لطالما كان التعامل وحيازة قطع أجنبي في سوريا من المسائل الشائكة التي تتخبط فيها حكومة دمشق، ما هو المسموح، وما هو الممنوع الذي قد يضع صاحبه ربما بموضع الجرم بدون أن يعرف، جميعها أمور لا يفهمها غالبية السوريين بشكل جيد.

حكومة دمشق، تعاود اللجوء إلى استخدام الحلول الأمنية من خلال تطبيق مرسوم تجريم العمل بغير الليرة السورية، وذلك بهدف وقف النزيف المستمر الذي تعاني منه العملة المحلية.

مراقبون اقتصاديون، شككوا في نجاح مثل هذا النوع من الحلول، مرجعين ذلك بفشلها تاريخيا منذ عهد الرئيس السابق، حافظ الأسد، وبأنها لن تساهم في وقف حالة تدهور سعر صرف الليرة إلا لفترة مؤقتة، ما يعزز من فرضية أن تكون الإجراءات الأمنية، تستهدف بث الرعب لدى المتعاملين بالقطع الأجنبي، وتخويفهم من العواقب الكبيرة التي تشمل الحبس لمدة 7 سنوات.

اقرأ أيضا: فئة جديدة من العملة السوريّة تلوح في الأفق.. ما القصة؟

الحلول الأمنية يمكن أن تكون ناجعة لفترة قصيرة فقط، أما على المدى المتوسط أو البعيد، فلن تسهم في ضبط سعر الصرف، لذلك، فالغرض الأساسي من اللجوء إليها هو الردع والتخويف، بحسب حديث، مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، كرم شعار لـ “الحل نت”.

الحكومة تعلم تماما أنه لا يمكن إلغاء السوق السوداء، باستخدام الحلول الأمنية؛ وطالما يوجد فرق كبير بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، لا يمكن ضبط سوق الصرف، بحسب شعار، فالمستثمر سيتجه دائما نحو المكان الذي يمنحه مردودا ماليا أعلى؛ وفي النهاية، المخاطرة ستحد من رغبته في التعامل مع السوق السوداء، لكن إلى فترة محددة.

سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، وصل، مؤخرا ما بين 4425 ليرة شراء، و4475 ليرة مبيعا. بينما سجل اليورو ما بين 4490 ليرة شراء، و4540 ليرة مبيعا.

“مصرف سورية المركزي” تحدث عبر قناته الرسمية على “التليغرام” مؤخرا، عن قيام الضابطة العدلية لدى المصرف وبالتعاون والتنسيق مع إدارة الأمن الجنائي، بضبط ثلاثة مكاتب لبيع السيارات، في منطقة الزاهرة القديمة وابن عساكر بدمشق، تقوم بتسعير السيارات، وبيعها بالدولار الأميركي واليورو، بما يخالف المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2013 وتعديلاته.

المصرف، أغلق هذه المكاتب وختمها بالشمع الأحمر وصادر مبالغ مالية بعملة الدولار الأميركي، واليورو، والعملات الوطنية الناجمة عن الجرم، وتوقيف القائمين على هذه المخالفات، ليصار إلى تنظيم الضبط اللازم، بحقهم وإحالتهم إلى القضاء أصولا.

متابعة مثل هذه المخالفات في كل القطاعات، والمهن، وعدم التعامل بغير العملة الوطنية كوسيلة للتسعير والبيع والشراء، أمورا أكد عليها المصرف، حرصا لعدم التعرض، للإجراءات القانونية، بما في ذلك المصادرة والغرامة.

منذ بداية العام الجاري، تم ضبط نحو 190 حالة تعامل بغير الليرة السورية، في حين تم ضبط 290 حالة وتوقيف نحو 500 شخص، في العام الماضي، وفق ما نقلته صحيفة الوطن، عن مدير إدارة الأمن الجنائي اللواء، حسين جمعة.

في هذا الإطار، يوجد تنسيقا تاما بين الأمن الجنائي والضابطة العدلية في “مصرف سورية المركزي”، بحسب جمعة، حيث تكون دوريات الأمن الجنائي برفقة الضابطة العدلية، ويتم التحري من الوثائق والحسابات عند الدخول لأي مكان يتعامل بغير الليرة السورية، وتتم مصادرة العملات الأجنبية وإيداعها لدى “مصرف سورية المركزي”، ويتم تنظيم ضبطين من الأمن الجنائي والضابطة العدلية التابعة للمركزي، مبينا أن عقوبة التعامل بغير الليرة السورية من العقوبات التي تستوجب الحبس لسنوات، ولا يمكن تقديم إخلاء سبيل للموقوفين قبل انتهاء محكوميتهم.

قد يهمك: الليرة السورية تبلغ أدنى مستوياتها في السوق السوداء

النزيف المستمر الذي يطال الليرة السورية، يمكن إرجاعه بندرة القطع الأجنبي، وإفلاس الخزينة، إضافة لسوء إدارة الأزمة الاقتصادية، وهو ما أضعف من حجم قيمة القطع الأجنبي المتوفر في سوريا، وتحفز الأزمة المالية، الحكومة على استخدام الوسائل الأمنية، من أجل جمع أكبر كمية من القطع الأجنبي ممن تبقى من السوريين الذين ينشطون الحركة التجارية، كحل وحيد متاح في الوقت الحالي. بحسب ما يؤكده المستشار الاقتصادي أسامة قاضي، لـ “الحل نت”.

ويبدو أن خزينة المصرف المركزي شبه فارغة من القطع الأجنبي، وهو ما قاد الحكومة مؤخرا إلى إيقاف العمل بنظام تمويل المستوردات حتى نهاية العام الحالي، وهو إجراء يمكن أن يقود إلى موجة ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية.

وقف تمويل المستوردات، تزامن مع النبرة الحادة للمصرف المركزي الذي نشر عبر حسابه في “تليغرام” بيانا أكد فيه متابعته المستمرة لعمليات تداول الليرة السورية في سوق القطع الأجنبي، وأنه سيتم التدخل باتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للمضاربين والمتلاعبين بسعر الصرف.

الحلول الأمنية غير مجدية؟

المرسوم التشريعي رقم 3 الصادر في 18 كانون الثاني/يناير 2020، ينص على أن كل شخص يتعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، يعاقَب بالأشغال الشاقة المؤقتة، لمدة لا تقل عن سبع سنوات والغرامة المالية بما يعادل مثلي قيمة المدفوعات أو المبلغ المتعامل به أو المسدد أو الخدمات أو السلع المعروضة.

لجوء الحكومة إلى القبضة الأمنية، وفق شعار، يمكن أن يسهم في استقرار الليرة إلى فترة معينة، لكن محددات قيمة الليرة السورية في المدى البعيد مرتبطة بشكل أكبر بعرض النقود بشكل يفوق حاجة السوق، ما ينعكس على شكل انخفاض في قيمة الليرة؛ وهذا هو جذر المشكلة وهو ما يحدد الاتجاه العام لتغير صرف الليرة.

في ظل ما تتخذه الحكومة السورية من إجراءات أمنية، يستبعد شعار عودة الليرة السورية إلى استرداد عافيتها فضلا عن توقف التدهور التدريجي الذي يطاولها. ويرى بأن الحل الوحيد لاستعادة الحكومة زمام السيطرة على سعر الصرف يتمثل بخفض المعروض من النقود. وهو حل غير وارد في الوقت الراهن.

لا تجرم دمشق التعامل بغير الليرة فقط، بل تشمل العقوبات أيضا، إذاعة الأخبار المتعلقة بتدني العملة الوطنية، حيث ينص المرسوم التشريعي رقم 4 للعام 2020 على الاعتقال المؤقت والغرامة من مليون إلى خمسة ملايين ليرة سورية لكل من أذاع أو نشر أو أعاد نشر وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة أو وهمية لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية وأسعار صرفها المحددة بالنشرات الرسمية، أو لزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها وجميع الأسناد ذات العلاقة بالثقة المالية العامة.

ترهيب وتنفير للمستثمرين

حكومة دمشق، تستخدم المرسوم 3 للعام 2020 كذريعة للحل الأمني، حيث تلاحق الأشخاص والشركات المتعاملة بالقطع الأجنبي. ويرى قاضي أن هذا المرسوم يعد قاتلا للحكومة لأنها، انتحرت اقتصاديا بهذا المرسوم، الذي يمنع التداول بغير الليرة السورية، ما أدى لهبوط حجم التحويلات المالية بالقطع الأجنبي من الخارج.

من مساوئ هذا المرسوم أيضا، بحسب قاضي، دفعه الطبقة الصناعية لمخالفة القوانين الرسمية، لأن عملية تنشيط الصناعة بحاجة إلى القطع الأجنبي المتوفر في السوق العائمة؛ فأي عمل صناعي بحاجة لقطع تبديل ومواد خام وخطوط إنتاج جديدة، وهي أمور لا يمكن الحصول عليها إلا عبر القطع الأجنبي. و”المصرف المركزي” لا يلبي الصناعيين في هذا الأمر، لعدم توفر هذا القطع إلا بحجم ضئيل جدا؛ وهنا يضطر المصنع السوري لأحد أمرين، إما أن يتوقف عن العمل أو يخفف نشاطه ويترك المعمل قائما، وسيلجأ حينها للسوق السوداء للحصول على المزيد من القطع الأجنبي.

كافة الأدوات الأمنية تم تجريبها في التاريخ السوري على أيام الرئيس السابق حافظ الأسد، وقادت إلى تجميد النشاط الاقتصادي في حينها. وبعد القانون رقم10 للعام 1991 والذي سمي قانون الانفتاح، أدرك الرئيس آنذاك، أن الحلول الأمنية غير مجدية اقتصاديا.

 الحملات الأمنية التي تطاول المتعاملين بغير الليرة السورية، سوف تظل مستمرة بالرغم من حجم الأموال المتواضع الذي تتم مصادرته، وفق قاضي، ما يؤكد أن المقصود من الإصرار على تطبيق هذا المرسوم، هو الترهيب وتنفير المستثمرين بشكل أكبر ما يقود إلى تعطيل العجلة الاقتصادية في البلاد.

على الرغم من تكثيف جهودها لمعاقبة كل من يتعامل بغير الليرة، تغض حكومة دمشق النظر، في بعض الأحيان، عن حيازة القطع الأجنبي وذلك تفاديا لإفلاس الخزينة.

في العام 2021 جرى الحديث عن بيئة مصرفية جديدة خلال اجتماع حاكم “مصرف سورية المركزي” بالفعاليات التجارية والصناعية ورئيس غرفتي تجارة وصناعة دمشق، حيث شدد محمد عصام هزيمة، على أن الحكومة لم تلغ أية آلية سابقة لتمويل المستوردات، بل ستزيد شركات الصرافة المرخصة، لتأمين القطع الأجنبي، مؤكدا أن حيازة القطع الأجنبي لا يعاقب عليها القانون لكن التعامل به في الداخل ممنوع.

من المرجح أن تستمر حالة المناورة بين استخدام القبضة الأمنية والتغاضي عن حيازة القطع الأجنبي، وذلك خشية من حدوث انعكاسات خطيرة قد تقضي على ما تبقى من الاقتصادي السوري المتهالك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.