تمثل السياسة الخارجية لسوريا في ظل وجود السلطة الجديدة بعد طي صفحة نظام بشار الأسد المخلوع إحدى الركائز الاستراتيجية التي يمكن من خلالها، فهم واستكشاف مستقبل سوريا. 

ومنذ وصول أحمد الشرع إلى دمشق، وبدء فترة انتقالية، يحبس العالم كما السوريين أنفاسه لمعرفة الأطر والمحددات التي سوف ترتسم في حدودها وسياقاتها السياسات المستقبلية للبلاد، وتعاود صياغة مقارباتها فيما يخص علاقاتها الخارجية، وتحديد بوصلتها بما يؤسس لمرحلة مغايرة عن السابق.

سوريا وسياسات الشرع الخارجية

فالعزلة الدولية التي فرضتها خيارات الحكم السابق على مدار عقود وفي حقبة مريرة امتدت منذ سبعينات القرن الماضي، على خلفية العلاقات غير الطبيعية مع أنظمة معادية للمحيط الإقليمي، وكذا الغرب والولايات المتحدة، مثلما هو الحال مع إيران، تسببت في عقوبات دولية، الأمر الذي نجم عنه تأثيرات سلبية على المواطن السوري وتدني الأوضاع الاجتماعية والقيود على الاقتصاد والاستثمارات.

ملك الأردن وولي عهده والرئيس المؤقت لسوريا، أحمد الشرع- “الديوان الملكي الأردني

بالتالي، كانت تلك السياسات تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، مع تحول سوريا إلى محطة ضمن محطات أخرى، يتم من خلال تهريب المخدرات ونقل الأسلحة والمقاتلين. وذلك في حالة تعكس التخادم المصالحي مع طهران أحيانا، ومع روسيا، أحيانا أخرى. بما يؤزم العلاقات مع الدول العربية والخليج وقد عانى من تفشي ظاهرة “الكبتاغون” التي لم تكن مجرد تجارة غير مشروعة للنظام البائد، إنما ضمن اقتصادياته التي يعتمد عليها في الحصول على موارده المالية، فضلا عن الدعم اللامحدود للميلشيات مثل جماعة “الحوثي” في اليمن. 

ويضاف لذلك، المجتمع الدولي وواشنطن، حيث إن الأوضاع لم تكن أفضل حالا عن سابقتها، فالوجود الروسي هدد مصالح الطرفين سواء في عدة مناطق بالشرق الأوسط أو في أوكرانيا. 

سعى الشرع المرة تلو الأخرى إلى بعث رسائل تطمينية أن سوريا لن تكون منصة تهديد أو يتم توظيفها لتهديد دول الجوار، غير أن هذه الرسائل ما تزال بحاجة إلى ترجمة أو بالأحرى سياسات عملية، تضع حدا للنفوذ الخارجي الذي شكل عبر وكلائه نقاط قوة في نطاقات حيوية جيواستراتيجية ليراكم ثروات ومصالح عديدة. 

في لقاءات خارجية للشرع تنوعت بين المملكة العربية السعودية والأردن، كما التقى مبعوثين أممين، ووفد من “جامعة الدولة العربية”، بينما تلقى دعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحضور اجتماعات “القمة العربية” الطارئة في القاهرة المزمع إجراؤها يوم 4 آذار/ مارس الحالي، ثمة مؤشرات إيجابية تتمثل في محاولة أطراف عديدة الانفتاح على سوريا الجديدة وعدم اتخاذ موقف ممانع أو معادي لها. 

وواقع الحال يؤشر كذلك إلى رغبة الأطراف الإقليمية والدولية في الحصول على أجندة عمل سياسية واضحة ومكتملة المعالم، تخص طبيعة التحالفات التي سوف تتماهى معها حكومة دمشق الجديدة، وفهم موقعها الحقيقي من خريطة العالم.

سوريا في ظل شرق أوسط جديد

ففي ظل الشرق الأوسط الجديد المفترض حدوثه كما تروج دعاية سياسية منذ ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قبل عامين، والعالم المتغير على وقع الصراعات والنزاعات العنيفة سواء في كييف أو غزة، فإن دمشق تبدو داخل سيل هادر من التحولات والتباينات، بما يجعل من الضروري اتضاح الانحيازات والمواقف التي ستتشكل معها السياسات السورية في محيطها الجيوسياسي، وفهم رهاناتها وتوافقاتها. 

ومن أبرز الملفات؛ مخاطر الإرهاب والتنظيمات المسلحة، قضية تهجير الفلسطينيين، القواعد الروسية، والنفوذ الإيراني، ناهيك عن الفاعلين الإقليميين مثل تركيا وحدود دورها.

الانفتاح على الخليج، ليس مهما فقط من ناحية الاقتصاد، إنما ذلك كله بالإضافة إلى التشابك السياسي الخارجي مع المحاور الاستراتيجية في المحيط العربي، بما يعزز من قدرات سوريا وتقوية دورها بالإقليم بشكل محوري وتتخطى الدور الوظيفي.

وقد كان لافتا في لقاء الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني وفد “الجامعة العربية”، برئاسة الأمين العام المساعد والممثل الشخصي للأمين العام للجامعة حسام زكي، أن أوضح الأخير طبيعة زيارته التي تعد الأولى منذ الإطاحة بـ”الأسد” وهي “التعرف على القيادة الجديدة في سوريا”.

وتابع: “جمعنا حديث مطول وصريح مع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع.. تشكل هذه الزيارة بالنسبة للأمانة العامة لجامعة الدول العربية أساسا في إعداد تقرير لجميع الدول الأعضاء حول الوضع في سوريا”. ذلك ما يتسق مع زيارات عديدة تهدف إلى “التعرف” المبدئي على الحكومة أو القيادة الجديدة واستشراف مستقبلها قبل بدء علاقات كاملة أو جزئية وبناء سياسات خارجية. 

وبحسب الأمين العام المساعد فإن “سوريا بلد محوري وما يدور فيه يخص العرب جميعا”، وأن “ما يحدث في سوريا يؤثر على الأمن القومي العربي”.

ضرورة الانفتاح على الإقليم العربي

كما جاءت الزيارة إلى الرياض لتعكس كذلك ذوبان جبل الجليد الذي كان يباعد بين النظام السابق وهذا المركز الإقليمي المهم في الشرق الأوسط، وتمثل الزيارة بداية وتوطئة لإعادة بناء الثقة، حيث اتسمت السياسات السابقة بالتوتر والضغوط فضلا عن التنابذ، لا سيما أن سوريا تحت الوصاية الإيرانية شكلت أكثر من تهديد لقيادات المملكة. 

ولي العهد السعودية والرئيس السوري المؤقت- “إنترنت”

من ثم، فإن الانفتاح على الخليج، ليس مهما فقط من ناحية الاقتصاد وتوفير فرص استثمارية لها عوائد ملموسة وغنية فضلا عن إعادة الإعمار، إنما ذلك كله بالإضافة إلى التشابك السياسي الخارجي مع المحاور الاستراتيجية في المحيط العربي، بما يعزز من قدرات سوريا وتقوية دورها بالإقليم بشكل محوري وتتخطى الدور الوظيفي الذي وقعت تحت شروطه في ظل التبعية لإيران. 

وتشكل العلاقات الطبيعية مع المحيط العربي والخليج فرصة لتسريع الحصول على شرعية، وإيجاد وسطاء لجهة رفع العقوبات وإنهاء العزلة الأممية. وبالتالي، فإن الفوائد الاقتصادية تكمل الأبعاد السياسية والاستراتيجية الأعمق جراء السياسات الخارجية الوازنة.

والاعتماد على تنويع الشراكات الخارجية، يسمح للدولة السورية أن تملك عدة أوراق وقدرة على المناورة، بدلا من الوقوع تحت تأثير وضغوط أطراف إقليمية محدودة لها كذلك مصالح ضيقة وفئوية في سوريا مثل تركيا أو قطر أو إيران، بينما تؤثر أهدافها على الوضع المحلي في ما يخص تهميش المكونات المحلية

لكن يظل ذلك أيضا مرهونا بقدرة حكومة الشرع في المرحلة الانتقالية على معالجة الفساد الهيكلي المتفشي في مؤسسات الدولة، وبما يسمح بتحسين بيئة العمل والاستثمار التي تجذب فرص متعددة للتنمية والتحديث ويساهم في إعادة بناء وتقوية الاقتصاد السوري.

ويمكن القول إنه مثلما حدد رئيس وفد “الجامعة العربية” طبيعة زيارته لدمشق، حيث تهدف إلى “التعرف” على القيادة الجديدة، بما يفرض هامش يجعل من عملية التقارب تحتاج إلى ما هو أكثر من تطمينات ورسائل، بل سياسات عملية توضح العلاقات الخارجية والدولية، فإن المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي الدكتور أنور قرقاش، سبق له مطلع العام، أن ذكر في مؤتمر في أبوظبي أمر مماثل وقال: “نسمع تصريحات معقولة وعقلانية حول الوحدة وعدم فرض نظام على جميع السوريين، لكن من ناحية أخرى، أعتقد أن طبيعة القوى الجديدة، ارتباطها بالإخوان، وارتباطها بالقاعدة، كلها مؤشرات مقلقة للغاية”.

فسوريا الجديدة المفترضة، بحاجة إلى سياسات مغايرة تظهر بصورة سريعة، وتكشف عن قطيعة مع “اقتصاد الكبتاغون” و”سياسة البعث” القائمة على الابتزاز والتهديد، وتعويم محور المقاومة وبناء ما يشبه أحلاف عسكرية بصفة طائفية وأيدولوجية. ومع التماس المسار الجديد سينعكس ذلك بشكل تلقائي على الحصول على الشرعية عربيا ودوليا، وضخ أموال للتنمية وإعادة الإعمار، واستعادة السيادة الكاملة بإنهاء أي تواجد أجنبي مؤقت أو دائم، الأمر الذي يحقق الاستقرار والفاعلية الإقليمية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة