كان يحلو للبعض وصف حي التضامن جنوبي دمشق، بأنه بمثابة سوريا المصغرة، نظرا للتنوع السكاني والطائفي في الحي الذي استقطب منذ نشأته تدريجيا كامتداد لمخيم اليرموك سوريين من مختلف المحافظات إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين شكلوا تقريبا ربع سكان الحي. وتشكلت في التضامن تدريجيا حارات خاصة بأبناء كل منطقة بمن فيهم بشكل أساسي سكان بلدة “عين فيت” في محافظة القنيطرة بعد حرب 1967 والتي أدت إلى احتلال إسرائيل الجولان وجزء من القنيطرة.

ولم تعترف السلطات بالحي إلا في عام 1974، لكن دون أن يترافق ذلك بتقديم الخدمات الأساسية، أو تحسين البنية التحتية للمنطقة التي ظلت تعاني مشكلات حياتية عديدة، وتعتبر بشكل عام من مناطق السكن العشوائي جنوبي العاصمة دمشق.

 ومع انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد النظام السوري في ربيع عام 2011، فرض النظام على تلك المناطق حصاراً تدريجياً، فيما تمترست القوات الموالية للنظام في نحو ثلث مساحة حي التضامن، مقابل سيطرة الفصائل المسلحة على نحو الثلثين مطلع العام 2012، وهو العام الذي شهد تبدلا في الواقع السكاني للحي، إذ نزح معظم سكانه إلى مدنهم وقراهم الأصلية بسبب اشتداد المعارك وقمع النظام وخشية الاعتقال والقتل، ومنهم كثر نزحوا أيضاً إلى مخيم اليرموك.

وفي المقابل وفد إلى الحي الموالون للنظام على أساس طائفي، وتمركزوا خاصة في شارع نسرين، وهم عبارة عن مقاتلي النظام وشبيحته وضباطه، ومعظمهم من متبني الفكر الطائفي أو من التابعين لإيران، وتركزت مهمتهم على قمع الاحتجاجات وقصف المناطق المتمردة ونصب الحواجز التي مثلت نقاط تصفية وإعدامات وخطف للمدنيين من أهالي التضامن والأحياء المجاورة.

 وبدأ الحصار المفروض على مناطق جنوبي دمشق يتشدد حتى تحول إلى حصار كلي اعتباراً من النصف الثاني لعام 2013، وذلك بمشاركة ميليشيات ومجموعات مسلحة محلية (شبيحة)، أغلبها ذات طابع طائفي تولت قمع الاحتجاجات بعنف شديد، مع ارتكاب كل أشكال الانتهاكات والجرائم من اعتقالات وضرب وتعذيب وقتل وحرق واغتصاب.

وجرى كلّ ذلك بمنأى عن أي محاسبة من جانب قوات النظام، والتي كانت في الواقع تشارك تلك المجموعات هذه الجرائم وتشجعهم عليها، عبر عناصر منتدبين من أجهزة الأمن أو من جيش النظام، خصوصاً من الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام بشار الأسد، إضافة إلى ميليشيات فلسطينية تتبع لفصائل أحمد جبريل و”فتح الانتفاضة” و”فلسطين الحرة” ممن تولوا المواجهة مع فصائل المعارضة في المخيم، بينما تولت عصابات نسرين التنكيل بالمدنيين.

وأثار التحقيق الذي نشر أخيراً في صحيفة الغارديان البريطانية، وهو من إعداد الباحثة السورية أنصار شحّود والباحث التركي الكردي أور أوميت أونغر، العاملين في “مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية” في جامعة أمستردام، صدمة في المجتمع السوري برغم تعوده خلال السنوات الماضية على أخبار المجازر والانتهاكات الفظيعة، لكنه الفيديو الأول الذي يوثق بالصوت والصورة مراحل إعدام عشرات المدنيين ورميهم في حفرة ومن ثم إحراقهم، مع ظهور وجوه القتلة بوضوح، والتعرف لاحقا على أسمائهم وصفاتهم.

كما اتضح أن هناك 27 فيديو آخر لدى الباحثين حول مجازر أخرى لم يتم الإفراج عنها حتى الآن.

  شارع نسرين.. الثقب الأسود

تشكلت أهم المجموعات المسلحة التابعة للنظام في حي التضامن خلال الأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية، وهم من كانوا يعرفون بـ”شبيحة شارع نسرين”، وسرعان ما امتد نشاطهم إلى خارج منطقة التضامن وتشكلت منهم ميليشيا “الدفاع الوطني”، والذين كانوا يعملون إلى جانب فرع الأمن العسكري، لكن معظم أو جميع الجرائم المرتكبة تمّت بواسطة مجموعات “شارع نسرين”، وهم “خليط من المدنيين وعناصر الأمن أو الجيش، وغالبيتهم الساحقة من متبني الفكر الطائفي.

والشخصان اللذان ظهرا في الفيديو، هما أمجد يوسف، صف ضابط المتطوع في الفرع 227 التابع للأمن العسكري، من (عين فيت) ونجيب الحلبي مواليد 1984، وهومن سكان حي التضامن، وكان يدير قبل الثورة ملهى في منطقة باب شرقي، وبعد تصاعد الأحداث، جمع مجموعة من الشبيحة في حي التضامن، واتخذ مقراً له بجوار جامع عثمان في الحي، قبل مقتله عام 2015 خلال حفر أحد الأنفاق على جبهة التضامن.

وخلال المقابلات التي أجرتها معه الباحثة شحود عبر “فيسبوك” عبر يوسف عن فخره بارتكاب المجزرة ثأراً كما قال لمقتل شقيقه الأصغر 2013 خلال خدمته في قوات النظام.

 وقال: “لقد انتقمت. لقد قتلت كثيراً، ولا أعرف عدد الأشخاص الذين قتلتهم”.

 وإضافة إلى هذين الشخصين، كانت عصابة أبو منتجب الأكثر شراسة في قتل المدنيين. وأبو منتجب (صالح الراس) قائد إحدى المجموعات التابعة لفرع الأمن العسكري وهو ضابط مسرح لأسباب تمس النزاهة، ويعتبر من أعتى المجرمين خلال تلك الفترة، وارتبطت باسمه العديد من المجازر، من بينها المسؤولية عن اختفاء عائلة فلسطينية من آل العمايري بما فيها الأم وبناتها وابنها، كانت في زيارة عند ابنتها المتزوجة في التضامن وتم خطفهم جميعا. 

وهناك شخص آخر يدعى حكمت الإبراهيم (أبو علي حكمت)، الذي كان مسؤولاً عن الشؤون العسكرية، وأشار إليه تحقيق الباحثين بصفته “قائد في الدفاع الوطني وعضو سابق في سرايا الدفاع، وكان يمتلك مقبرته البدائية لحرق جثث الضحايا الذين اعتقلهم عند الحواجز أو من مستشفى المجتهد”، إضافة إلى ياسر سليمان الذي يتحدر أيضاً من قرية عين فيت، وكان مستخدماً في المؤسسة الاستهلاكية، وعرف عنه بأنه كان يسرق السكر والرز قبل عام 2011، قبل أن يصبح بعد ذلك رجل أعمال وقائد مجموعة مسلحة.

وتضاف إلى هؤلاء، مجموعات الدفاع الوطني بدمشق بقيادة فادي صقر، ومجموعات تتبع للفرقة الرابعة وأمنها، وأيضاً مجموعات أبرمت تسوية مع النظام، وكبير كل هؤلاء اللواء بسام مرهج، قائد أركان الدفاع الوطني في سوريا.

مجازر بالجملة

بدأت عمليات التصفية من قبل هذه المجموعات في الأشهر الأولى من عمر الثورة وقبل ظهور السلاح في يد المعارضين. وتشير المعلومات المتقاطعة إلى أن عدد المفقودين كبير جداً، بعضهم تأكدت تصفيتهم، وكثيراً منهم لا أحد يعلم مصيرهم، بعد أن تحولت منطقة شارع نسرين إلى ثكنة عسكرية ضخمة وامتد نشاط المجموعات العاملة فيها، والتي يتم تسليحها من قبل أجهزة الأمن التابعة للنظام إلى مخيم اليرموك، حيث كانت تجري ملاحقة بعض الفارين من أهالي التضامن باتجاه المخيم.

وعلى غرار الضحايا في مجزرة التضامن والذين جرت تصفيتهم فوراً من دون محاكمة أو سؤال، فان معظم من تمت تصفيتهم خلال هذه الفترة هم من المدنيين، وقتلوا على قاعدة “التطهير الطائفي”، ذلك أن العسكريين، أي المنتسبين لـ”الجيش الحر” الذين كان يتم اعتقالهم لا يقتلون فوراً، بل كان يتم استجوابهم ببطء لأخذ معلومات منهم حول الفصيل الذي ينتمون إليه، ويتم تصفيتهم بشكل إفرادي، نظرا لقلة عددهم، وتباعد مواقيت احتجازهم.

 ويشير أحد الناشطين إلى انه تمكن في عام 2014 من التسلل مع مجموعة رفاقه إلى هذه المناطق التي كانت تتم فيها التصفيات في حي التضامن، ووثق في إحدى الحالات وجود نحو 50 جثة لم تدفن، منها 15 جرى حرقها. كما عثروا ضمن “كتلة دعبول” على جثث كثيرة، وكذلك في منطقة سليخة.

كما ينقل ناشط فلسطيني من سكان حي التضامن، عن شخص التقاه في لبنان تعرض للاعتقال قوله إنه جرى اعتقاله في تلك الفترة عند فرن التضامن، وسيق مع آخرين، ليحبسوا كلّ 6 أو 7 أشخاص، في دكان، ويتم إغلاق الباب عليهم، ثم يجري إخراج رأس كل واحد من فتحة صغيرة في الدكان، وتخلع رقبته ليموت ببطء.

 ويوضح أن المجموعة التي اعتقلته انشغلت بإعدام أشخاص آخرين، فتمكن من الهرب من الدكان، وانتقل زحفاً إلى شارع التضامن حتى وصل إلى مخيم اليرموك ثم هرب إلى لبنان.

هوية الضحايا

 وتشير المعطيات إلى أن الكثير من الضحايا الذين جرت تصفيتهم في حي التضامن عام 2013 هم من اللاجئين الفلسطينيين ونازحي الجولان، إضافة إلى مدنيين من محافظات سورية عدة مثل درعا وإدلب ودير الزور، حيث كان القتل يتم بوضوح على أساس طائفي، أي الأفراد، بزعم أنهم يمثلون حاضنة شعبية للمسلحين الذين يقاتلون النظام، خاصة بعد أن جرى في تلك الفترة التي انتزعت فيها المعارضة المسلحة مناطق واسعة من يد النظام، وأطبقت على العاصمة دمشق، التهويل من جانب أتباع النظام بأنه إذا جرت الإطاحة بالحكم، فسوف ترتكب مجازر طائفية، ويجب منع حصول ذلك بأية وسيلة.

وحسب المعطيات، فإن الاعتقالات كانت تتم بشكل رئيسي على الحواجز الثلاثة على مداخل مخيمي اليرموك وفلسطين كونها الأقرب إلى حي التضامن، حيث ينقل المعتقلون إلى التضامن لتتم تصفيتهم هناك بعد ساعات قليلة، وذلك بعد أن رفع مسلحو “شارع نسرين” في تلك الفترة شعار “كل واحد بمية”، بحيث أنه كانوا كلما قتل أحدهم في الاشتباكات مع مسلحي المعارضة، أو خسروا نقطة عسكرية، يقومون بحملات اعتقال عشوائية في حي التضامن والأحياء المجاورة، خصوصاً مداخل حي اليرموك، وينقلون المعتقلين إلى حي التضامن، حيث تتم تصفيتهم على الفور، مع الإشارة إلى أن الحواجز على مداخل اليرموك، وخاصة حاجز البطيخة، كانت تشهد في تلك الفترة حركة نشطة لسكان اليرموك والحجر الأسود لتأمين احتياجاتهم الغذائية أو للخروج كلياً من المنطقة التي بدأ يشتد الحصار عليها بعد سيطرة فصائل المعارضة على المخيم نهاية 2012.

واليوم مع اتضاح بعض معالم تلك الجرائم المرتكبة في تلك البقعة الكئيبة، واتضاح هوية بعض المرتكبين والتي اشتملت على كل أشكال الفظائع التي نسيتها الطباع البشرية في القرن الحادي والعشرين، فان السؤال هو متى تتم محاسبة هؤلاء المجرمين الذين ما زال كثير منهم يحظون بحماية النظام، بل وبالتقدير العالي من جانب أنصاره، بوصفهم أبطال حموا الوطن من الإرهاب، وليسوا مجرد مجرمين سفلة، جميع ضحاياهم من المدنيين العزل الأبرياء.

والواقع ان المعارضة السياسية أهملت كثيرا في طرح هذه القضية أمام المحافل الدولية والحقوقية، ولم تشكل فرقا حقوقية مختصة بتوثيق جرائم النظام، وتحري سبل رفعها أمام الجهات الدولية المختصة السياسية والقانونية، وليس لدى الائتلاف المعارض مثلا فريق قانوني محترف للتعامل مع هذا الأمر، فيما يتركز نشاطه على إطلاق التصريحات العاطفية التي لا تسمن ولا تغني أمام مجتمع دولي غير مبال أصلا بالقضية السورية، أو على الأقل ليست من أولوياته، وثمة تقاطعات عدة تجمعه مع النظام القائم في دمشق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة