بين تياري التطبيع والرفض.. إلى متى ستبقى دمشق معزولة عن محيطها العربي؟

لا يبدوا أن فك العزلة العربية عن دمشق المتمثلة بمبادرات تقودها أكثر من دولة عربية لا تحقق النتائج المرجوة منها بسبب تصلب موقف الدول الممانعة لعودة الحكومة السورية إلى مقعدها في الجامعة العربية. عزلة الأخيرة عربيا أمر يرتبط  باعتبارات إقليمية ودولية بصورة رئيسية، لذلك فإن فك هذه العزلة يرتبط بتغير هذه الاعتبارات ومنها الموقف من إيران وتطور نفوذ الأخيرة داخل سوريا، والموقف الغربي وتحديدا الأميركي من حكومة دمشق وتغيرات هذا الموقف.

 إلى جانب ذلك، فإن الحكومة السورية لم تبد أي استجابة لمتطلبات مساعي التطبيع التي قادتها دول عربية مثل الأردن والإمارات تجاهها، ما يعني أنها ستبقى معزولة حتى أمد غير معروف، مما يزيد من تدهور الواقع الاقتصادي والمعيشي ضمن مناطق سيطرتها، خاصة مع عدم تجرؤ أي من الدول التي تقود مبادرات التطبيع على القيام بإجراءات جذرية تخص التحويلات المصرفية والمساعدات الإنسانية الضخمة، بسبب خوفها من العقوبات الدولية.

اقرأ أيضا: عودة سوريا للجامعة العربية: ما سبب تخبّط مواقف بعض القادة العرب؟

الحكومة السورية ترى أنها انتصرت في الصراع السوري الداخلي وباتت المعركة مختلفة بحسب الدعاية الرسمية، تتعلق بالاقتصاد والوضع المعيشي، بحسب حديث أيمن عبدالنور، مدير موقع “كلنا شركاء” لـ “الحل نت”، ونتيجة إفلاسها الاقتصادي تحاول دمشق دائما فتح علاقات ضمن النطاق العربي، بهدف تخفيف آثار الحصار الاقتصادي الغربي والحصول على مساعدات إنسانية وإغاثية ومالية.

 موقع “ميدل إيست آي” البريطاني وصف في تحليل منشور له في شباط/فبراير الماضي، سلطنة عمان بأنها مهندس تطبيع العلاقات العربية مع دمشق، وقال الموقع البريطاني إنه مع تحسن العلاقات بين سوريا وجيرانها مرة أخرى بعد عقد من اندلاع الحرب السورية لأول مرة، أصبحت دمشق وجهة شعبية لكبار الشخصيات العربية.

 وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي لم يكن آخر مسؤول كبير التقى بالرئيس السوري بشار الأسد في كانون الثاني/ ينايرفحسب؛ بل مثلت الزيارة الدور الرائد الذي تلعبه بلاده في التطبيع العربي مع سوريا. أيام العزلة الطويلة والاضطراب الإقليمي في سوريا بدأت في التحول ويعود جزء كبير من إعادة الدمج إلى الدور الحاسم الذي تلعبه مسقط ورهانها على الحفاظ على خطوط اتصال وعلاقات واضحة مع دمشق في أسوأ الأوقات.

التقارب الإقليمي الأوسع مع حكومة دمشق، بحسب الموقع هو عملية معقدة للغاية، لأسباب ليس أقلها التحذيرات الأمريكية والأوروبية و رفض المملكة العربية السعودية الالتزام بالمشاركة في ظل الظروف الحالية وهو ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا.

لكن الموقف الأميركي يبدو واضحا حول عودة العلاقات مع دمشق. نيد رايس المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، قال في تصريحات نقلتها قناة “الحرة” الأميركية، في 22 من الشهر الجاري، ردا على سؤال عن التقارب التركي مع الحكومة السورية، إن واشنطن أوضحت للحكومات في جميع أنحاء المنطقة وخارجها أن الوقت الحالي ليست وقت التطبيع مع حكومة دمشق.

مبادرات عربية

الخلافات العربية حول التطبيع مع دمشق تبرز قبيل كل اجتماع للجامعة العربية وبالأخص عندما تكون الدولة المضيفة تمتلك علاقات جيدة مع الحكومة السورية، ما يجعلها تحاول من خلال دورها كرئيس للجلسة استعادة دمشق مقعدها ضمن الجامعة العربية، وفي المقابل ترفض الدول العربية التي قطعت علاقاتها بدمشق منذ العام 2011 مثل هذه المبادرات حيث ترى أن الأسباب التي أدت لاتخاذ قرار تعليق مشاركة دمشق الجامعة ما تزال قائمة.

الفشل الذريع الذي تواجهه دمشق في كسر الرفض العربي، لا تجدي معه العلاقات التي لا تزال مستمرة مع بعض الدول العربية مثل الجزائر ومؤخرا الإمارات العربية، لأن هذه العلاقات لا ترقى لمستوى التطبيع بل عبارة عن علاقات سياسية وأمنية محدودة جدا ولا يمكن أن نطلق عليها عمليات تطبيع كاملة، وفق عبد النور، وبالتالي، لا توجد علاقات تحويل مصرفية أو تجارية كبيرة تتجاوز العقوبات الدولية، أو تقديم قروض مالية كبرى أو منح غذائية ضخمة مع هذه الدول حتى تلك التي أرسلت سفيرا إلى دمشق.

الخلافات العربية حول دمشق تعكس طبيعة اختلافات مواقفها حيال الأحداث في سوريا منذ بدايتها، وتطور هذه المواقف لاحقا كما في حالة الجزائر مثلا، والتي لطالما كانت تميل لحكومة دمشق منذ العام 2011، مقارنة بقطر والسعودية التي ذهبت بعيدا في دعم المعارضة، بحسب حديث الصحفي، إياد الجعفري، لـ “الحل نت”.

هناك تباينات في السياسات الخارجية للدول العربية حيال توازنات القوى الدولية والصراع البارد بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة الأميركية والغرب عموما من جهة أخرى، وفق الجعفري، إذ هناك دول عربية تميل بشكل واضح لأحد هذين الجانبين، فيما هناك دول أخرى تحاول الوقوف على مسافة واحدة منهما، وهذا ما يعكس بطبيعة الحال تباينات في المواقف حيال الملفات الإقليمية التي تنخرط فيها قوى دولية ومن بينها الملف السوري.

مطالب لم تتحقق

مطالب تيار الرفض والذي يضم مصر والسعودية وقطر والمتمثلة بمضي دمشق في الحل السياسي وإيقاف المد الإيراني والعمل على منع تجارة وتصنيع المخدرات والكبتاغون لم تتحقق حتى اليوم، ومن هذا المنطلق ترفض هذه الدول أي محاولة لعودة دمشق إلى المحيط العربي.

بعض الدول التي اندفعت نحو تحسين سمعة الحكومة السورية في واشنطن مثل الأردن لم تحصل إلا على المتاعب نتيجة إغراقها بالمخدرات التي يتم تمرير شحناتها الضخمة عبر الحدود السورية – الأردنية، بحسب عبد النور، ما جعل العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، يدرك أن مبادرته للتطبيع مع الحكومة السورية ذهبت هباء، وهو ما يجعل تيار الرفض يشعر بعدم جدوى أي تقارب مع دمشق.

الجعفري يرى أن من يقود تيار الرفض لعودة دمشق إلى المحيط العربي، هي السعودية وقطر، فيما موقف مصر أساسا أُميل لهذه العودة، ويبدو أن التغير الأخير في الموقف المصري من هذه الحيثية يرتبط بعاملين، الأول هو الإحباط حيال عدم إقدام الرئيس السوري على أي إجراءات تقابل مساعي التطبيع معه وتشجع على الذهاب بعيدا فيها، والعامل الثاني، هو رغبة مصر في عدم مناقضة السعودية وكذلك الولايات المتحدة في هذا الجانب، بعد أن وجد المسؤولون المصريون أن الأمر لا يستحق هكذا كلفة، نظرا لأن الرئيس السوري لم يقابل مساعي التطبيع معه بما يليق بها.

أما بالنسبة لمواقف السعودية وقطر، فيعتقد الجعفري أنها نتاج قناعة بعدم جدوى الرهان على حكومة دمشق بوصفها نظام حكم عربي، فهي مُستلبة إيرانيا بدرجة كبيرة، وبدرجة أقل روسيا. لذا فالأفضل التفاهم مع طهران وموسكو، والنظر لسوريا بوصفها ساحة لهما، وليست دولة يديرها نظام حكم عربي.

قد يهمك: العلاقات بين أنقرة ودمشق: من سيكون ضحية التطبيع بين أعداء الأمس؟

الصحافة الغربية تلمح إلى إمكانية استمرار بعض الدول العربية مثل الأردن في مبادرات التطبيع، وفي تحقيق نشر مؤخرا تكشف صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية عن مساع أردنية لتعويم  الرئيس السوري بشار الأسد، مقابل وقف تهريب المخدرات من مناطق سيطرته إلى الأراضي الأردنية، حيث تسعى الأردن لحل سياسي يؤدي لتعويم الرئيس السوري، لقاء وقفه تصنيع وتهريب المخدرات باتجاه أراضيها. ويقول كاتب التحقيق جورج مالبرونو، نقلا عن مصدر أردني، أن المقايضة بين الطرفين كانت حاضرة في صلب محادثات سرية أجراها مسؤول أردني رفيع المستوى مع وزير خارجية سوريا فيصل المقداد.

وبحسب الكاتب، فإن الجانب الأميركي لا يمانع تلك المقايضة، مشيرا إلى أنّ الملك الأردني تناول تلك الصفقة لدى لقائه الرئيس ماكرون مؤخرا والذي بدا مهتما بحسب الصحيفة الفرنسية التي لفتت في المقابل إلى أن تلك المقايضة قوبلت بمعارضة من قبل دبلوماسيين فرنسيين.

واشنطن ترفض التطبيع

الموقف الأميركي يشكل عائقا كبيرا أمام أي مبادرات للتطبيع مع دمشق. فإلى أي مدى يمكن أن تقف المقاربة الأميركية أمام جميع عمليات التطبيع مع حكومة دمشق؟ وإلى متى يمكن أن يستمر الموقف الأميركي الرافض للتعويم؟

أي تجاوز للعقوبات الغربية سوف تعاقب الجهة التي تنفذه حتى ولو كانت حليفة للولايات المتحدة، بحسب أيمن عبدالنور، وبالتالي، سيتم ملاحقة أي مخالفات لقانون عقوبات “قيصر” في أي دولة كانت، خصوصا المخالفات المصرفية.

من جهة أخرى، يرى إياد الجعفري أن هناك عامل مهم في نظر الدول العربية الرافضة للتطبيع مع حكومة دمشق، وهو حالة الاستلاب الإيرانية له بصورة خاصة، بينما تهم المقاربة الأميركية الدول التي لا ترى الخطر الإيراني كأولوية مثل مصر. فيما دولة كالسعودية ترى الخطر الإيراني هو الأكثر إلحاحا في أولوياتها، ما يجعل المقاربة السعودية تتطابق إلى حد ما مع المقاربة الأميركية في الملف السوري. ما دامت إيران تمسك بزمام الحكومة السورية وليست على وفاق مع السعودية ومع الأميركيين، فإن هذه الأطراف (السعودية، الأمريكية..)، ستبقى تعارض التطبيع مع حكومة دمشق.

هناك قضية أخرى يمكن التطرق إليها في موضوع التطبيع مع دمشق وهي جهود التطبيع بين دمشق وأنقرة التي تم التلميح إليها مؤخرا والتي يستبعد  أن تدفع نحو عودة الحكومة السورية إلى الجامعة العربية.

 فما تبذله أنقرة في هذا المجال هي جهود موسمية تتعلق بالانتخابات التركية القادمة وكل ما يمكن أن تنجم عنه جهود التطبيع السوري/التركي تنحصر في عودة اللاجئين إلى سوريا، وتأمين الحدود التركية الجنوبية، وهذه الاهتمامات التركية مختلفة عن المطالب والاهتمامات العربية.

من المستبعد تماما أن تنجح مساعي التطبيع بين أنقرة و دمشق في الوصول إلى نتائج نوعية تغيّر من الموقف التركي من الملف السوري، وفي هذا السياق يرجح الجعفري حدوث لقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى لكن الملفات العالقة بين دمشق وأنقرة يصعب حلها وخاصة ملف اللاجئين، وبالتالي من المستبعد حصول تطبيع حقيقي بين الطرفين، بل يمكن أن نقول أن الملفات العالقة بين تركيا والحكومة السورية أكثر تعقيدا من تلك العالقة بين حكومة دمشق ودولة كالسعودية مثلا.

بين مواقف الدول العربية الراغبة في التطبيع وتلك الرافضة لعودة دمشق إلى مقعدها العربي، يبدو الموقف ضبابيا إلى حد ما، لكن الموقف الأميركي تجاه تعويم الحكومة السورية لا يزال يلعب دور المحفز لتيار الرفض من جهة، والمعرقل لجهود الدول الأخرى التي تقود مبادرات التطبيع من جهة أخرى. في حين لا يمكن أن تلعب تركيا أي دور في هذا الملف لأن مبادرتها الحالية لتدفئة علاقتها بدمشق تهدف إلى تحقيق شأن داخلي تركي، لا تتقاطع مع أهداف الدول العربية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.