سفر

حسام موصللي

لن أدّعي بأن مقالاً واحداً سيكون كافياً لبيانِ السعادة ووصفها من وجهة نظر إنسانية عُموميّة، مُتجاهلاً مئات التعريفات والشروح التي وردَت في الكُتب والدراسات، وعشرات الروايات والأفلام السينمائية التي لعلّ أبرزها هو فيلم the pursuit of happiness؛ أي السّعي إلى السعادة للممثل الأميركي ويل سميث. بيد أنّني سأحاولُ مُقتضِباً أن أوصِّف الفكرة من وجهة نظر فرد من أبناء الشعب السوري، العظيم بحسب الخطب الحماسية وسياسات التحرير.

“كيف تكونُ سَورياً سعيداً؟”

يعكسُ الانطباع الأول للسؤال السابق أن فيه من الركاكةٍ ما يكفي ليتربّع عرش قائمة المُعادلات الرياضية مُستحيلة الحل، إذ لا يَبدو على نحوٍ بديهي أنّ هُناك أيّ صِلة بين “سوري” و”سعيد”، على غرار أنّ المُستقيمات المتوازية لن تَلتقي في نقطةٍ واحدةٍ إلّا بأمر مباشر من الله نفسه، وللمعلومةِ فقط سأذكرُ بأن هُناك تقريراً صَدرَ في أواخر العام المُنصرِم عن معهد غالوب بصدد الدول الأكثر سَعادة في العالم، وتَصدّرَت بلادُنا العزيزةُ المرتبةَ الأولى في قائمة التعاسة، مُناصفةً مع أفغانستان التي يدُخلِ إرهابيوها الوافدون إلى سوريا فيروس شلل الأطفال في حقائب سفرهم بحسب نقيب الأطباء في البلاد، بينما تذيّلت الدنمارك القائمة ذاتها.

وإذا ما تَجاهلنا صورة الانطباع الأول، واعتمَدنا على تحليل السؤال ذاته بالاستنادِ إلى اختلافات السوريين أنفسهم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وجغرافياً، ومن ثم حَدّدنا بصورةٍ مَنطقيّة إلى حدٍّ ما الأسبابَ التي تجعلهم يشعرون بالسعادة أو ضدّها، فسنجدُ أنّ الحرب الدائرة الآن في البلاد، مثل أيّ حَربٍ أخرى، قد جلبَت لمعظم السوريين كُلّ نافيات السعادة وأخفَت بالمقابل كلّ مَصادِرها، ونستثني بالطبع تُجار الحروب والأزمات الذين يَنتمون إلى الشرائح كافّة؛ ليس بدءاً من مُسلّحين يَمتهنون السّرقة والإرهاب في الداخل، أو مُروراً بسُفهاء السياسيين بين الداخل والخارج، ولا انتهاءً بناشطين وناشطات مَدنيين في الخارج برواتب وامتيازات خياليّة تَتناسبُ بالضرورة عَكساً مع المَنطق الأخلاقي العام.

حديثُنا عن الجزء الأكبر من السوريين- ولا أخصُّ هُنا العرب السنّة- بل أبناء الوطن الذين لا يشعرون بالسعادة بشتى مكوّناتهم. إنّ السوري إذا ما أراد أن يكونَ سعيداً فسيتوجّبُ عليه أن يُجرَي عملية حذف لذاكرته كلّها تقريباً، خلا بعض الصور المُتبقية من لحظات مَعدودة بصُحبة سوريين آخرين غير سعداء حالياً، وسيكون أولئك في الوقت نفسه بصددِ حذف ذواكرهم أيضاً. لكنّ ما تمّ حذفُه صار بحاجةٍ إلى بديل، والجنسية السويدية أو الألمانية هي من ضِمن الخيارات الأنسب في الوقت الراهن، وليستطيعَ السوري سَابقاً أن يُقحِم في ذاكرتِه الجديدة صورةً له مَثلاً عن طفولتِه حينما كان يقفزُ بسعادة غامرة مُهلّلاً لتمثال ضَخم من الحلوى بصُحبة والدتِه خلال كرنفال الفصلِ الخامس في مَدينة كولونيا “كولن” الألمانية.

مع ذلك، يَبدو أن دوافع سَعادة السوريين باتَت حالياً أبسط بكثير، ولا تكادُ تعدو التوقفَ عن تَحسُّس رقابهم بعد كلّ مرّة يتجاوزون فيها حاجزاً أمنيّ الصُّنع، أو استقبال حوالة مالية بعد مُرور أسبوع على تَحويلها، ودون أن يصيحَ بهم موظفwestern union  عقبَ ساعةٍ من الانتظار، وبوجهِ أغمق من لون جواز السفر: “System error”. إنّ حل مُعضلة تَجديد جوازات السفر بحدّ ذاتها قد يكون سَبباً لنوبة سَعادة عارمة، ولا يُستبعدُ أن تَليه آثار جانبية كارثيّة على مرضى القلب وضعط الدم المرتفع. سيكونُ السوري سَعيداً حتماً إذا ما جمعَهُ القدرُ بالمهرّب “ابن الحلال” الذي سيضعُه خلال مدّة أقصاها ثلاثة أشهر أمام دائرة الهجرة في إحدى الدول السعيدة في القارة العجوز، وهُنا سيكون السوري قد اختبرَ السّعادة من قبلُ بالتأكيد، وذلك عندما سنحَت له فرصةٌ للعملِ عن طريق أحد معارفه بعد بَحثٍ مُضنٍ طال أربعة أو خمسة أشهر وشمِل مُختلف المجالات عَدا مجاله الأصلي، واستطاعَ بعد جُهدٍ شاق أن يَنال نصفَ ما يستحق من أجر.

يوماً تلو آخر، يزدادُ سقفُ مُسبّبات سَعادة السوريين انخفاضاً؛ نحنُ الذين لم نكن لنُفكّر في البحث عن سَعادتنا عبر رحلة روحانيّة إلى معبد في هضبة التبت، أو قضاءِ شَهر مُتجولين في أدغال أفريقيا، أو حتى أسبوعٍ في لاس فيغاس! كانَت سعادتُنا أن نَحيا على أرضِنا بحُرية وكرامةٍ فقط، ولكنّنا الآن نرضى بأن تُخطئ القذائف والرصاص أقربائنا ومن نُحبُّ وتغفل عنهُم أعيُن العَسس.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.