طهران، إيران في 10 أكتوبر 2023. (تصوير المكتب الصحفي للمرشد الأعلى الإيراني/ غيتي)

إذ تراجع دوره في السنوات الأخيرة وأمسى المواطن الإيراني مدركاً لذلك بحسب استطلاعٍ أجرته وكالة الأنباء الحكومية الرسمية، في شهر تموز/يوليو من العام الماضي، حيث كانت نظرة 68 بالمئة من الإيرانيين تتّسم بعدم الرضا عن البرلمان كما لم تستطع الأغلبية تسمية رئيسه آنذاك.

إلى ذلك يتموضع دور “المجلس” في تمظهر حالة من التوافق نحو بعض الآراء حول القرارات المهمة، مثل إحاطة النواب على القضايا الرئيسية مثل وضع المحادثات النووية فقط دون التدخل في مسارها أو تحديد نتائجها.

يتزامن ذلك أيضا مع انتخابات مجلس خبراء القيادة، حيث ينبغي أن يصوّت الإيرانيون لممثليهم في “مجلس خبراء القيادة”، وهو هيئة لا تمارس سوى تأثير ضئيل جداً على حياة المواطنين. بيد أنه يتصل مباشرة بعملية أساسية واحدة وهي اختيار مرشد أعلى جديد. 

فـ”مجلس خبراء القيادة” مكلّف بموجب الدستور بتعيين المرشد الأعلى التالي عند وفاة المرشد الحالي أو إقالة مرشد إذا أصبح غير قادر على أداء واجباته ونظراً لتقدم خامنئي في السن (84 عاماً) قد يكون “مجلس خبراء القيادة” المنتخب في مطلع الشهر القادم، هو المسؤول عن ذلك وإضفاء الشرعية المطلوبة على ذلك الاختيار.

إقصاء قدامى النظام

من الشخصيات التي تم استبعادها لخلافة خامنئي، الرئيس السابق حسن روحاني الذي كان يسعى للبقاء عضوا في مجلس الخبراء حيث انتُخب منذ العام 1999.

متظاهرون يحملون دمى للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، والرئيس السوري بشار الأسد (يسار) والزعيم الديني الإيراني آية الله علي خامنئي خلال احتجاج خارج الجمعية العامة للأمم المتحدة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك. (تصوير إيمانويل دوناند / وكالة الصحافة الفرنسية)

في هذا السياق يذهب الكاتب اللبناني، حسن فحص، بقوله إذا كان من المعروف يقيناً كون إيران ستشهد بعد أيام إجراء استحقاقَين انتخابيَين أساسيَين، هما انتخابات مجلس الشورى (البرلمان) وانتخابات “مجلس خبراء القيادة”، فإنه من المعروف أيضا أن هذه الانتخابات تجري في ظل أجواء تشي بحالة مقاطعة واسعة من الجمهور الإيراني. 

ويردف فحص في تصريحاته لـ”الحل نت”، أن أسباب هذه المقاطعة تتأثر بعدة أبعاد أو محركات متداخلة ومتشابكة، يأتي في مقدمتها العامل السياسي وحالة الانفصال الحاصلة بين النظام والرأي العام الإيراني الشعبي والسياسي، وحالة الإحباط التي تسببت بها سياسات وآليات النظام في إدارة الحياة السياسية. 

وفي المستوى الثاني يدخل العامل الاقتصادي بشكل بارز في تعزيز حالة العزوف وعدم المشاركة، خاصة وأن هذا الرأي العام يحمّل النظام وإدارته السياسية والاقتصادية المسؤولية عن الأوضاع الصعبة التي وصلت إليها إيران، لجهة الإصرار على سياسة العداء مع المجتمع الدولي وما أدت إليه من عقوبات اقتصادية مستمرة، بالإضافة إلى سوء الإدارة الداخلية للجانب الاقتصادي والتي برزت بشكل واضح مع السلطة التنفيذية الحالية برئاسة إبراهيم رئيسي.

يضيف الباحث في الشأن الإيراني، حسن فحص، أن القوى السياسية المعارضة، والتي تضم مروحة واسعة ومتنوعة من الإصلاحيينَ والمعتدلينَ وجماعات وازنة من القوى المحافظة التقليدية المعتدلة، تنظر إلى هذه الانتخابات بأنها تحولت إلى حالة “لزوم ما لا يلزم” خاصة بعد الآليات الجديدة التي أدخلها قانون الانتخابات الجديد.

الآليات الجديدة تعطي وزارة الداخلية صلاحية استبعاد الكثير من المرشّحينَ، قبل انتقال الأسماء إلى المصفاة الأخيرة التي يقوم أو يمارسها مجلس صيانة الدستور من خلال لجنة دراسة أهلية وصلاحية المرشحين.

لذلك، فإن هذه القوى تتعامل مع العملية الانتخابية بكثير من الحذر، فهي من جهة تخشى من الموافقة على الإجراءات التي تقوم بها وزارة الداخلية والتصفية التي يمارسها مجلس الصيانة، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى خسارتها ما تبقّى لها من قواعد شعبية. 

ومن جهة أخرى، تتخوف من أي إجراءات أو تداعيات قد تلجأ إليها مؤسسات النظام وأجهزته السياسية والأمنية في حال أعلنت أو دعت إلى مقاطعة الانتخابات، خاصة وأنها ما زالت تعلن إيمانها بالعملية الانتخابية وقدرتها على إحداث تغيير سياسي واجتماعي بحسب المصدر ذاته.

صراع بين الإصلاحيينَ والمحافظينَ

النظام ومنظومة السلطة أو بالأحرى الدولة العميقة التي تدير خيوط اللعبة من الخلف، فقد حسمت خياراتها في استبعاد وإقصاء كل الأصوات التي يُحتمل في المستقبل أن تُعلن معارضتها أو لا تلتزم بالمسار الذي تحدده وترسمه هذه المنظومة. 

المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، يحضر عرضا عسكريا برفقة قادة “الحرس الثوري” – (فرانس برس)

هذا يعني أنها حسمت خياراتها في تصفية السلطة وكل مراكز القرار من الأصوات المختلفة، أو التي تملك خطابات مغايرة إصلاحية أو معتدلة حتى وإن كان هذا الخطاب تحت سقف النظام والدستور وولاية الفقيه.

وهذه المنظومة تعتقد بأن المرحلة المقبلة ستكون مصيرية لجهة تحديد مستقبل النظام والسلطة، لذلك عليها إنهاء عملية تصفية المؤسسات في الدولة وكل المواقع من كل مصادر الخطر بأبسط أشكاله وصوره، من أجل تسهيل الطريق لتكريس وترسيخ رؤيتها ومشروعها في إدارة النظام وتوجيهه بالاتجاه الذي ينسجم مع الاستراتيجية المرسومة للسلطة وتمكين صلاحيات الدولة العميقة.

لذلك، فإن العملية الانتخابية على مستوى الآليات المنتظرة للعملية الديمقراطية، لن تنتج التغيير المسار الذي بدأه النظام في استكمال سيطرته وتصفية مواقع القرار من أي قوى لا تنسجم مع توجهاته، خاصة وأن المهمة التي رسمها النظام ودولته العميقة لهذه الانتخابات المزدوجة (البرلمانية وخبراء القيادة) من المفترض أن تنسجم مع الجهود المبذولة لإجراء عملية انتقال للسلطة من المرشد الحالي إلى خليفته الجديد.

وبناء على هذه المهمة فقد رفعت الدولة العميقة من منظور المصدر نحو مستوى عملية استبعاد المرشحينَ، حتى بين رجال الدين المرشحينَ لمجلس خبراء القيادة كالرئيس السابق حسن روحاني ووزير الاستخبارات في حكومته محمود علوي، أي استبعاد كل الشخصيات التي من المحتمل أن تتحول إلى مصدر قلق أو تشويش على خططه في انتخاب المرشد الجديد، خاصة وأنها لا تريد ترك أي نافذة لأصغر مفاجأة غير متوقعة.

من سيحكم إيران بعد الانتخابات؟

إلى ذلك يستنتج الباحث في الشأن الإيراني، حسن فحص، نفي أي أثر لتلك الانتخابات بكل أشكالها على العلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي، أو في التأثير على سياسات إيران الإقليمية؛ لأن هذه السياسات تُرسم وتُوضع من قِبل الدولة العميقة و تأخذ شرعيتها عبر موافقة المرشد الأعلى الذي يُعتبر الجهة الأولى التي ترسم هذه السياسات والاستراتيجيات من ضمن صلاحياته المطلقة.

صورة المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي خلال احتجاجات داخل إيران.

” الحرس الثوري” الإيراني، يضطلع في هيكل السلطة الإيرانية سواء عَبر بُعده السياسي والآخر الأمني بأدوار مؤثره في كافة توجّهاته وحسم اختيار الشخصيات والأسماء التي ينبغي أن تشارك في السلطة، فضلاً عما يترتب على ذلك من نتائج مباشرة في اختيار أسماء المناصب الأعلى والأكثر تأثيراً مثل منصب المرشد وارتباط ذلك بانتخابات مجلس الخبراء.

من جانبها تؤكد الباحثة في الشأن الإيراني، منى سيلاوي، أن الانتخابات المقبلة في ايران سُرب منها عمداً معنى ومدلول الاستحقاق الانتخابي، كون مجلس الخبراء وكذا المندوبين، يتم انتخابهم من قِبل “القائد”، وكذا انتخابات المجلس أو ما تسمى في إيران “مجلس الشورى الإسلامي”. 

وتردف سيلاوي في سياق تصريحاتها لـ”الحل نت”، أن الانتخابات تُجرى وسط مرشحينَ محددينَ يتم اختيارهم ومن ثم تعيينهم من قِبل المرشد الأعلى.

إذاً نحن بصدد عملية هيكلية بين شخصيات معروفة سلفاً، وتم تدقيق سجلاتها بعناية من قبل السلطة الحقيقية.
تخلُص الباحثة في الشأن الإيراني بقولها، إن مدركات الواقع وحقيقته تستقر نحو ضرورة وحتمية فهم شكل وملامح طبيعة النظام الإيراني فيما بعد شهر آذار/مارس المقبل، سوى من خلال طبيعة “الحرس الثوري” في تركيبة الدولة العميقة وكذا هيمنة المرشد الأعلى.

عدا ذلك، والحديث لذات المصدر لا يمكن توقّع أي تعديل يطرأ على ملامح وتوجّهات السياسة الخارجية الإيرانية سواء في منطقة الشرق الأوسط أو التفاعل مع القوى الدولية على خلفية النتائج المقبِلة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات