لطالما كان الحديث عن نقد النص الديني، من الأمور المثيرة للجدلة بين المجتمعات المسلمة والعربية على وجه التحديد، وذلك بين من يعتبر أن نقد ما يسميها “الثوابت” هو خروج عن الشريعة، وبين من يتجرأ على الاعتراف بأن بعض التشريعات والثوابت تحتاج إلى مراجعة، لتتوافق مع تطور العصور والمعرفة الإنسانية.

“الحل نت” حاور الدكتور محمد حبش، مؤسس ومستشار مركز “الدراسات الإسلامية“، ومؤسس رابطة “كتّاب التنوير“، للحديث حول مسألة نقد النص الديني، وتأثير طريقة قراءة النص على تنامي الإرهاب، وطريقة تعاطي المجتمعات المسلمة مع النصوص الدينية، ومدى تأثيرها على التطور المجتمعي من نواحي اجتماعية واقتصادية وسياسية.

د.حبش هو واحد من المفكرين السوريين البارزين، تبنى مشروع التجديد الديني، وأطلق مشروعه عبر مركز “الدراسات الإسلامية” بدمشق الذي أسسه وأشرف عليه، وعقد عدة مؤتمرات إسلامية لتعزيز خطاب التنوير الإسلامي. كما انتخب مرتين رئيسا لجمعية “علماء الشريعة” في سوريا.

صدر له 52 كتابا مطبوعا في قضايا التنوير الإسلامي، كما اشتهر بمقالاته الجريئة في الصحف العربية، وبرامجه الكثيرة على المحطات الفضائية والإذاعات السورية والعربية.

الإرهاب وعلاقته بالنص

كثيرة هي التساؤلات التي تدور حول مساهمة الخطاب الديني في المرحلة السابقة في تعزيز الإرهاب بالمجتمعات المسلمة، وكذلك حول كيفية أن يكون هناك تأثير لرجال الدين المتنورين من أجل مواجهة هذا الخطاب.

حول ذلك يرى د.محمد حبش بأن النص الديني في كثير من الأوقات، “يعتبر ملهم للحركات العنيفة“، لاسيما وأن بعض النصوص الموجودة في القرآن تحمل في معانيها الظاهرة مضامين عنيفة جدا، حسب تعبيره.

وقال حبش في مقابلة خاصة مع “الحل نت“: “فيما يتصل في الإرهاب أو ظاهرة الإرهاب، يجب الاعتراف أن النص الديني يعتبر ملهم للحركات العنيفة، ونصوص موجودة في القرآن مثل فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة. هناك نصوص كثيرة في القرآن وهي في الواقع تحمل مضامين عنيفة جدا، وتم اختيار هذه الآيات من قبل التيارات المتطرفة، تحت قاعدة العمل على ما مات عليه رسول الله، واعتبرت هذه الآيات ناسخة لآيات الرحمة والتسامح والغفران التي كانت في أول الإسلام“.

قد يهمك: “الحل نت” يحاور سعد سلوم حول التنوع الديني والإثني في المنطقة العربية

وفق ما يعتقد حبش فإن هذا الفهم يعتبر “خاطئ“، حيث يوضح أن: “القرآن محكوم بأسباب نزوله، والعبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، مع أن كثير من الفقهاء أراحوا أنفسهم وعكسوا هذه القاعدة، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن منطق الأشياء وسياق التشريع وما أخذ به الفقهاء الناضجون في التاريخ الإسلامي أن العبرة بخصوص السبب، يعني مثل هذه الآيات التي ذكرتها هل العبرة فيها عموم اللفظ، هل المطلوب الآن أن نقوم ونقتل كل مختلف في الدين؟، أن نقاتل الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، إن تطبيق النص في كل زمان ومكان بهذه الصيغ الإطلاقية تلزمنا بتطبيق هذه الآيات اليوم ولندخل في حرب مع هذا العالم ومع كل أمم الأرض”.

صالح لكل زمان ومكان؟

ينظر حبش إلى أن جملة “صالح لكل زمان“، المترددة على لسان الرافضين لإجراء أي مراجعة للأحكام والنصوص الدينية، لا تستند لأي أصول فقهية أو علمية، فالقرآن بطبيعته قائم على منطق الناسخ والمنسوخ، ويقول: “كل الفقهاء السلف متفقين على أن الناسخ والمنسوخ هو من خصائص القرآن، يعني أن نصا كان يطبق في فترة ثم لم يعد مناسبا لفترة فتم نسخه، فالإسلام قائم على التطور والتحديث“.

وحول ذلك يضيف: “لا شك أن الفقهاء الحكماء رفضوا هذا الأسلوب الإطلاقي، أصلا كلمة صالح لكل زمان ومكان، هذه كلمة غير أصولية، وغير علمية وغير فقهية، ولم تستخدم خلال التاريخ الإسلامي، مضمونها موجود لكن العبارة الجديدة، هذه كلمة خطيرة وغير عقلانية وغير واقعية وغير منطقية، تتناقض مع تفاسير القرآن“.

وبشأن ملف الإرهاب وارتباطه بظاهر النص، يختم حبش حديثه عن هذا الموضوع بالقول: “الإرهاب توجه إلى عبادة النص وكفر بأسباب نزوله، الإرهاب توجه إلى النص الأشد واعتبره ناسخا لكل ما سواه، الإرهاب بنى العنف على أساس أنه منهج قرآني، والحقيقة أن كل نصوص الحرب في القرآن هي اختصاص الدولة، وهي مبنية على مصالح الأمة، وليس على مصالح الدين، مبنية على الدفاع عن الوطن وليس الدفاع عن الإيمان، آيات الحرب اختصاص ولي الأمر ويعني الدولة، ولا يحق لأي فقيه، أن يأخذ من الناس بيعة الجهاد، هذا افتراء ومخالفة لكتاب الله“.

يعتبر البعض أن الخطاب الديني الإسلامي المنتشر، يحمل صيغة تسليمية بالغة الخضوع، وهنا يجدر التساؤل حول سبل تغيير فهم ظاهر النص، من أجل عدم مساهمة الدين في تراجع المجتمعات لا سيما على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

وفي هذا المقام يوضح حبش بأنه “يجب أن نفرق بين لونين من الخطاب، الخطاب الوعظي الذي يتولاه رجل الدين بالمساجد والخطاب الفقهي الذي يتولاه الفقيه في المحكمة وفي مجلس الدولة وفي مجلس الفقهاء. هناك فارق كبير بين الفقهاء والوعاظ، تاريخيا الفقهاء كانوا رجال دولة ورجال اقتصاد، يعني عندما تتحدث عن فقيه مثل أبي حنيفة أو العز بن عبد السلام هؤلاء كانوا رجال دولة، ويعملون مع الحكام والفقهاء وكانوا ينتجون الفقه الواقعي الذي يطبق في الحياة، لذلك أنت تجد أن المذاهب التي تم تطبيقها في دولة، مثل الحنفي والمالكي هي مذاهب مرنة“.

ويتحدث حبش خلال المقابلة الخاصة مع “الحل نت” عن تفريقه بين الفقيه ورجل الدين، معتبرا أن المشكلة غالبا ما يتسبب بها رجل الدين، ويوضح قائلا: “أنا أفرق جيدا بين الفقهاء وبين رجال الدين، الفقهاء هم رجال دولة ورجال اقتصاد ورجال علم، هؤلاء الذين كتبوا الفقه الإسلامي في التاريخ لعصورهم ودولهم كانت نصوص واقعية ومحكمة، وهم مستمرون. الآن الفقهاء هم اللجان التشريعية في الدول، هؤلاء يكتبون القوانين، القوانين التي تصدر في البلاد العربية هي قوانين جيدة وإن لم تكن مثالية، بالتالي لا يوجد مشكلة بين الحداثة أو مبادرات التطوير وبين النص الفقهي القانوني الذي يتطور باستمرار، مثلا قانون المعاملات المدنية، هذا القانون يقال له أبو القوانين، ينظم كل العلاقات التجارية، هناك دول بنت أعلى أبراج العالم وتطورت، كل هذه العقود تم إجراؤها وفق قانون المعاملات المدنية الذي كتبه الفقهاء، حتى القانون نفسه يشرح أنه مقتبس من الفقه الإسلامي“.

مشكلة رجال الدين

د.حبش يؤكد على أن مشكلة القراءة السطحية للنصوص الدينية، يعود سببها لرجال الدين، فهم وفق رؤيته طبقة أخرى مختلفة تماما عن الفقهاء، ويزيد بالقول: “الفقيه هو الذي درس الشريعة ودرس القوانين، أما رجل الدين فهو غير معني بإصدار القوانين مثل الفقيه، هو رجل فقط معني بإعادة إنتاج عقيدة السلف وفهم وتطبيق السلف، لذلك هنا يحصل الصراع“.

كذلك يرى حبش أن المجتمع يجب أن يواجه رجال الدين، الذي يصرون على اعتبار أن القوانين التي يطورها الفقهاء “بمثابة خروج عن الشريعة“، ويدعم رأيه بالقول: “اليوم عنا 57 دولة إسلامية، 55 دولة منها تركت تطبيق الحدود، من رجم وجلد وقطع يد، بالتالي تحولت إلى العقاب المدني والإصلاحي، وكل ذلك تم بإشراف فقهاء وفتاوى دينية، ولكن الواعظ أو رجل الدين لا يزال يصرخ بأن هذا عبث بالدين، ولن يقبل الله منا صلاة ولا زكاة حتى نقطع يد السارق ونجلد الزاني”.

اقرأ أيضا: لوح “حلم جلجامش”.. بغداد تحتفل بتسلمه بعد 30 عاما من السرقة!

نقد النص الديني

حول طرح فكرة قراءة النص الديني بعقلية نقدية، وكيف يمكن طرحه في المجتمع في ظل استقبال العقل التقليدي للنص على أنه شيء مقدس غير قابل للتغيير أو النقد، يوضح حبش، “بكل تأكيد أنا من أشد المناصرين لقيامة دراسات نقدية للنص الديني، قرآنا وسنة، وهذه الدراسات النقدية ليست مبتدعة أو مخترعة أو معادية لسياق النص. النص هو الذي أمرنا باتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، أنا شرحت هذا المعنى بكتاب خاص، هذا الكتاب يشرح كل القواعد التي اتبعها الفقهاء في نقد النص، نعم بكل وضوح هناك نقد لنصوص السنة يقوم على نقد المتن والسند، وهناك نقد قائم للقرآن يقوم على نقد التفسير والتأويل، ولكن كان سلفنا أشد جرأة عندما تحدث عن نسخ الآيات والقول بالمتشابه، القرآن أبقى حلّا. مخارج كثيرة وضعها الفقهاء، هناك أساليب لعقلنة النص الديني“.

في فترة سابقة، تم الإعلان عن تشكيل “المجلس الإسلامي السوري” من قبل شخصيات سورية معارضة مقيمة في تركيا، هذا المجلس مؤخرا عين مفتي لسوريا بعد أن اتخذت الرئاسة السورية قرارا بإلغاء منصب المفتي، في المقابل هناك أيضا لدى وزارة الأوقاف السورية مجلس علمي فقهي. فكيف يرى حبش معاني وجود هذه المجالس، و ألا يعتبر تشكيل مجلس إسلامي قد يكون مرتبطا بدولة إقليمية هو أن غاية وجوده من أجل تمرير رسائل سياسية من خلال الدين.

“المجلس الإسلامي السوري” يراه حبش أنه جزء من المعارضة السياسية، “من وجهة نظري أحترمهم جميعا، لكن أنا شخصيا لست مع تغول أي كيان يوفر لرجال الدين سلطة على الناس، مهمة هذه المجالس هي الدراسات ومساعدة الناس على الوعي بقضايا الدين، للأسف كان هذا المجلس يفترض أن يكون قدوة ديمقراطية للناس، قدوة شورية ولكن لم يفعل أو يحقق الانتشار، لا يتوفر في هذا المجلس أي عضو يمثل التيارات التنويرية أو تيار المعتزلة أو القرآنيين مثلا أو الشيعة وهؤلاء جميعهم موجودين في سوريا، وكان يجب أن يمثلهم هذا المجلس، لكن المجلس اختار لونا واحدا سلفيا سنيا واكتفى بأن هذا هو التعبير عن الإسلام، بالطبع هذه فكرة ناقصة“.

ويضيف في إطار تعليقه على تعيين مفتي من قبل المجلس: “للأسف أيضا عندما تم إلغاء منصب المفتي في سوريا خلال يوم واحد؛ رأينا ظهور مفتي جديد، كانت فرصة عظيمة أن يعلن عن الترشح لمنصب المفتي، ونصل لقائمة طويلة، ثم يتم انتخاب أو اختيار المفتي، لم يحصل شيء من هذا، وتكرر موضوع الاستنسابي، فهو لا يمثل كل الإسلاميين في سوريا، فقط التيار السلفي السني المعارض لنظام الحكم، أو يمثل جزء منه حتى، على كل حال أتمنى لهم التوفيق”.

مشروع سعودي لإصلاح الدين؟

حول ما قاله، ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لمجلة “أتلانتيك” الأميركية، حينما تحدث عن تشكيل لجنة خاصة لتنقية السنة، وأكد أنه لا يوجد في الأحاديث من المتواتر إلا بضع مئات من الأحاديث وأنه لا حاجة لما جمعه الرواة بعشرات الآلاف من السنن النبوية، يعتبر حبش أن هذه التصريحات تنم عن مشروع سعودي طموح وفرصة لإصلاح الدين.

ويضيف “مشروع الأمير محمد بن سلمان الذي صرح به، هو مشروع طموح. هذه أول مرة تتوفر إرادة سياسية بهذا الحجم، وهي السعودية بلد الحرمين. لأول مرة تتوفر هذه الفرصة بأن هناك توجه حكومي كامل باتجاه إصلاح الدين. الرجل قال إنه سيقوم بغربلة الأحاديث، هذا عمل جيد، لكن إياكم أن تظنوا أن غربلة الأحاديث معناها نهاية المشكلة، أو أنها إدانة للبخاري ومسلم، هما قاما بعمل جيد، يشكرون عليه“.

وفي ختام حديثه لـ” الحل نت“، أشار حبش إلى أن “المشكلة لن تنتهي إذا تم حذف بعض الأحاديث، سقط حديث مثلا أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، لكن معنى الحديث أيضا موجود في القرآن، أنا لا أفضل أي يحذف ولا حرف واحد من الحديث أو القرآن، يجب أن تبقى الكلمة كما هي، التراث سيبقى، الغرب حدّث دنياه ولم يحدث دينه، العقل يجب أن يتغير لا النص. ما أردت قوله هو أن إصلاح هذا الدين يتم بقواعد الأصوليين نفسها لكن بشجاعة استثنائية وفق قاعدتين لنذهب بالعبادات إلى حيث أمرنا النص، ولنذهب بالمعاملات إلى حيث أمرنا النص أيضا، الرسول قال أنتم أعلم بأمور دنياكم“.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.