عندما يرتفع الصوت الاقتصادي في العاصمة دمشق، يصبح من الصعب تجاهل الجدل الذي يحيط بالأسعار القياسية لبعض السلع الأساسية. فقد شهدت المدينة في الآونة الأخيرة ارتفاعا ملحوظا في أسعار خمسة أنواع من السلع الغذائية، تلك التي تعدّ ركيزة الحياة اليومية للسكان.

في ظل ربط الحكومة السورية أسعار الشراء بالدولار الأميركي، تزداد المعاناة الإنسانية يوما بعد يوم. حيث تعاني البلاد من نقص حاد في المواد الغذائية الأساسية، وارتفاع كبير في أسعارها، وانخفاض شديد في قيمة العملة المحلية. كما تشهد الأسواق ندرة في بعض المنتجات، وفيضان في أخرى مهرّبة من دول مجاورة. ويصارع المواطنون لإطعام أُسرهم والحفاظ على حياتهم.

تعكس هذه الزيادات الجديدة في الأسعار مأساة اقتصادية تتعاظم بمرور الوقت. إذ يبدو أن المعاناة الاقتصادية في سوريا لا تزال تزداد تعقيدا وتأثيرا، تاركة آثارها العميقة على حياة الناس. فغلاء الأسعار ليس مجرد تقرير إحصائي، بل هو تجربة شخصية للمواطن تمتد إلى طاولات العشاء وتتحكم في الخيارات اليومية للملايين.

أبرز السلع التي حلّقت

خمسة أنواع غذائية أساسية سجلت أسعارا قياسية في دمشق، فأسعار الزيت النباتي بكل أنواعه شهدت ارتفاعا كبيرا مع فقدان بعض الأصناف من الأسواق، ووصل سعر لتر الزيت 30 ألف ليرة سورية.

الزيت والسكر والطحين، والقهوة والبطاطا، سردت قصة تفاوت وتناقض تلك الزيادات. حيث يتجول السوريون بين رفوف المتاجر ومنافذ البيع في بحث مضن عن بديل مناسب وأسعار معقولة، في محاولة للتكيف مع هذا الواقع.

بيع في دمشق لتر الزيت النباتي بسعر 16 ألف ليرة قبل أسبوعين، واليوم يتراوح سعره بين نوع وآخر ما بين 27 إلى 32 ألفا، فيما كان يُباع 5 لتر زيت “مهرب” بسعر 60 ألف ليرة سورية، واليوم يباع بما يزيد عن 100 ألف ليرة.

بدوره  كيلو البُن التواصي وصل سعره إلى 300 ألف ليرة سورية، والنوع الثاني منه هيل وسط بيع بسعر 150 ألف ليرة، ومن دون هيل الكيلو بـ 120 ألف ليرة. حيث أكد رئيس جمعية “البُن” بدمشق عمر حمودة، في تصريح لموقع “غلوبال نيوز” المحلي أمس الأحد، بأن البُن الموجود في الأسواق حاليا ذو منشأ هندي من فئة الروميستا، في حين أن البُن البرازيلي المستورد بات بكميات محدودة.

نشرة أسعار الخضار والفواكه والفروج والبيض الصادرة عن مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بمحافظة ريف دمشق، حددت أسعار كيلو السكر بـ 18 ألف ليرة، والطحين بـ 12 ألف ليرة، وكيلو البطاطا 4 آلاف ليرة سورية.

لكن محلات الخضار في دمشق وريفها تشهد حالة من الركود والخسارة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد، حيث ازدادت الأسعار ضعف المنصوص عليه في النشرة، مما أدى إلى رمي كميات كبيرة من الفواكه والخضروات التي فقدت صلاحيتها في مكبات القمامة.

انتظار البضائع المهربة

في مشهد يعكس تفاقم الأوضاع الاقتصادية، تصاعدت حدة الصدمة بين السوريين مؤخرا، وذلك بعد ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق عقب قرار رفع الدعم عن مادة البنزين وزيادة أسعار المحروقات والمشتقات النفطية. ومما لا شك فيه أن هذا القرار أثّر بشكل جنوني على حياة المواطنين، وباتت نتائجه تظهر واضحة في سوق البضائع.

على خطى الزيت المهرّب، انتشرت ظاهرة المواد المهرّبة من مناطق حدودية مختلفة، لتغزو الأسواق السورية بأسعار تتناسب مع السوق المحلية بشكل لافت. وهذا التهريب لم يقتصر فقط على السلع الأساسية، بل شمل جميع السلع من المواد الضرورية إلى تلك الكمالية.

لم يكن هذا التحول إلى البضائع المهرّبة مجرد تقلّب عابر في عادات التسوق، بل هو تحول ضروري اضطر إليه الكثيرون نظرا للتحديات الاقتصادية المتنامية. فانخفاض أسعار هذه البضائع المهرّبة وجودتها الملائمة تجعلها خيارا واقعيا للعديد من الأفراد الذين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم اليومية.

على الرغم من الوجه الآخر لهذا الظاهرة، والذي يتضمن تهديدا للاقتصاد المحلي وقطاعاته، إلا أنه يعكس الواقع القاسي الذي يعيشه السكان والذي يدفعهم إلى تكييف سلوكياتهم لمواجهة هذه التحديات.

بينما يتم تبادل الاتهامات بين كبار التجار وتجار المفرق حول أسباب ارتفاع الأسعار في الأسواق، يشكو التجار من عدم تعديل الأسعار بعد زيادة تكاليف الإنتاج والنقل، بينما توقف بعض تجار المفرق عن العمل حتى تستقر الأسعار، بينما يبيع آخرون حسب أهوائهم ولا التزام بالتسعيرة الرسمية أي “كل شخص عم يبيع على كيفه”.

الاستيراد محصور بـ “حيتان” معينين

لكن هذه المشاهد ليست مجرد مشاهد عابرة، بل هي صورة لحقيقة اقتصادية يجب التفكير فيها بجدّية. فالأسعار القياسية تتسلل إلى ميزانيات الأُسر، وتجعل من الصعب على الكثيرين تلبية احتياجاتهم الأساسية. والواقع الصعب لا يمكن تجاوزه ببساطة، والحاجة إلى حلول جذرية لم تتصدر أجندة الحكومة إلى الآن.

فضلا عن ذلك، ارتفاع أسعار السلع إلى مستويات قياسية يعود بحسب التجار إلى ارتفاع سعرها من المصدر، وحصر الاستيراد بعدد قليل من الأشخاص أو ما يسمون محليا “حيتان المال” داخل سوريا، مستغلّين تغير سعر الصرف في السوق بين يوم وآخر، فقلة عدد المستوردين أدى إلى احتكار المواد وقلّتها في السوق وبالتالي ارتفاع سعرها.

حيتان المال هو مصطلح يُطلق على الأشخاص أو الجهات التي تمتلك ثروات ضخمة وتستخدمها للتأثير على الأسواق المالية والاقتصادية، سواء بالمضاربة أو التلاعب أو التحكم.

في سوريا يوجد عدد من حيتان المال الذين ينشطون في مجالات مختلفة، مثل التجارة والصناعة والعقارات والإعلام والسياسة. وبعض هؤلاء حيتان المال هم مؤسّسو أو شركاء في البنوك الخاصة التي تعمل في سوريا، والتي تقدم خدمات مصرفية للأفراد والشركات والمؤسسات وبذات الوقت يحتكرون استيراد المواد الغذائية وغيرها إلى البلاد.

علاقة حيتان المال السوريين بالاستيراد والبنوك هي علاقة متبادلة، فهم يستفيدون من البنوك كمصادر للتمويل والائتمان والاستثمار، وكذلك كأدوات لغسيل الأموال وإخفاء الثروات. وفي المقابل، تستفيد البنوك من حيتان المال كعملاء مهمين ومؤثرين، وكذلك كحلفاء سياسيين واقتصاديين.

آثار هذه الأزمة الغذائية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي في سوريا تظهر حجم التضخم والفجوة بين الأسعار المحددة من قبل الحكومة والأسعار المتداولة في الأسواق؛ ما أدى إلى تحول ظاهرة التهريب التي تؤثر على توفر وجودة هذه السلع إلى متنفس للمواطن السورية في ظل عدم وجود حلول ممكنة من قبل الحكومة للخروج من هذه الأزمة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات