يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن بدء حملة عسكرية تركية جديدة تهدف إلى توسيع مساحة الأراضي المحتلة من قبلها داخل سوريا لتصل إلى عمق 30 كيلومتراً، حيث تروج الحكومة التركية لهذه الحملة على اعتبارها ضرورة أمنية تركية لحماية مجالها الحيوي، الأمر الذي يذكرنا بذات الادعاءات التي أطلقتها روسيا ترويجا لغزوها أوكرانيا قبل بضعة أشهر. وهو ما يشكل تهديدا جديدا يتعرض له قسم من السوريين المقيمين في المناطق التي تستهدفها العملية العسكرية التركية الخاضعة اليوم لسيطرة قوات قسد، كما يهدد استقرار النسيج المجتمعي السوري المضطرب أصلاً بفعل ممارسات الحكومة السورية الإجرامية وممارسات قوى الاحتلال المتعددة كذلك.


كما يترافق الحديث عن الحملة العسكرية التركية مع تصاعد بعض الأصوات الشامتة بقوات قسد ومؤيديها من السوريين، وهو ما يكشف عن عمق الأزمة الاجتماعية والسياسية السورية الداخلية، التي ساهمت في تحويل الموقف من أي اعتداء يطال أرض وشعب سوريا إلى مسألة نسبية قابلة للتغير والتبدل وفق المرحلة والجهة المعتدية، وعليه نجد بعض الأصوات النشاز المؤيدة للاعتداء التركي المحتمل، تماما كما كنا نجد أصواتا نشازا مؤيدة لاعتداءات قوى الاحتلال الأخرى أو وكلائهم الميدانيين، من الاعتداءات الروسية والإيرانية و”الإسرائيلية”…


حيث تنطلق الأصوات النشاز المدافعة عن اعتداءات قوى الاحتلال من مبدأين إثنين وفقا لمنطقهم، الأول يتمثل في مقولة عدو عدوي صديقي، التي تفسر وفقا لهم ذريعة كافية للاحتفال بأي اعتداء على الجغرافية والشعب السوري، إن ألحق الاعتداء بعض الأضرار ولو كانت قليلة جدا بإحدى قوى الأمر الواقع المسيطرة اليوم، من النظام السوري وصولا إلى قسد والفصائل والكتائب المسيطرة في إدلب ومحيطها.


يعبر هذا المنطق الأعوج عن خلل عميق في فهم القضية السورية وتناقض صريح مع أهداف الثورة وتطلعات السوريين، فالثورة من حيث الجوهر هي نضال شعبي محق من أجل تمثيل مصالح السوريين ولاسيما المفقرين والمهمشين منهم، الذين طالهم فساد واستبداد واستغلال النظام الحاكم وبالتأكيد تجسد هذا الفساد في خرق كل القوانين التي تخص حقوق الإنسان.


وعليه لم تسعَ الثورة إلى فتح مواجهة دموية مع النظام المسيطر في حينه، بل على العكس كانت تأمل بتحقيق التغيير المنشود بشكل سلس وسهل وبأقل التكاليف الممكنة، وذلك انسجاما مع مصلحة الشعب السوري.


أي لا تسعى الثورة أو المصلحة السورية إلى استبدال القوى المسيطرة بقوى جديدة من ذات الطبيعة، بل تعمل على تمكين الشعب السوري من خيرات سوريا ومن إدارة شؤونها، وهو ما يتم سحقه تحت أقدام قوى الاحتلال المتعددة، فقوى الاحتلال كما ثبت بممارساتها العملية، تفرض قوى أمر واقع جديدة مرتبطة بها، ولا تقل استبدادا واستغلالا وفسادا عن النظام السوري.


ومن ناحية ثانية مكملة تساهم اعتداءات قوى الاحتلال المتكررة في إراقة دماء السوريين المدنيين من قبل طرفي النزاع، كما تساهم في تشريد قسم من السوريين مرة جديدة، وهو ما يضاعف عليهم صعوبات الحياة الصعبة أصلا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.


وعليه وبكل تأكيد لا تمثل عبارة عدو عدوي صديقي، مثالا يحتذى هنا، بل على العكس تبدو عبارة منمقة لترويج الاحتلالات وتقسيم سوريا وتدمير مستقبلها، كون عدو عدوي هنا له ذات الطبيعة القسرية والنهبية والإجرامية.


المبدأ الثاني الذي يروج له مؤيدو اعتداءات قوى الاحتلال ينطلق من تلاقي مصالح السوريين أو جزء منهم مع بعض قوى الاحتلال، وهو ما يروج لها النظام السوري تجاه قوى الاحتلال الإيراني والروسي، ويروج له بعض مؤيدي الاحتلال التركي. فكل فئة من هذه الفئات تروج لأكذوبة تقاطع المصالح مع إحدى قوى الاحتلال، وهنا لابد من التمعن بهوية المصالح المتقاطعة وهوية أصحابها، فهل نتحدث عن تقاطع مصالح الشعب السوري أم مصالح قوى الأمر الواقع الفاسدة والمستغلة والمستبدة، وهو ما أوضحته تجارب السنوات الماضية دون لبس أو شك، فقوى الأمر الواقع هي الفئة الوحيدة التي تتقاطع مصالحها مع مصالح قوى الاحتلال.


وهو أمر طبيعي وبديهي نظرا لتطابق طبيعتهما النهبية والاستغلالية والإجرامية، فكل منهما أي قوى الاحتلال وقوى الأمر الواقع تعمل على استغلال ونهب ثروات سوريا والسوريين من أجل مراكمة ثرواتها وفرض سيطرتها التي تؤمن لها مزيدا من الثروة والمكانة السياسية والاجتماعية.

في حين تتناقض مصالح الشعب السوري بجميع تنوعاته وأماكن تجمعه الجغرافية الحالية والماضية مع مصالح قوى الاحتلال والأمر الواقع بشكل مطلق وجذري، لأن مصالح السوريين والمفقرين منهم خصوصا تتطلب تحكم الشعب السوري بمصيره وخيراته وثرواته وقدراته وإمكانياته، وهو ما تَحول قوى الاحتلال والأمر الواقع دونه بكل ما أوتيت من قوة، حيث نجدها تفرض سيطرتها بأبشع وأقذر السبل كالاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية.


ثم، وبعيدا عن ذرائع أتباع قوى الاحتلال، لابد من تسليط الضوء على ظاهرة مكررة ومتكررة دائما مرتبطة بهذا الشأن، وهي ظاهرة متاجرة كل قوى الاحتلال بأرض سوريا وشعبها، فعلى مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية شهدنا تقلبات عديدة في هوية الاحتلال المسيطر على مساحات شاسعة من الجغرافية السورية، غالبيتها كانت نتيجة مساومات دنيئة بين قوى الاحتلال ذاتها، أي عبر اتفاقيات سرية بداية ومعلنة لاحقا تعيد توزيع الجغرافية السورية بين القوى المحتلة لسوريا، كما حصل في محافظة إدلب من تراجع تركي لصالح تقدم قوات النظام السوري وقوى الاحتلال الروسي والإيراني.

وكما حصل من توافق أمريكي- روسي على منح تركيا السيطرة على مناطق كانت خاضعة لسيطرة قوات قسد، بما عرف في حينها بعمليات درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون، وهو ما يخشى تكراره قريبا سواء في محيط إدلب التي تتعرض بشكل متكرر لاعتداءات النظام السوري والمليشيات الإيرانية والطيران الروسي الحربي، أو في مناطق سيطرة قسد التي تستهدفها الحملة العسكرية التركية المحتملة.


أخيرا وبما يخص إمكانية تحقيق الهدف التركي المعلن بإحكام السيطرة على مزيد من الأراضي السورية بعمق يصل لحدود 30 كيلومترا، اعتقد من المبكر التسليم بصحته وذلك لعوامل دولية وإقليمية عديدة، فبعد غزو أوكرانيا بتنا في مرحلة مساومات دولية، نتيجة تصاعد الاستقطاب بين المعسكرين الشرقي ممثلا بروسيا والصين؛ والغربي ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة البريطانية، وهو ما يتيح للدول الطرفية والدول ذات النفوذ الإقليمي إمكانية المساومة على أوضاع ومستقبل الإقليم، وهو ما تحاول تركيا استغلاله بشأن نفوذها وسيطرتها في سوريا ونسبيا في العراق، انطلاقا من حاجة المعسكر الغربي لها من أجل تشديد الخناق على روسيا أولا، ومن أجل تسهيل ضم السويد وفنلندا للحلف الأطلسي ثانيا.


بيد أن ذلك مرهون بجملة من الشروط الأخرى التي تعيد رسم علاقة تركيا بروسيا ونسبيا بإيران أيضا، الأمر الذي قد يهدد جزء من مصالحها داخل وخارج سوريا، خصوصا تلك التي ساهم التقارب التركي- الروسي في تحقيقها، كما قد تلعب إيران وربما روسيا دورا في إفشال المخطط التركي إن لم تحظ العملية العسكرية التركية بدعمهما غير المعلن.


وعليه أعتقد أن هناك احتمال كبير لحدوث مساومة أمريكية- تركية على حساب قسد، دون أي عملية عسكرية، من خلال فرض ضوابط سياسية وأمنية وعسكرية على قدرات قوات قسد وعلى سيطرتها السياسية شبه المطلقة اليوم على مناطق سيطرتها، حيث يبدو هذا السيناريو الوحيد الذي يلبي مطامع تركيا في المنطقة، ويحافظ على ذراع أمريكا في سوريا ويحيد روسيا وإيران والنظام السوري عنها. وهنا لابد من الإشارة إلى احتمال توسع رقعة التوتر العسكري والسياسي بين قوى احتلال سوريا، التي قد تطال إدلب ومحيطها وطبعا ريف حلب الشمالي.


إذ قد تساهم المقاربة التركية- الأمريكية في تصاعد الاعتداءات العسكرية الإيرانية على المناطق المحسوبة على تركيا بدعم روسي صريح ومباشر، ردا على التقارب التركي- الأمريكي ورفضا له، فالهدف الأمريكي من هذا التقارب واضح للجميع، بتشديد الخناق على روسيا، وهو ما يعني تحديد اصطفاف تركيا مع المعسكر الغربي، أي فضا للشراكة الروسية- التركية لاسيما في سوريا وتحديدا في شمالها.


من كل ذلك نجد من الخطأ تناول التصريحات التركية الأخيرة من باب التشفي والشماتة بقوات قسد نتيجة مساومة أو تخلي الولايات المتحدة عنها، فقد ذاق داعمو الاحتلال التركي من هذه الكأس سابقا ومن المحتمل أن يذوقوها مجددا مستقبلا، عندما تخلت تركيا عن مساحات جغرافية في محيط إدلب، أو من خلال تخليها عن اللاجئين السوريين المتواجدين داخل تركيا كما كشفت الأحداث في الأسابيع الماضية، وعليه فقد حان الوقت للبحث عن مخرج وطني سوري من عباءة قوى الاحتلال ومن الواقع المأساوي الكارثي الموجود في سوريا، وهو ما يتطلب العمل على بناء حركة تحرر سورية شعبية شاملة وكاملة لا تهادن مع أي مع قوى الاحتلال ولا تساوم على مصالح الشعب السوري أينما كان، وذلك انطلاقا من وحدة الأرض ومصير الشعب السوري، وذلك للتخلص من تلاعب قوى الاحتلال بمصالح السوريين وبأرضهم وبهم، وإن تطلب تحقيق ذلك وقتا طويلا نسبيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة