في سابقة هي الأولى من نوعها، انقلبت كازاخستان، الدولة الواقعة في قلب آسيا الوسطى، على سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعلنت أمس الأربعاء، نهاية مسار “أستانا” المتعلق بالأزمة السورية، في خطوة مفاجئة تثير تساؤلات كثيرة حول الدوافع والتداعيات. 

فبينما تصرّ موسكو على استمرار المسار، يثار السؤال الأهم: لماذا تتمسك موسكو بمسار “أستانا” وما هي المصالح والأهداف التي تجعلها تصرّ على استمراره على الرغم من هذه الخطوة المفاجئة من قبل كازاخستان.

مسار “أستانا” يعود تأسيسه إلى عام 2017، حينما استضافت كازاخستان محادثات سورية ثلاثية بين الحكومة السورية والمعارضة، برعاية روسية وتركية وإيرانية. ومنذ ذلك الحين، أقيمت عشرون جولة من المحادثات، تهدف إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية المستمرة منذ سنوات، وذلك من خلال تثبيت وقف إطلاق النار وتسهيل عملية المصالحة وإعادة الإعمار في سوريا. 

لكن هذا المسار المباشر بين الأطراف السورية والتي قادتها روسيا، تبدد فجأة بإعلان كازاخستان إنهاء المسار بشكل مفاجئ ومشددة على عدم وجود حل عسكري للأزمة بعد عودة سوريا إلى الحاضنة العربية. وهنا يبرز تساؤل آخر، وهو كيف ستؤثر هذه التطورات على العلاقات الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران فيما يتعلق بالأزمة السورية، وما هي التحديات التي تواجه العملية السياسية لحل الأزمة السورية.

كازاخستان تنهي فجأة مسار “أستانا”

انتهت الجولة العشرون من اجتماعات “أستانا” حول سوريا، أمس الأربعاء، باتفاق بين روسيا وإيران وتركيا على عدم وجود حل عسكري في سوريا، وتأكيد الالتزام بالتوصل إلى حل سياسي مستدام يقوده الشعب السوري، بالتنسيق مع الأمم المتحدة وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأعربت الدول المشاركة عن قلقها الشديد إزاء الأوضاع الإنسانية في سوريا، التي تفاقمت بسبب الزلزال المدمر في السادس من شباط/فبراير 2023.

انتظار المسؤولين لوزير خارجية جمهورية كازاخستان لإعلان البيان الختامي لمسار "أستانا" - إنترنت
انتظار المسؤولين لوزير خارجية جمهورية كازاخستان لإعلان البيان الختامي لمسار “أستانا” – إنترنت

لكن نائب وزير خارجية كازاخستان، كانات توميش، دعا بشكل غير متوقع إلى إنهاء المحادثات الثلاثية، معلنا أن هدفها قد تحقق. وقال للصحفيين “يمكن اعتبار خروج سوريا التدريجي من العزلة في المنطقة علامة على أن عملية أستانا أكملت مهمتها”.

وطبقا لحديث توميش، فإنه بالنظر إلى عودة سوريا إلى أسرة الدول العربية يقترح الإعلان رسميا أن الاجتماع العشرين لعملية أستانا هو الأخير. ومن الواضح أن هذه لم تكن خطة أطراف المفاوضات الثلاثة إذ قالوا في بيان مشترك بعد المحادثات إن الاجتماع المقبل سيعقد في وقت لاحق من هذا العام دون تحديد المكان.

وفد الحكومة السورية أكد أن أي نتائج فعلية في إطار “أستانا” يجب أن ترتكز على تأكيد تركيا على سحب قواتها من الأراضي السورية، وفقا لجدول زمني واضح وخطوات محددة، وأن تبدأ هذه الانسحابات فعليا. بينما أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن نائب وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا وسوريا ناقشوا في الاجتماع عناصر “خريطة طريق” لإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة. 

الدول الثلاثة أكدت على الأهمية البالغة لـ “الجنة الدستورية السورية”وتنفيذ قرارات مؤتمر “الحوار الوطني السوري” في سوتشي، وذلك لتعزيز التسوية السياسية للصراع في سوريا. ودعت الدول إلى عقد الجولة التاسعة لـ”الجنة الدستورية” دون تأخير إضافي، مع التأكيد على التزامها بدعم عمل اللجنة من خلال المشاركة المستمرة مع الأطراف السورية في اللجنة والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لسوريا غير بيدرسون كميسّر، لضمان استمرارية وفاعلية عملها.

أيضا جاء في البيان الختامي أنه تم استعراض التفاصيل الخاصة بالوضع في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتم التوافق على بذل المزيد من الجهود لضمان استقرار دائم في المنطقة، بما في ذلك الاهتمام بالوضع الإنساني في منطقة خفض التصعيد والمناطق المحيطة بها. 

في المقابل، أكدت وسائل الإعلام التركية الرسمية أن أنقرة ستتخذ قرارها النهائي بشأن استمرار المسار “التطبيعي” مع دمشق استنادا إلى نتائج اجتماع نور سلطان. وأشارت تلك المصادر إلى أن الاجتماع الرباعي في نور سلطان سيتم خلاله تقييم العودة الطوعية للاجئين السوريين ومناقشة الخطوات الملموسة التي يجب اتخاذها لتحقيق “تطبيع” العلاقات بين تركيا وسوريا.

دور روسيا انتهى؟

قرار كازاخستان بإنهاء مسار “أستانا” فجأة يمكن تفسيره بسبب عدة عوامل، وفقا لما ذكره المحلل السياسي، آصف ناريمانلي، لـ”الحل نت”، قد تكون أحد هذه العوامل هو رؤية كازاخستان لتحقيق هدفها المعلن في استعادة سوريا إلى الحاضنة العربية بعد عودة دمشق إلى “جامعة الدول العربية”، وهو ما يمكن اعتباره إنجازا لهدف المحادثات في مسار “أستانا”. قد يكون هناك أيضا عوامل داخلية أخرى في كازاخستان تدفعها لإنهاء المسار، مثل التحولات السياسية أو الاهتمام بأولويات داخلية أخرى وإنهاء سياسة العزلة التي فرضها بوتين على الدولة.

البيان الختامي لـ "أستانا" 20 يدعو إلى "تطبيع" الوضع في إدلب - إنترنت
البيان الختامي لـ “أستانا” 20 يدعو إلى “تطبيع” الوضع في إدلب – إنترنت

بحسب ناريمانلي، ترغب موسكو في الاستمرار في مسار “أستانا” رغم انسحاب كازاخستان لعدة أسباب. قد يكون لدى روسيا مصلحة في الحفاظ على دورها كوسيط رئيسي في حل الأزمة السورية والحفاظ على نفوذها في المنطقة. قد ترى موسكو أيضًا أن مسار “أستانا” يوفر منصة للتفاوض والحوار المستمر بين الأطراف المعنية في الصراع، ويعزز الاستقرار السياسي في سوريا.

حيث يُعد مسار “أستانا” إحدى الفرص الرئيسية التي تمكّن روسيا من تعزيز دورها الإقليمي والدولي كوسيط في الشرق الأوسط، والحفاظ على تأثيرها في المنطقة. إذ تسمح هذه المحادثات لموسكو بأن تظهر نفسها كقوة دولية تحمل الحلول وتسعى لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

أيضا تمثل سوريا حجر الزاوية في استراتيجية روسيا الإقليمية والدولية، وهي حليفة رئيسية لروسيا في المنطقة. لذلك، فإن استمرار المسار يعني استمرار العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ودمشق، والتي تلعب دورا هاما في تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة والحفاظ على المصالح الاقتصادية والعسكرية لروسيا في سوريا.

كذلك طبقا لحديث ناريمانلي، يمثل مسار “أستانا” أداة للضغط السياسي على الأطراف الأخرى المشاركة في الأزمة السورية، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وباستمرار هذا المسار، يمكن لروسيا أن تحتفظ ببعض المصداقية والقوة التفاوضية في المشهد الدولي، وذلك من خلال تمرير رسائلها ومواقفها بشكل فعّال إلى الأطراف الأخرى.

إصرار موسكو على الاستمرار في مسار “أستانا” بعد المفاجئة التي تلقتها عقب انتهاء الجولة العشرين كان له إرهاصات أيضا، فالحديث عن نقل مكان انعقاد اجتماعات “اللجنة الدستورية” الذي بدأ منذ أشهر أعيد طرحه مؤخرا، حيث تم اقتراح مدينتين رئيسيتين هما العاصمة المصرية القاهرة والعاصمة العمانية مسقط، وهما ترى موسكو أن البساط الذي تفرض سياستها فيه سُحب منها.

أنقرة تعود للمربع الأول

بعد انتهاء مسار “أستانا”، يمكن أن تتطلب معالجة الأزمة السورية خطوات إضافية. قد تشمل هذه الخطوات تعزيز الجهود الدبلوماسية الدولية، ودعم العملية السياسية التي يقودها السوريون أنفسهم، وتعزيز الجهود الإنسانية وإعادة الإعمار في المناطق المتضررة.

اجتماع سوريا وتركيا وإيران وروسيا لعقد الجولة 20 في مسار "أستانا" - إنترنت
اجتماع سوريا وتركيا وإيران وروسيا لعقد الجولة 20 في مسار “أستانا” – إنترنت

من المرجح أن تؤثر هذه التطورات تبعا لما يراه ناريمانلي، على العلاقات الثلاثية بين روسيا وتركيا وإيران فيما يتعلق بالأزمة السورية. قد يزيد انسحاب كازاخستان من المسار من حدة الاختلافات والتوترات بين الأطراف الثلاثة، ويفتح الباب أمام تحركات ومسارات جديدة في الجهود الدبلوماسية.

العملية السياسية لحل الأزمة السورية تواجه تحديات عديدة حتى بعد عودتها للمسار العربي. ومن بين هذه التحديات التوافق الدولي على إطار سياسي للحل، وتحقيق وقف لإطلاق النار الدائم، وتنظيم عملية سياسية شاملة تضمن مشاركة جميع الأطراف السورية المعنية، والتعامل مع الجوانب الإنسانية والإعمارية، ومعالجة قضية اللاجئين والنازحين.

من المتوقع وبناءً على ما قالته وسائل الإعلام التركية حول “التطبيع” مع دمشق، أن تعود أنقرة إلى المربع الأول وتطالب بعملية عسكرية في شرق سوريا وإنشاء منطقة آمنة، وتفعيل دور المعارضة، بناء على ضعف الموقف الروسي والإيراني بانسحاب حليف موسكو من المحادثات ونمو الدور العربي في العملية السياسية السورية.

فيما لا تنحصر شروط دمشق لـ “تطبيع” العلاقات مع أنقرة في انسحاب تركيا من المناطق التي دخلتها الجيوش التركية، بل تتضمن أيضا تعريفا مشتركا للإرهاب يتخطى الحركات الكردية إلى أكبر عدد ممكن من فصائل المعارضة و”هيئة تحرير الشام”.

المفاوض الروسي ألكسندر لافرنتييف، ذكر أنه “لا يمكن أن نقول إن عملية أستانا انتهت؛ لكن إذا قرر الجانب الكازاخستاني أن هناك حاجة لنقلها إلى موقع مختلف، فسنناقش ذلك ونختار مكانا”، مضيفا أنه يمكن لروسيا وتركيا وإيران على سبيل المثال التناوب في استضافة الاجتماعات.

موسكو ركزت في الاجتماع على الانتهاء من إعداد “خارطة الطريق” المتعلقة بتطبيع العلاقات التركية السورية قبل الحديث عن لقاء رئيسي البلدين، وشددت على ضرورة عرضها على رؤساء الدول الأربع قبل البدء بمناقشة أي لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري بشار الأسد، بحضور قادة الدول الضامنة لمسار “أستانا”.

انقلاب كازاخستان على سياسيات الرئيس الروسي بوتين، يبدو أنه جاء بسبب وجود اهتمام متزايد بإطلاق مسار جديد في إحدى عواصم الدول العربية للتوصل إلى حلٍّ سياسي في الأزمة السورية. ومن المهم التأكيد على أن هذا الاتجاه الجديد قد يعني تحولا في الفعاليات والآليات المستخدمة في إطار الحل السياسي.

قد يتضمن المسار الجديد استمرار العمل بآلية “اللجنة الدستورية” السورية التي تم إنشاؤها بمبادرة من الأمم المتحدة، وقد تشمل المبادرة الجديدة توسيع مشاركة الدول العربية في العملية وتعزيز تأثيرها، وهذا يعني أنها قد تتطلب مشاورات وتفاوضات إضافية لوضع آليات جديدة وتنسيق أكثر فعالية بين الدول العربية المشاركة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات