محمد الحمادي- صحفي سوري
تبرز سوريا كدولة غنية بالآثار والمواقع التاريخية التي تروي قصصا عن حضارات قديمة شهدت ولادة العديد من القيم الإنسانية، مثل حضارات آرامية وفينيقية وآشورية ورومانية وإسلامية. إلا أن المنطقة الشرقية من سوريا، التي تتمتع بتراث حضاري فريد، عانت من تهميش وإهمال متعمدين خلال السنوات التي خلت، وتحديدا في فترة نظام “آل الأسد” البائد.
في نفس السياق، تعتبر المنطقة الشرقية (القامشلي والحسكة والرقة وديرالزور) في سوريا واحدة من الأماكن التاريخية الفريدة التي تزخر بالتراث الثقافي العريق، والغنية بالآثار التي تمتد من وادي الفرات إلى الصحراء السورية. ولكن، تعاني من إهمال وتقدير غير كافٍ تجاه تلك الثروات التاريخية ما يهدد الإرث التاريخي في المنطقة، إذ يُعتبر التراث الثقافي أحد أهم عناصر الهوية الوطنية لأي دولة، وبخاصة في المناطق التي تتمتع بتاريخ طويل وثراء حضاري مثل سوريا.
وهمش نظام الأسد المخلوع مناطق الجزيرة السورية بشكل كبير، والتهميش هنا إغفال صيانة الآثار، وعدم اتخاذ إجراءات لحمايتها من الاعتداءات، إضافة إلى التهميش السياسي والثقافي لهذه المواقع، والتي كانت جزءا من سياق أوسع للتهرب من التعددية الثقافية وإهمال التوثيق التاريخي لهذه الأماكن، حيث غابت سياسات الصيانة والترميم بشكل واضح خلال حكم النظام السوري السابق. في فترات عديدة، كانت جهود الحكومة تقتصر على الترويج لبعض المواقع الأكثر شهرة مثل دمشق وحلب، بينما كانت المنطقة الشرقية، التي تضم العديد من المواقع الأثرية، تُترك تحت طائلة الإهمال.
سوريا.. شواهد تهميش الآثار
ثمة العديد من الأسباب التي ساهمت في تهميش آثار المنطقة الشرقية من سوريا. في مقدمة هذه الأسباب، تبرز السياسات المركزية لنظام الأسد، والتي كانت تركز بشكل أساسي على المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، مستثنية بذلك بقية المناطق وخاصة الريفية والشرقية من أي دعم مادي أو سياسي. كما أن قلة الموارد المالية وعدم الاهتمام بالتنمية السياحية والثقافية في هذه المناطق أديا إلى تدهور العديد من المواقع الأثرية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن ربط هذا التهميش بتوجهات سياسية كانت تسعى إلى تقليص الهوية الثقافية والإنسانية للمناطق الشرقية من سوريا، وهو ما ينعكس في غياب الخطط الحكومية التي تهدف إلى الحفاظ على التراث المحلي. وكان هذا التوجه مدعوما أيضا برغبة النظام البعثي في إحكام قبضته على المناطق المركزية وتجاهل باقي المناطق التي كانت تعتبر “مناطق ثانوية” كما يراها.
من أبرز الشواهد على تهميش آثار الجزيرة السورية هو الوضع المتدهور للعديد من المواقع الأثرية في هذه المناطق، على سبيل المثال: مملكة دورا أوروبوس التاريخية في البادية السورية على الضفة اليمنى الغربية من نهر الفرات والتي كانت تُعتبر واحدة من عجائب العالم القديم، لم تحظ بالاهتمام الكافي من قبل نظام الأسد البائد، حيث إن الطريق المؤدي إليها لم يتم تعبيده، وبالرغم من مساحتها الكبيرة، إلا أنه كان لها حارس واحد فقط يجلس في غرفة اسمنتية تم بناؤها فوق المقابر الشمسية على الضفة اليمنى من وادي دورا أوروبوس.
كما كانت تلال المدينة مرتعا لرعاة الأغنام، نظرا لعدم وجود أدنى معايير الحماية من جانب وزارة الثقافة ومكاتبها وورشاتها، باستثناء بعض المعابد والحمامات داخل أسوارها التي تم تغطيتها ببعض اللفائف من البلاستيك والقماش من قبل البعثات الأجنبية.
سرقة الأسد و”داعش” لآثار ديرالزور
تعرضت دورا أوروبوس لدمار هائل وعمليات نهب وسرقة خلال السنوات الأخيرة من حالة الصراع السوري بداية من 2012 مرورا بسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على غالبية محافظة ديرالزور نهاية عام 2014، إلى حين سيطرة النظام السابق والميلشيات الإيرانية وروسيا على المحافظة نهاية عام 2017 إذ دُمرت العديد من المعابد والمباني التاريخية.
وبالرغم من عودة نظام الأسد للسيطرة، إلا أن آثارها لم تحظَ بدعم كافٍ لإعادة ترميمها وحمايتها، بل أصبحت مصدر تمويل للميلشيات الإيرانية كما قلعة الرحبة بالميادين التي سرقها تنظيم “داعش” وغيرها بعد عمليات نبش وتنقيب عشوائي وبأيادي مسلحين لا يملكون أي خبرة أو خلفية علمية أو أكاديمية.

عقب اندلاع “الثورة السورية” مطلع عام 2011، وخروج قوات النظام البائد من ريف ديرالزور نهاية عام 2012، حتى بدأ المنقبون وأصحاب الأطماع بالتنقيب عن الآثار داخل أسوار المدينة، واستمرت عمليات نبش “المقابر الشمسية” خارج أسوارها بحثا عن الفخاريات واللقى الأثرية، مستغلين غياب السلطة التي كانت تحكم البلاد “نظام الأسد” وافتقار مؤسسات فصائل “المعارضة السورية” حينها لأدنى مقومات ضبط وأمن المنطقة.
منتصف عام 2020، صدر تقريرا عن مؤسسة “جيردا هنغل” الألمانية و”جمعية حماية الآثار السورية” في فرنسا، عن أحوال المتاحف الأثرية في سوريا، بين عامي 2011 و2020- أعده الأكاديمي السوري شيخموس علي، وثق فيه الأضرار الفادحة التي تعرض لها التراث المادي السوري والمؤسسات والمتاحف التي يفترض أن تحافظ على هذا التراث.
ورصد التقرير تعرض 29 متحفا ودار عبادة لأضرار مختلفة بسبب العمليات العسكرية وعمليات القصف الجوي والأرضي أثناء الحرب السورية، بينها متاحف تدمر والرقة التي تعرضت لأضرار جسيمة.
كذلك، تطرق التقرير لعمليات النهب الواسعة التي تعرضت لها مواقع أثرية سورية، راصدا سرقة 40635 قطعة أثرية من المتاحف والمستودعات ودور العبادة منذ عام 2011.
ولم تشمل القطع الأثرية المنهوبة -التي وثق التقرير عددها- نهب العديد من القطع الأثرية والتراثية والأعمال الفنية التي قيل إنها شحنت في 405 صناديق من قبل وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس (الذي توفي عام 2017 في باريس) إلى الإمارات.
وذكر التقرير الفرنسي أن طلاس حصل على غالبية هذه القطع بطريقة غير مشروعة، لكنه – بحسب التقرير – حصل على موافقة رسمية صادرة عن وزارة الثقافة السورية، متضمنة الإذن بشحنها إلى الإمارات.
وطبقا للتقرير ذاته، فإن المتاحف السورية لا تملك وسائل الحماية اللازمة لمقتنياتها ومحفوظاتها، وبالتالي كانت عرضة للتخريب والنهب والقصف والتدمير منذ 15 مارس/آذار 2011.
شهادات محلية
يقول مالك العبدالله (اسم مستعار) كانت اللقى التي يعثرون عليها المنقبون في دورا أوروبوس تقتصر على القطع النقدية الفضية والبرونزية، حيث كانت تباع بأسعار تتراوح بين 15 و 25 ليرة سورية للقطعة الواحدة. تجمع التجار من محافظات إدلب وحلب عند بوابة دورا أوروبوس، فوق المقابر الشمسية، حيث نصبوا خياما لشراء ما يعثر عليه المنقبون. كانت الآثار تجذب أهالي القرى المجاورة، الذين تركوا الزراعة وحفر الآبار للانخراط في البحث عنها.

وفي سياق متصل، يشير م.ع (اسم مستعار)، أحد المنقبين، إلى تجربته داخل دورا أوروبوس في البحث عن الآثار. تجلب امرأة ستينية إلى إحدى الخيام “كردان”، وهو طوق ذهبي ثقيل مرصع بالأحجار الكريمة، عثرت عليها أثناء حفرها بالقرب من قصر دورا أوروبوس. قدمت العجوز للتاجر الحلبي لبيعه، الذي أعرب عن إعجابه واقترح شراءه بمبلغ زهيد ( مليون ليرة سورية)! لكنها وافقت بعد تأكيدي لها على قيمته الكبيرة كـ”كنز” أثري نادر ولكن دون جدوى.
يقول أبو أحمد لموقع “الحل نت”، وهو اسم مستعار، في ظل السيطرة الكاملة لتنظيم “داعش” على ريف ديرالزور، وتعزيز قبضته الأمنية على المنطقة، برز دور “ديوان الركاز” كمركزية مسؤولة عن النفط والآثار في المنطقة، بإشراف المسؤول عن الآثار، الملقب بـ “أبو البراء”، الذي يحمل الجنسية التونسية.
أخذ التنظيم الإرهابي يستخرج تراخيص للمنقبين في منطقة دورا أوروبوس وغيرها من مناطق سيطرته، حيث أنشأ مكاتب تابعة لـ “ديوان الركاز”، إحداها في مدينة الميادين شرقي ديرالزور، والأخرى في مدينة البصيرة ومدينة البوكمال على الحدود العراقية السورية.
وأضاف أبو أحمد بالقول: “زرت مكتب الركاز بمدينة الميادين من أجل استيضاح شروط الترخيص، حيث كشف أحد أفراد التنظيم عن الشروط المطلوبة، تضمنت بطاقة دورة الاستتابة التي كان التنظيم ينفرد بفرضها على المدنيين، بالإضافة إلى ورقة تزكية يجب مهرها بتوقيع أحد أفراد التنظيم، وبصعوبة بالغة نجحت في الحصول على هذه التزكية وبالتالي الحصول على الترخيص للتنقيب في المنطقة”.
كان التنظيم الإرهابي يقتطع نسبة 20 بالمئة من قيمة كل قطعة أثرية تعثر عليها، وكان يفرض على المنقبين الإبلاغ الفوري عن كل العثورات، والتي كانت تفحصها لجان مراقبة يوميا للتأكد من التزامهم. كما كان التنظيم يجبر المنقبين على بيع ما يعثرون عليه لتجار موثوقين، وفقا لادعاءات العناصر.
كل التجار الذين كانوا يشترون الآثار يعملون بشكل غير مباشر لدى “داعش”، وكان هناك تكهنات حول استغلال “أبو البراء” لمنصبه لمصالح شخصية، وشراء الآثار بثمن منخفض لبيعها لشبكة تهريب كبرى.
في نهاية عام 2016، توجهت دورية تتبع لتنظيم “داعش” إلى منطقة دورا أوروبوس لإيقاف عمليات التنقيب بسبب ظروف غير معلومة، وفي ظل تصاعد الهجمات الجوية من قبل طيران التحالف الدولي. لاحقا، علمنا أن سبب إرسال الدورية كان هروب “أبو البراء” مع المئات من اللقى الأثرية والأموال النقدية إلى وجهة مجهولة، وهو ما توقعه البعض في سياق الفوضى والتخبط الذي شهده التنظيم.
تهميش ممنهج
في مدينة الرقة، التي كانت في العصور الإسلامية إحدى أهم مدن سوريا، والتي شهدت إهمالا مستمرا من قبل نظام الأسد المخلوع، حيث كانت المواقع الأثرية فيها تتعرض لعمليات التخريب دون تدخل حقيقي لحمايتها، حيث غابت المشاريع التي تهدف إلى الحفاظ على الآثار في المدينة، ما أدى إلى تهدم العديد من المواقع بسبب الإهمال أو الاعتداءات المستمرة.

كما شهدت محافظة الحسكة تسجيل المئات من حالات الاعتداء على المواقع الأثرية، معظمها في المناطق الجنوبية منها، من خلال عمليات الحفر العشوائي وسرقة القطع الأثرية من قبل قوى الأمر الواقع التي تعاقبت بالسيطرة على المنطقة.
كما يمكن الإشارة إلى فقدان العديد من القطع الأثرية التي كانت تزين المتاحف في المنطقة الشرقية، حيث كانت هذه القطع تُنهب وتُباع في السوق السوداء، في ظل غياب الرقابة الحكومية، وذلك بعد عام 2011 الذي كان فارقا زمنيا للسوريون الذين لم يكونوا وحدهم ضحايا الصراع، بل نال حتى إرثهم القديم ومخزونهم الحضاري نصيبا كبيرا مما يدور على الساحة السورية، إذ أصبحت المعالم الأثرية والتاريخية عرضةً لبراثن التهريب والسرقة والتخريب من قبل قوى الأمر الواقع التي لم تكترث بالقيمة الثقافية الكبيرة للآثار في البلاد.
وفي حديث مع الصحفي، رامي الأحمد، وهو صحفي من ديرالزور لموقع “الحل نت” حول أسباب تهميش نظام الأسد للمنطقة الشرقية من سوريا قال: “تهميش محافظة دير الزور بدأ منذ حقبة الأسد الأب واستمر في عهد الأسد الابن، بالطبع هذا التهميش كان متعمدا وليس وليد الصدفة، حيث كان الهدف منه إفقار المحافظة وهدم قيمها عن طريق إبعاد الكفاءات واعتماد شيوخ عشائر وأشخاص غير كفؤين لخدمة النظام”.
كما أن أحد الأسباب الرئيسية لهذا التهميش هو السيطرة الكاملة على المحافظات الثلاث من خلال إفقارها وإفقادها مكتسباتها، مما جعلها دائما ضعيفة، هذا الأمر شمل نهب الثروات التي تحتويها المنطقة، بداية من الآثار والمخزون الحضاري والتي كانت تباع لدول أوروبية وأجنبية، وانتهاء بحقول النفط والغاز، والثروات الزراعية والحيوانية، حيث كانت وارداتها وصادراتها تصب في خزينة الأسد الشخصية.
وأردف الأحمد: “أتذكر أنني حضرت اجتماعا في حقل العمر النفطي شرقي دير الزور، وكان الاجتماع إقليميا. أحد المجتمعين كان مدير الثروات الباطنية في سوريا، وكان من عائلة مخلوف، خال الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وهو من كان يتحكم بزمام كافة الحقول النفطية في سوريا، بما في ذلك دير الزور”.
ولفت الأحمد إلى أن عملية التهميش كانت ممنهجة من قبل نظام البعث لإضعاف المحافظة وإفقادها مقدراتها ومكتسباتها. وبالنسبة لمديرية الآثار التابعة لوزارة الثقافة في النظام السوري السابق كان الحال مشابها، فقد كانت المحسوبيات والفساد تسيطر على غالبية مفاصل المديرية التي لم تنفذ أي نشاطات أو فعاليات أو مبادرات لحفظ المواقع الأثرية.

إن تهميش وإهمال آثار المنطقة الشرقية من سوريا هو قضية معقدة تتداخل فيها العديد من العوامل السياسية والاجتماعية. وبالتالي، أدى سياسة البعث المهمشة والمتعمدة للمواقع التاريخية قد أدى إلى تدمير جزء كبير من التراث الثقافي السوري، ما يهدد بتلاشي هذا الإرث الحضاري الغني إلى الأبد. وعلى الرغم من المحاولات من بعض المنظمات المحلية والدولية خلال أعوام الصراع السوري للحفاظ على ما تبقى من هذه الآثار، فإن ما تم فقده بالفعل يمثل خسارة كبيرة ليس فقط على المستوى الثقافي، ولكن على المستوى الوطني أيضا.
ولا يخفى على أحد أن عيون السوريون ترقب الإدارة الجديدة للحكم بعد سقوط نظام الأسد المخلوع للنهوض بحال البلاد التي تعاني من كل أنواع الدمار في البنية التحتية والاجتماعية وعلى كافة الأصعدة، والتي يجب على أن تولي اهتماما بالإرث الثقافي والحضاري في مناطق الجزيرة السورية.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
الأكثر قراءة

وصفت بـالتاريخية لحظة تصديق الشرع على الإعلان الدستوري

هل تستفيد المصارف السورية من تعليق العقوبات عن “البنك المركزي”؟

هجوم لفلول النظام على حاجز للأمن العام بدمشق

نزوح الآلاف من الساحل السوري باتجاه لبنان.. تفاصيل

ميليشيات عراقية تعتدي على سوريين وتعتقلهم

ميليشيا عراقية تعتدي على السوريين.. دمشق تندّد والسوداني يأمر باعتقال المتورّطين
المزيد من مقالات حول في العمق

التوافق الكردي-الكردي واتفاق إدماج قسد خطى نحو تسوية سورية؟

خيارات بغداد الصعبة.. كيف تتحرك واشنطن لتطويق إيران من العراق؟

عصى ترامب تجلد “الحوثيين”: هل تخلت طهران عن حليفها الأخير؟

أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع

سوريا الجديدة تبدأ من الشمال الشرقي: مسار تكتيكي أم اتفاق تاريخي؟

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

ضباط الأسد في موسكو: هروب تكتيكي أم مناورة روسية؟
