أثار التوتر في تايوان كثيرا من القلق بين المحللين في السنوات الماضية، لانعكاساته الخطيرة على مستوى كوني، والتي قد تشمل الاقتصاد الدولي والنظام السياسي العالمي، فضلا عن خطر الحرب النووية. زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي إلى تايوان، وردود الفعل الصينية الغاضبة عليها، أعادت إلى الواجهة شبح الأزمة التايوانية، في زمن يعاني فيه الجميع من الآثار العالمية للغزو الروسي لأوكرانيا.

 في العام 2005 صدر في الصين قانون “مناهضة الانفصال”، الذي يؤكد أن “إعادة توحيد الوطن الأم واجب مقدس على جميع الصينيين، بمن فيهم المواطنون التايوانيون”. وينص هذا القانون على أنه “إذا لم توافق تايوان على الوحدة السلمية، فإنه يمكن استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف”. وفي شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2019 قال الرئيس الصيني شي جين بنغ: “لا نعد بالتخلي عن استخدام القوة لتحرير تايوان، ونحتفظ بحقنا في استخدام جميع التدابير اللازمة”. من جهته توعّد الرئيس الاميركي جو بايدن، في شهر أيار/مايو من العام الحالي، بـ”التدخل عسكريا لحماية تايوان، إذا تعرضت للهجوم”.

التوتر بين واشنطن وبكين تصاعد منذ أن شكّلت الولايات المتحدة الاميركية تكتل “كواد” عام 2004، والذي ضمّ الهند واليابان وأستراليا، وتوسّع العام الماضي بانضمام بريطانيا إليه، واعتبرته الصين موجها ضدها، لتبلغ الأزمة ذروتها بعد زيارة بيلوسي للعاصمة التايوانية تايبيه.

وذكرت تقارير صحفية أن “مسؤولين عسكريين صينيين يرفضون الرد على اتصالات هاتفية من نظرائهم الأميركيين”. كما أعلنت الصين إيقاف بعض المحادثات حول السلامة البحرية، والحوارات الرسمية مع القادة الأميركيين، بما فيها المحادثات حول المناخ. وأعلنت القيادة الشرقية للجيش الصيني، يوم الاثنين، العاشر من شهر آب/أغسطس الحالي، استمرار المناورات العسكرية الجوية والبحرية في محيط مضيق تايوان، بعد أن كان مقررا انتهاؤها يوم الأحد، وتعهّدت “بعدم التسامح مع الانشطة الانفصالية في تايوان”.

وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، قال إن “القيادة الصينية تحاول دراسة الغزو الروسي لأوكرانيا، وما الذين يمكنها تعلّمه منه”. ويضيف: “إحساسنا أن هذه الدروس لن تؤثر كثيرا فيما إذا كانت بكين ستستخدم القوة للسيطرة على تايوان أصلا، بل في كيف ومتى ستقوم بذلك”. 

لماذا التركيز الصيني والأميركي على تايوان؟

تحاول الصين إبراز نفسها قوةً عظمى في مواجهة أميركا، وذلك بفرض السيطرة على تايوان، التي تشغل موقعا استراتيجيا مهما بالنسبة لبكين، فيما يسمى بـ”سلسلة الجزر الأولى” التي تحيط بجنوب شرقي الصين، ما يمكّنها من تقويض النفوذ الأميركي في المنطقة. الأمر الذي يؤكده المحلل السياسي يان إستون في كتابه “تهديد الغزو الصيني”: “تخشى الصين من أن تمركز إحدى الدول قواعدها في تايوان، ما يمكنها من توجيه ضربة للصين أو تهديدها. ولو كان بمقدور الصينيين احتلال تايوان، فإن ذلك سوف يساعدهم على إبراز قوتهم، ومنع القوات الأجنبية، وخاصة الولايات المتحدة، من التدخل والتجسس على الصين”.  

 ويؤكد إستون “استحالة الدفاع عن اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين في حال سيطرت الصين على تايوان، لأنه يمكن غزوهم منها في أي وقت”.

سكوت إلينغر، الضابط السابق بوكالة الاستخبارات الأميركية، يقول: “الولايات المتحدة تحاول ثني تايوان عن إعلان الاستقلال، لأن ذلك يمكن أن يشكل استفزازا للصين، الأمر الذي لا تريده الولايات المتحدة، التي تسعى إلى الحفاظ على وضع تايوان كما هو اليوم”.

وفي الوقت نفسه يرى أن “مشاكل الصين الداخلية، واقتصادها الذي يعاني، يشكلون قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في أي وقت. إذ يرفض ملايين الصينيين دفع إيجار العقارات. وحين يكون النظام محشورا في الركن فإنه يبدأ بدق طبول الحرب”.

إلا أن إلينغر يؤكد أن “الصين تعتمد على المواد الغذائية من الخارج، وعلى موارد الطاقة من الشرق الأوسط خاصة، وبالتالي تخشى من فرض عقوبات عليها كما حدث مع روسيا. لذلك فالحرب ليست في المدى المنظور، لكن يمكن أن تحدث عندما يشعر المستبد شي جين بينغ أنه فقد شعبيته تماما داخل البلد، ويمكن وقتها أن يلعب بورقة القومية”. 

الأبعاد الاقتصادية للتوتر في تايوان

على الصعيد الاقتصادي فإن التوتر في تايوان قد تكون له نتائج وخيمة على مستوى العالم، إذ بلغت صادرات تايوان، في النصف الأول من العام 2022، حوالي مئتين وستة وأربعين مليار دولار أميركي، أربعين بالمئة منها اتجهت نحو الصين، أكبر شريك تجاري لتايوان. وتجاوزت قيمة الواردات التايوانية مئتين وتسعة عشر مليار دولار.

وتعتمد  تجارة تايوان  على المنتجات الالكترونية، وخاصة ما يسمى “أشباه الموصلات” والرقائق الالكترونية، التي تشغل خمسين بالمئة من تجارتها، وتدخل في معظم الصناعات التكنولوجية المتطورة في العالم. إضافة إلى أن تايوان تمتلك سادس أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم.

أما الصين فهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة الأميركية، وتربطها علاقات تجارية كبيرة مع أغلب دول العالم، وبالتالي فإن فرض حصار أو عقوبات على الصين قد تتأثر به جميع سلاسل التجارة العالمية. 

هانس جونتر هيلبرت، رئيس مجموعة أبحاث آسيا في “المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية”، يقول: “إذا غادرت الشركات الأميركية واليابانية الصين فلن تتمكن الشركات الأوروبية من تجنّب ذلك أيضا”. ويحذّر هيلبرت من أنه “سيتعين على الشركات الاستعداد لمثل هذا السيناريو على المدى الطويل والمتوسط، ​​ووضع خطط طوارئ لكيفية استبدال سلاسل التوريد التي قد تتعطل”. 

وفي مقال لها بعنوان “لماذا نزاع تايوان خطير للغاية على الاقتصاد الألماني” تذكر صحيفة “هاندلسبلات” الألمانية أن “الاقتصاد الألماني سيتأثر بشكل مضاعف في حال فرض الحصار على الصين، وسيكون هناك اختناقات في العرض لأشباه الموصلات/الرقائق الالكترونية. وبالتالي سلاسل التوريد ستتعطل أيضا بشكل كبير، لأن الرقائق ضرورية لتصنيع عديد من المنتجات الأولية”.

“المواجهة في تايوان ستندلع حتما، والعالم سيتغير”

ولكن هل سيؤدي التوتر في تايوان إلى اندلاع الحرب فعلا؟ وماذا ستكون آثار الحرب المحتملة على منطقتنا؟

الدكتور خالد رمضان، الخبير الاقتصادي، ورئيس “المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية” بالقاهرة، قال إن “منطق الصراع المسلح حول تايوان يترسخ بقوة الآن”. متوقعا، في حديثه لـ”الحل نت”، أن “الغزو الصيني لتايوان قادم لا محالة، وإذا لم يحدث الآن فقد يحدث قبل نهاية العقد الحالي”. مشيرا إلى أن “أزمة تايوان ليست طارئة، فالولايات المتحدة والصين كانتا تتصارعان حولها منذ خمسينيات القرن الماضي، وبالتالي فإن ما نراه حاليا هو أحدث فصل من فصول الصراع طويل الأمد. لكن الأمور تبدو مختلفة هذه المرة، فالصراع الراهن يشير إلى مواجهة مرتقبة بين واشنطن وبكين خلال العقد القادم”.

وأرجع رمضان تعقد الأزمة وبروزها إلى واجهة الأحداث إلى “رفض التايوانيين لحديث الرئيس الصيني شي جين بينغ المعسول والمتكرر عن إعادة التوحيد السلمي، إذ يعتبرونه رمزا للضم والاندماج في نظام شمولي لن يقبلوا به، ولهذا فإن الحل المرضي لبكين يرتكز على خيار وحيد وهو القوة”.

وأكد أن “اللجوء للحل العسكري سيؤدي إلى خسائر بشرية واقتصادية جسيمة، ويهدد بعزلة دائمة بين التايوانيين وسكان البر الصيني الرئيسي، وسيعرّض عقودا من النمو الصيني للخطر، وقد يخاطر بصراع مباشر مع الولايات المتحدة، واندلاع حرب عالمية ثالثة”.

مستدركا بالقول: “إذا كان البعض يعتبر غزو الصين لتايوان عملا طائشا، فإن هذا لا يعني أنه لن يحدث، والمثال الأقرب على ذلك الهجوم الروسي على أوكرانيا، برغم أنه عمل طائش وغير أخلاقي، ولا يحظى بإجماع دولي”.

وحذّر الخبير الاقتصادي من “مخاطر تنتظر الاقتصاد العالمي جراء الغزو المحتمل لتايوان، أولها إصابة الاقتصاد الصيني بالشلل والركود، إذ ستضطر عشرات السفن المتجهة لشمال آسيا إلى تغيير مساراتها، أو الإبطاء للابتعاد عن مناطق الخطر في مضيق تايوان والساحل الشرقي للجزيرة، الذي تمر من خلاله مئتان وأربعون سفينة يوميا. وإذا تم تصنيف المضيق منطقة حرب، فإن التمويل التجاري والتأمين سيتبخران، وأي اضطراب في الممرات البحرية سيكون له تأثير مدمر على الاقتصاد الصيني، لأن سفن موانئ الصين الرئيسية، في شنغهاي وداليان وتيانجين، تعتمد على المرور عبر المياه التايوانية. إضافة إلى أن غالبية تجارة الحديد، القادمة من أستراليا، تمر من تايوان إلى موانئ الصين الشمالية، وكذلك شحنات الحديد إلى اليابان وكوريا. كما تمر عبر مضيق تايوان ناقلات نفط عملاقة، تحمل مليون برميل من النفط الخام يوميا”.

وأشار رمضان إلى أن “تايوان، في المقابل، ستتعرض لخسائر فادحة في بعض صادراتها المهمة، فهي ملك تصنيع الرقائق الإلكترونية بلا منازع، ومسؤولة عن ثلاثة وستين بالمئة من الإنتاج العالمي في هذا القطاع. كما أنها مورّد مهم للتكنولوجيا والمعدات عالية القيمة. بل إن الصين نفسها تستورد نصف صادرات تايوان من الرقائق”. لافتا إلى أن “القلق بشأن مصير صناعة أشباه الموصلات في تايوان، أثناء انتشار وباء كورونا، ساهم في تعجيل موافقة مجلس الشيوخ الأميركي على قانون بقيمة مئتين وثمانين مليار دولار، لتعزيز تصنيع الرقائق المحلية. ولا شك أن انقطاع إمدادات الرقائق أثناء الوباء سيعد تافها بالنسبة لما يمكن أن يحدث في حال الغزو الصيني”.

ويلفت الخبير الاقتصادي إلى ما سماه “الدويتو الكارثي، التي يمكن أن يحدث، في حال اجتياح تايوان، إذ إنه سيتضافر مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وسيضاعف من آلام الاقتصاد العالمي، بشكل قد لا يتعافى منه لسنوات طوال. وحينها سيدخل العالم في دائرة جهنمية من ضعف النمو، وتعرقل التجارة الدولية، وتعطّل سلاسل الإمدادات، وارتفاع الأسعار. وبالتالي فإن فرص بقاء التضخم القياسي لفترات أطول ستزيد”. 

وعن تأثير الصراع على المنطقة العربية، أوضح رمضان أن “اندلاع حرب في تايوان سيؤثر على تدفق السلع والإمدادات، وسيهدد التجارة المشتركة، وسيؤذن بمزيد من الركود الاقتصادي. وهذا ما توضحه الأرقام بجلاء، فالصين هي أكبر شريك تجاري للدول العربية، بنحو ثلاثمئة مليار دولار سنويا، من بينها مئتا مليار دولار مخصصة للتبادل التجاري مع دول مجلس التعاون الخليجي وحدها. أما حجم التبادل التجاري بين تايوان والدول العربية فيقارب ثمانية وعشرين مليار دولار سنويا. وإذا قامت الحرب فستكون التجارة البينية بين الطرفين في خطر، وقد تتجه الدول العربية للتحوّط عبر تغيير مصادر التوريد، وهذا الأمر ليس سهلا على الإطلاق، بخلاف أنه مكلف ماليا، لأن المنتجات الصينية تبقى الأرخص عالميا”.

“التوتر في تايوان استعراض صيني”

المحلل الاقتصادي السوري سمير الطويل يقدّم وجهة نظر مغايرة بعض الشيء، إذ يرى أن “ما تقوم به الصين حاليا هو مجرد مناورات عسكرية أو استعراض للقوة، لكن الصين دولة تربطها علاقات اقتصادية واستثمارية مع كثير من الدول، في آسيا وأوروبا وإفريقيا، واستطاعت أن تتمدد في الاقتصاد العالمي، ودائما ما يكون الميزان التجاري لصالح الصين مع أي دولة كانت، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية. لذلك فإن الصراع بين أوروبا وأميركا من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية، يتجه نحو قارة أفريقيا أساسا، ولن يتحول إلى حرب مدمرة في تايوان. والهدف البحث عن المزيد من الاستثمارات، وتأمين موارد الطاقة، مثل الغاز والنفط”.

متابعا في حديثه لـ”الحل نت”: “الاستثمارات الصينية خارج الصين تعتبر ضخمة، و تتركز حاليا بشكل كبير في إفريقيا وبعض الدول العربية. ودائما الفائدة الكبيرة تعود للصين، التي تستطيع الآن التحكّم بالاقتصاد العالمي، والتلاعب بأسعار السلع، وخصوصا الطاقة والغذاء، نتيجة التضخم في الاقتصاد العالمي، ونقص إمدادات الغذاء العالمية، وعلى رأسها القمح. عادةً تحاول الصين استغلال أي أزمة لصالحها، وأن تخرج غير خاسرة من أي معركة عسكرية وسياسية أو حتى اقتصادية”. 

ويؤكد الطويل أنه “خلال أزمة كورونا، التي بدأت من الصين وامتدت نحو جميع دول العالم، خسرت الصين في البداية، لكنها سرعان ما استطاعت تعويض الخسائر. ونجاحها في ذلك يأتي من قوة استثماراتها في أفريقيا، وشرائها لسندات الخزينة الأميركية، بقيمة تقدّر بأكثر من ثلاثة تريليونات دولار”. 

وحول التأثيرات المحتملة للتوتر في تايوان على العالم العربي يقول الطويل: “بالتأكيد أي أزمة تحدث، سواء كانت في روسيا وأوكرانيا أو الصين وتايوان، ستنعكس على المنطقة العربية، التي تستورد الكثير من البضائع الصينية، وغيرها من البضائع والمواد الغذائية، التي تأتي من آسيا وشرقي آسيا، وهذا سيساهم برفع الأسعار. كما أن ارتفاع أسعار الغاز والمشتقات النفطية سوف يساهم في خلق موجة تضخم جديدة، الأمر الذي سوف يضاف إلى التضخم العالمي، نتيجة الانكماش  الاقتصادي، الذي حدث بعد جائحة كورونا، وضاعفه الغزو الروسي لأوكرانيا. وبالتالي إذا اندلعت الحرب بين الصين وتايوان فستتعمق موجة الركود والتضخم، التي تعيشها أغلب اقتصادات العالم والمنطقة العربية”.

التوازن السياسي لن يُكسر، المشكلة في الاقتصاد”

موقع “الحل نت” توجه بالسؤال حول التوتر في تايوان للبروفيسور الصيني سيران دينغ، الأستاذ في قسم التمويل بجامعة فيينا النمساوية، فأجاب باقتضاب: “أعتقد أن التوتر سيكون له تأثير ضئيل للغاية على المدى القصير، إذ من غير المرجح أن ينكسر التوازن الدولي الحالي في تايوان”.

غير أن دينغ يتوقّع على المستوى الاقتصادي أن “عدم اليقين السياسي قد يسرّع من حاجة الشركات إلى تنويع سلسلة التوريد الخاصة بها، بعيدا عن منطقة شرق آسيا، ومن المحتمل أن يسهم هذا في زيادة تجزئة التجارة العالمية، وزيادة ضغط التضخم، وانخفاض النمو الاقتصادي على المدى الطويل.”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.