تتجدّد مأساة نحو أكثر من مليون نازحٍ سوري في مخيمات الشمال السوري على طول الحدود مع تركيا، مع قدوم العواصف المطرية والفيضانات كل عام. يعيش هؤلاء في 1293 مخيم، منها 282 مخيماً عشوائياً، أقيمت في أراضٍ زراعية مستوية أو منخفضة، دون رصف طرقات بينها، ودون رفع الخيام عن الأرض بمقدار 30 سنتيمتراً؛ تضرَّر هذا الشتاء نحو 700خيمة كلياً أو جزئياً، وتشرّد أهلها، ومنهم من أمضوا ليلتهم وقوفاً خوفاً من الغرق.

كلّ ما يُقدم إلى تلك المخيمات هو الإغاثة لحظة وقوع الكارثة؛ فتركيا أغلقت حدودها بوجه النازحين بحجة اكتفائها من السوريين، وعدم تقديم المجتمع الدولي العون المادي لهم، والمنظمات الإنسانية والمدنية تقدم مشاريع عشوائية غير مترابطة ودون برامج يمكن أن تنهض بواقع تلك المخيمات، بينما تشكل الأموال المتدفقة باسم تلك المشاريع مصادر فساد جديدة في مجتمع الناشطين.

أما المعارضة السياسية وقوى الأمر الواقع من الفصائل العسكرية، سواء من فصائل الجيش الوطني والحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني، أو هيئة تحرير الشام، وحكومة الإنقاذ التابعة لها، فالأمر ليس في دائرة اهتمام هؤلاء.

تدّعي المعارضة المكرسة أنها تمثل الشعب والثورة في “المناطق المحررة”، وبالتالي هي تقول أنّها بديل عن النظام، أو ندّ له في مسارات الحل السياسي، سوتشي للحوار الوطني وأستانة وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية وغيرها.

سلوك المعارضة هذه، ومنذ بداية الثورة في 2011، يدلّ على أنها طالبة للسلطة وحسب، وأنها تريدها بأسهل الطرق. الثورة السورية ورد النظام القمعي عليها كانت فرصتها، وكانت تحالفاتها وتشكيلاتها مقامة على أساس فتح البلاد أمام عواصم الدول الإقليمية والعظمى للتدخل، وعلى هذا الأساس كانت تشكيلات هيئة التنسيق والمجلس الوطني ثم الائتلاف ومنصات موسكو والقاهرة وحميميم.

وفي 2015 تشكلت هيئة التفاوض في الرياض من هيئة التنسيق والائتلاف الوطني، وفي 2017 تم توسيعها بفرض منصة القاهرة وموسكو عليها ومستقلين وممثلي الفصائل، وقد تضم في الأشهر القادمة ممثلين عن مجلس سوريا الديمقراطية، بمساعي أميركية.

معظم هذه المعارضات دعمت فكرة تحرير المدن والبلدات وإقامة حكومة موازية؛ لن نناقش مساوئ هذه الفكرة، لكننا سنناقش سلوك المعارضة في المناطق المحررة. كان ينبغي تقديم صورة بديلة عن النظام بوصفه رمزاً للاستبداد والقمع والفساد.

ما تَقَدّم، هو صورة مماثلة للنظام: استبداد وقمع وسجون في مناطق هيئة تحرير الشام، وفساد كبير تقوده الفصائل التي تسيطر على المعابر ولا تقدم حلولاً لمصلحة الشعب، والمنظمات المدنية والإنسانية تعمل بلا تنسيق أو برامج تنمية، وهناك تبعية كلية لإرادة أنقرة في مناطق سيطرة الجيش الوطني، ونهب وتعفيش المنازل والأراضي في عفرين وجرابلس وغيرها.

لا حياة سياسية في المناطق “المحررة”، بل انكفأت التظاهرات كلياً لعدم جدواها، وبسبب الخوف من القمع والاعتقال، كما أنه لا حريات أولية، حيث يستمر مسلسل الاغتيالات للناشطين والثوار الأوائل وأصحاب الرأي، وآخرها محاولة اغتيال الإعلامي بهاء الحلبي.

كيف يمكننا أن نجد حياة سياسية وحريات في المناطق المحررة، دون توفر حدّ أدنى من القدرة على الاستمرار في الحياة. فهناك مستفيدون، عسكريون وموظفون إداريون وناشطون في العمل الإنساني، يقبضون رواتبهم بالليرة التركية عبر مصارف تركيا، التي تستفيد بدورها من الدولارات المتدفقة إليها، بينما بقية الشعب من المزارعين والتجار الصغار والحرفيين وغيرهم يتقاضون أجورهم بالليرة السورية، وهم متضررون من تحويلات العملة هذه.

الأكثر تضرراً، هم من لا يجدون فرصة عمل، فمشهد حاويات القمامة التي تمتلئ بالباحثين عما يسد الرمق، يتكرر نفسه من دمشق إلى إدلب وعفرين والباب، وفوق كل ما سبق يتربع مشهد مخيمات الشمال الغارقة في الطين والسيول على عرش منجزات المعارضة التي تدعي تمثيل تلك “المناطق المحررة”.

مع تتالي سقطات المعارضة السورية، ترتفع الأصوات المنتقدة لآليات عملها، ومعظم تلك الأصوات يطالب بإصلاحها وتغيير سلوكها؛ لقد فات أولئك أن هذه المعارضة هي من جنس النظام، لا يمكن إصلاحها، تعمل وفق آلية المحسوبيات والشلل، وفتح دكاكين لأجهزة المخابرات وللدول الداعمة لها، وإقصاء الأفكار الثورية والنقدية، وهي لا تملك أي برامج سياسية، سوى الوصول إلى السلطة بأي ثمن.

وخلافات هيئة التفاوض الأخيرة، على إثر تغييرات لأشخاص فيها، ومناشداتها لـ غير بيدرسون، المبعوث الأممي إلى سوريا، للتدخل وحل الخلافات، ثم تعليق الرياض عمل موظفي هيئة التفاوض في السعودية نهاية الشهر الجاري، كلها حوادث تدلّ على آلية عمل المعارضة، أي اعتبارات شللية ومحسوبية، وبالنتيجة هذه المعارضات هي وجه آخر للنظام، ولا يمكن إصلاحها.

إقصاء هكذا معارضة عن تمثيل الشعب بات ضرورة! لكن ذلك غير ممكن طالما أن الشعب مغيّب عن دائرة الفعل، وهو من كان فاعلاً في تظاهرات 2011 و 2012، رغم تصاعد العمل العسكري المرافق لها. وحينها كان الشعب يردد أنه “واحد واحد” وأنه “لا سلفية ولا إخوان” وكانت التظاهرات في المناطق الكردية جزءاً من الثورة السورية، وتقول بوحدة الشعب السوري.

كان للمعارضين، إسلاميين وليبراليين، دورٌ بارز في إظهار الأسلمة ضمن الثورة السورية، وغض النظر عن الجهادية والسلفية، ودور في تعزيز الطائفية والانقسام العربي الكردي عبر الرضوخ للأجندة التركية، ودور في دعم، أو التزلف لقادة الفصائل الإسلامية، التي تولت عمليات القمع والاعتقال والاغتيالات والنهب والفوضى الأمنية، ثم تم ضم قادة تلك الفصائل إلى تشكيلات المعارضة لتمثيل الشعب، أو بالأحرى لإعلان إنهاء أي دور للشعب.

يعاني الشعب في مناطق النفوذ السورية من الفقر المدقع ومن فساد الحاكمين ومن الاستبداد وانعدام الحياة السياسية والحريات وأية آفاق للمستقبل، في ظل وجود احتلالات وسلطات تتبع لها.

وإذا كان من بداية ممكنة للشعب السوري، فيجب أن تنطلق من عودته إلى وحدته وإلى دائرة الفعل. وبغير ذلك سيبقى نظام النهب والإجرام في دمشق مسلطاً على رؤوس معارضي الداخل، وستبقى هيئة التفاوض، ومن ضمّتها من تيارات ومنصات وفصائل وغيرها، أداة لتمرير الحلول التي قد يتوافق عليها الروس مع المجتمع الدولي، بحجة أنهم يمثلون الشعب، رغم سقوطهم، أخلاقياً لدى الشعب، كلّ شتاء، في وحل مخيمات الشمال.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.