يعيش معظم السوريين في وضع اقتصادي منهار وغير مستقر، فقد زادت نسبة الفقر والبطالة خلال السنوات الماضية، بالإضافة لانهيار العديد من القطاعات ومنها قطاعي الصحة والتعليم، وزاد الأمر سوءًا العقوبات الغربية وقانون قيصر والتي استغلها النظام كمبرر لانهيار الوضع الاقتصادي، كما فاقم انتشار فيروس كورونا، وما خلفه من آثار اقتصادية من أوضاع السوريين باتجاه حالة من الفقر الشديد.

ومن هنا كان هناك أهمية كبيرة للتحويلات المالية القادمة من الخارج للسوريين في داخل سوريا، فهي بمثابة العامل الأهم لاستمرار حياتهم وقدرتهم على مواجهة التضخم الكبير للاقتصاد السوري وانخفاض الليرة السورية المستمر منذ سنوات الماضية أمام الدولار، سواء أكان ذلك في مناطق سيطرة حكومة دمشق، أو المناطق الخارجة عن سيطرته كإدلب ومناطق الفرات.

مصدر الحوالات إلى سوريا ومسارات التحويل

يبلغ عدد اللاجئين السوريين بشكل عام أكثر من 7 ملايين لاجىء، يتركز نحو 5,5 مليون منهم في دول جوار سوريا ” تركيا – لبنان – العراق – الأردن – مصر”، بينما يتوزع الباقي في بقية دول العالم وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، وذلك بحسب أرقام مفوضية شؤون اللاجئين.

بينما يعيش نحو 13 مليون سوري داخل سوريا في ظل أوضاع اقتصادية صعبة للغاية، بخاصة بعد انتشار جائحة كورونا التي ألقت بظلالها على العالم ككل، ولذلك يلجأ هؤلاء إلى ذويهم في دول اللجوء والاغتراب لدعمهم بمبالغ مالية شهرية لا تتجاوز في أغلب الأحيان 100 دولار، وهو ما يعتبر مبلغًا بسيطًا لكنه جيد لمن هو داخل سوريا بعد تحويله لليرة السورية.

بحسب دراسة صادرة عن مركز “حرمون للدراسات” في نيسان/ أبريل الفائت، فإن نحو 70 بالمائة من الحوالات الواردة إلى سوريا تأتي من دول الجوار الخمسة، بينما ما تبقى من بقية دول اللجوء وخاصة الأوروبية.

في حين لا توجد دراسات تعتمد أرقامًا حقيقة ودقيقة لحجم هذه الحوالات، إلا أنه وحسب بيانات البنك الدولي، فإنها تبلغ سنويًا نحو 1,62 مليار دولار، بمعدل 5,4 مليون دولار يوميا.

هناك طريقين رئيسيين لإرسال الحوالات إلى داخل سوريا، الأولى: يتم إرسالها عبر شركات حوالات رسمية، أبرزها “ويسترن يونيون” وهي المستخدمة من غالبية السوريين ممن يفضلون استخدام التحويل الرسمي، وشركات مثل “اكسبرس” للمغتربين في دول الخليج، ولهذه الشركات وكلاء داخل سوريا أبرزها، “تواصل للحوالات المالية – بنك البركة – دليل سورية – الفؤاد للصرافة وتحويل الأموال – الديار”، وهي شركات مرخصة من الحكومة السورية.

ولكن طالما حدثت العديد من الإغلاقات لشركات صرافة سورية، وحتى عالمية مثل “ويسترن يونيون”، التي أوقفت العمل في سورية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي لعدة أيام، ثم عادت للعمل دون إعطاء أي سبب حقيقي لما جرى.

الطريق الثانية: إرسال الحوالات عبر ما يعرف بمكاتب “التحويل الأسود”، وهي عبارة عن مكاتب حوالات منتشرة في كل دول العالم، تقوم بتحويل الأموال بشكل غير رسمي وغير مسجل في تلك الدول، ويتم التسليم من قبل أشخاص عاديين في الغالب في سوريا، وقلما يتم التسليم في شركات الصرافة الرسمية.

يقول الخبير الاقتصادي حسن سليمان، لموقع “الحل نت”، أنه يتم صرف الحوالات السوداء بسعر صرف أعلى من سعر الصرف المحدد من قبل البنك المركزي السوري، والفرق بين سعر الصرف في الحالتين يصل إلى نحو 600 ليرة للدولار الواحد، فالسعر الرسمي للدولار في البنك المركزي هو 2930 ليرة سورية تقريبًا، بينما يتم صرفه في السوق السوداء بنحو 3540 ليرة سورية تقريبًا، وهذا ما يسعى له المواطن بالدرجة الأولى.

يتم التواصل والتنسيق بين المكاتب في الخارج وبين المسلمين للمستفيدين في الداخل عبر وسائل التواصل ” واتس آب – تلجرام”، وباتت هذه الحوالات هي المفضلة لدى السوريين داخل سوريا بسبب الزيادة في صرف العملات عن السعر الذي يحدده “البنك المركزي السوري” لشركات الصرافة المرخصة.

رغم المحاولات غير الجادة للحد من الحوالات السوداء إلا أنها المفضلة للمواطنين.

يفضل المواطنون السوريون داخل سوريا استلام حوالاتهم عن طريق التحويلات غير الرسمية، سواء كان الاستلام بالليرة السورية، أو بالعملات الأخرى وعلى رأسها الدولار، من أجل محاولة ادخار جزء منها.

ولذلك أعلنت شركات صرافة وتحويل أموال مرخصة في نيسان/أبريل الماضي، أنها ستقوم بتسليم الحوالات للمستفيدين منها داخل سورية، حسب العملة التي يحددها المرسل، وخاصة للتجار وأصحاب المهن الصناعية.

وجاء الإعلان حينها مخالفًا بشكل صريح للمرسوم الذي أصدره الرئيس السوري، بشار الأسد في كانون الثاني/ يناير من العام 2020، والذي يقضي بالحبس لمدة سبع سنوات، وبغرامة مالية تقدر بضعف قيمة المدفوعات لأي نوع من أنواع التداول التجاري، أو التسديدات النقدية، بالعملات الأجنبية أو المعادن الثمينة.

وفي نفس الوقت تقوم حكومة دمشق عبر أجهزتها الأمنية بشن حملات شكلية تطال العاملين بتصريف العملات، أو مسلمي الحوالات السوداء، تحت حجة أنها تضر بالاقتصاد الوطني، في حين أن المستهدفين هم بعض الصيارفة محدودي العمل أو كما يطلق عليهم في مفهوم السوق ” الصغار”.

كيف تستفيد حكومة دمشق والتجار التابعون لها من الحوالات السوداء؟

هناك الكثير من المكاتب العاملة بتصريف العملات واستلام الحوالات غير مرخصة في عموم سورية، وتكاد تعمل بشكل شبه علني، دون أن يتعرض لها النظام أو يقوم بإغلاقها.

يشير الخبير الاقتصادي حسن سليمان، إلى أن حكومة دمشق والمتحكمين بالسوق السوداء في الداخل السوري يستفيدون من العملات المحولة عبر الحوالات السوداء، والتي يتم تحويلها إلى الليرة السورية.

فسعر العملة السورية في الواقع أقل من السعر الرسمي المحدد من قبل البنك المركزي، وأقل من سعر الصرف في مكاتب التصريف غير المرخصة، وكل من يعمل في هذه المكاتب يعمل تحت حماية المسؤولين، والأجهزة الأمنية، وهذا ما يفيدهم بتحويل مدخراتهم من الليرة السورية إلى العملات الصعبة، وتهريبها إلى خارج سورية، وإيداعها في حسابات في بنوك في دول مجاورة أو دول أجنبية.

ويضيف سليمان، أن دمشق لا تقوم باستخدام النقد الأجنبي الذي يصل إليها عبر الحوالات في دعم الليرة السورية، لأن هذه العملات لا تدخل في الأصل إلى البنك المركزي، وإنما يتم إيداعها في البنوك الأجنبية، أو يتم استخدامها لاستيراد بضائع من الخارج، عن طريق تجار مرتبطين بالنظام بشكل مباشر، ويستحوذون على السوق ويتحكمون بالمواد المستوردة وأسعارها.

الحوالات السوداء وسيلة لتمويل تجارة الممنوعات

لا يقتصر تحويل الأموال عبر الشركات أو مكاتب التحويل غير الرسمية على المواطنين السوريين العاديين لتحسين معيشتهم، فهناك قسم كبير من هذه الحوالات وبمبالغ كبيرة جدًا تذهب لتجارة الممنوعات نتيجة الفوضى في سورية، وخاصة تجارة المخدرات، والسلاح، وغسيل الأموال.

يقول عبدالله الأحمد، وهو تاجر يقوم بالتحويل عبر مكاتب غير مرخصة إلى الداخل السوري، لموقع “الحل نت”، أن الحوالات السوداء تخدم التجار في الكثير من العمليات التجارية بسبب فرق العملة الكبير عند تصريف مبالغ كبيرة تزيد عن 50 ألف دولار.

لكن بالمقابل يستفيد نوع آخر من التجار منها، وبمعرفة حكومة دمشق وتحت أنظارها، وبأشكال مختلفة، ففي تجارة المخدرات إلى دول الجوار السوري، يتم تحويل الأموال إلى داخل سوريا عبر مكاتب غير مرخصة في هذه الدول، إما إلى مكاتب غير مرخصة داخل سوريا بشكل مباشر، أو إلى تركيا أو لبنان ومنها يتم نقل الأموال للداخل السوري، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة لتجارة الآثار، وحتى السلاح، ودمشق تستفيد بنسبة معينة من كل هذه التجارة.

الحوالات السوداء أحد أسباب التضخم في السوق المحلي السوري

تؤثر الحوالات السوداء بشكل كبير على السوق المحلي السوري، فبصرف النظر عن فائدة المواطن منها، لكن هناك آثار سلبية من خلال استخدامها من قبل كبار التجار، فمن المعروف أن المواد المستوردة ترتبط بشكل وثيق بسعر الدولار، فكلما ارتفع الدولار ارتفعت أسعار هذه المواد، وهذا ما يؤدي لأمرين.

الأول: انعدام فئة التجار الصغار وخساراتهم التي تؤدي في الوضع السوري الحالي إلى انهيار أعمالهم بشكل كامل. الثاني: الاحتكار من قبل كبار التجار، وغلاء الأسعار والتضخم في السوق.

لذلك تسهم هذه الحوالات بآثار سلبية على اقتصاد الدولة السورية، فهي تؤدي لانعدام رقابة الدولة على الأسعار، كما تستخدم لاستيراد بضائع مشبوهة وغير محددة السعر، ما يسبب تهرباً من الضرائب، وهذا ما ينعكس على كامل السوق السوري.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.