فقدان الأحبة شعور يخشاه معظم الناس، ويتضاعف الألم إذا ما كان الفقدان الأبدي، لكن ماذا لو كان الفقد لجزء من أنفسنا أو من أجسادنا. قد تكون خسارة عضو من أعضاء الجسد فجأة بلا أعراض مرضية ولا تصورات مسبقة، مثلما خسر آلاف السوريين أجزاء من أجسادهم، بظروف قاسية ومرعبة بظل صراع دموي مستمر منذ أكثر من 10 سنوات، ليُتركوا بمواجهة واقع غير آمن ولا عادل ولا داعم.

قصة أم محمد (39 عاما) بدأت عندما ضرب الطيران الحربي المكان الذي كانوا يحاولون العبور منه هي وزوجها على الدراجة النارية في ريف إدلب أواخر العام 2019، حيث تصف تفاصيل ما أصابهم خلال حديثها لـ “الحل نت”، بأن قوة القصف قد رمتهم على بعد أمتار، لم يصب زوجها آنذاك، لكنها تأذت بشكل كبير، إذ تسبب القصف بإعاقة في يديها وفتق بين الفقرات وكسور أيضا، ما جعلها لا تقوى على الوقوف طويلا، وهذا ما حرمها من مزاولة عملها كمعلمة صف بالشكل الاعتيادي.

أكبر معضلة يواجهها مصاب الحرب أو ذو الإعاقة، هي إيجاد فرصة عمل ملائمة لوضعه الصحي، تقول أم محمد التي تعمل الآن بإحدى مدارس المنطقة بشكل شبه تطوعي على كرسيها المتحرك. تذهب هي وأبنائها إلى المدرسة سوية، تتألم وتتعب كثيرا. أبنائها متعاونون معها لكنها تشعر بالعجز والقهر، خصوصا عندما يضطر أبنائها لترك دراستهم بعض الأحيان، لإنجاز مهام منزلية لا تستطيع هي إنجازها.

اقرأ أيضا: الإرادة بمواجهة الإعاقة.. هكذا انتصرت “ليلاف” على تنمّر المجتمع

 إلى اليوم لا تزال أم محمد تخاف من صوت الدراجات النارية، والسيارات والطائرات، وربما هذا الأمر مشترك لدى العديد من مصابي الحرب وذوي الإعاقة، كما تؤكد مريم العيسى (اسم مستعار) التي تهتم بابنها من ذوي الإعاقة بريف إدلب، حيث تقول خلال حديثها لـ “الحل نت” أن ابنها يبلغ من العمر 13 عاما، مصاب بمتلازمة “داون” وإدراكه ضعيف، ووضعهم المادي معدم، وتضيف بحسرة، بأنها تقف عاجزة حتى على إطعامه وكسوته ولا أحد يهتم لهم.

السيدتان أكدتا أنهما لا يتلقيان أي دعم من أي مركز، وأن المناطق التي يعيشون فيها بريف إدلب تفتقر لكل مقومات الحياة، بما فيها مراكز علاج ودعم ذوي الإعاقة والاختصاصيين، كما أنهما لم يحظيا بأي اعتبار ومراعاة خلال القصف أو رحلة نزوحهم، كون لديهم حالات خاصة تحتاج لعناية وأولوية بتقديم الدعم والمساندة، خصوصا في حالات الطوارئ والخطر.

دون حماية

في تقرير صدر أيلول/سبتمبر الفائت، تحدثت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، عن أثر النزاع المسلح في سوريا على الأطفال ذوي الإعاقة، وفصّلت في الانتهاكات التي يواجهها الأطفال ذوو الإعاقة، بما فيها المخاطر المتزايدة أثناء الهجمات وعدم تلقي خدمات الدعم الأساسية التي يحتاجونها.

التقرير أشار إلى أن غياب البرامج العامة والشاملة، بما فيها التعليم، وتقديم المساعدات الإنسانية، وخدمات الصحة العقلية والدعم النفسي الاجتماعي، يؤدي إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها الأطفال ذوو الإعاقة في سوريا، لافتا إلى أن الأشخاص ذوي الإعاقة في سوريا، بمن فيهم الأطفال، غالبا ما يكافحون للفرار من الهجمات، لا سيما بسبب الافتقار إلى الأجهزة المساعدة أو التحذيرات المسبقة الفعالة والشاملة.

المنظمة الدولية أكدت على ضرورة التعجيل بضمان الحماية والمساعدة لتلبية احتياجات الأطفال ذوي الإعاقة في سوريا، من قبل الأمم المتحدة والحكومة السورية والحكومات المعنية.

عن البيئة الداعمة والآمنة، تقول الإخصائية النفسية سلوى عرابي لـ “الحل نت”، إن سوريا عموما تفتقر إلى البنى التحتية الداعمة للأشخاص ذوي الإعاقة، حتى المرافق العامة غير مؤهلة للحركة العادية اليومية لهم، كأبسط الأمور مثل صعود سلم المنزل، أو المدرسة، أو ركوب سيارة وغيرها، كما لا تتوفر المراكز والمنظمات العلاجية والداعمة بكل المناطق.

البيئة الاجتماعية أيضا غير مؤهلة بشكل كاف وتفتقر إلى أساليب التعامل الصحيح مع ذوي الإعاقة ممن خلقوا بإعاقة أو أصيبوا بها بعد الولادة، بحسب عرابي، محذرة من خطورة التعامل غير الصحيح معهم، إن كان في المدارس أو حتى في الأسرة. قد يخلق التمييز مثلا أو تعزيز الاختلاف بين أصحاب الإعاقة وقرنائهم ونبذهم أو عزلهم، إلى خلق أشخاص خجولين منعزلين، أو أحيانا العكس، يصبحون عدوانيين ومؤذين، لتعويض النقص، فكيف يمكن تصوّر مستقبل هؤلاء الأشخاص وإنتاجهم في الحياة بظل هذه الظروف. تتساءل الإخصائية النفسية.

نذير كارثة

لديه ضمور بالدماغ نتيجة خطأ خلال الولادة، إنه لا يقوى على النطق أو الحركة أو الأكل، حفيدها ذو الثلاثة أعوام يتعالج ويتناول العديد من الأدوية، لكن والده الذي يتدين تكلفة حفاظاته وحليبه، لم يعد قادرا على تأمين الدواء له، تروي الجدة وفاء حسين (50 عاما) لـ “الحل نت” معاناة عائلتها بتأمين احتياجات خاصة لحفيدها. حاله حال العديد من السوريين ذوي الإعاقة في سوريا.

وفقا لإحصائية مرعبة للأمم المتحدة، فإن لدى قرابة 28 بالمئة من السوريين إعاقة، أي حوالي ضعف المعدل العالمي، لأسباب منها إصابات الحرب وعدم تلقي الرعاية والخدمات، الأمر الذي ينذر بحجم الحاجة والعوز الذي تعيشه البلاد، والضرر الذي قد يتنامى خلال السنوات المقبلة، لأسباب تتعلق باستمرار الحرب مثلا، أو أخرى تتعلق بدمار البنى التحتية، وتعرّض سوريين لأسلحة كيميائية في وقت سابق ومواد سامة، قد تؤثر على سلامة المواليد الجدد.

إحصائية الأمم المتحدة لعام 2021، أوضحت أن 19 بالمئة من السوريين بين سنّ العامين إلى 17 عاما لديهم إعاقة، ونحو 27 بالمئة بين 18 – 59 عاما لديهم إعاقة، في حين أن 99 بالمئة من السوريين الذين يبلغ أعمارهم 60 وأكثر لديهم إعاقة.

قرابة 800 حالة من ذوي الإعاقة تتقدم شهريا للفريق طلبا للدعم، بحسب حديث المسؤول في فريق “ملهم” التطوعي، محمد عثمان، لـ “الحل نت”، حيث يتم الموافقة فقط على ما يتلاءم مع شروط ومعايير القبول، أهمها أن تكون الحالة قابلة للمعالجة، فعادة يتم قبول معظم الطلبات باستثناء تلك التي تتطلب لزرع أعضاء مثلا أو مرضى السرطان، ممن يحتاجون لمبالغ هائلة لا يمكن تغطيتها، بعد التحقق من صحة الطلب ومطابقته مع الواقع، وتقييم الحالة فيما بعد من قبل لجنة شاملة من الناحية الطبية والمالية واللوجستية. يتم طرح الحالة للتبرع ومعظم الحالات يتم إغلاقها بعد تحصيل المبلغ المطلوب فعلا.

خلال آخر 500 حالة خاصة تم طرحها للدعم، فإن 219 شخصا معاقا هم أطفال تحت سن 12 عاما، وفق عثمان، إذ أن الفريق وعند تقديم الدعم في أي مجال، يأخذ بعين الاعتبار وجود أفراد من ذوي الإعاقة، ويقدّم الأولوية دائما للحالات الساخنة المستعجلة.

 العديد من المنظمات الإنسانية تعمل على تقديم الدعم لعلاج ذوي الإعاقة في مناطق شمال سوريا، لكن الأعداد الكبيرة للسوريين ممن هم لديهم إصابة أو إعاقة، أحد الأسباب التي تبرر فيها تلك المنظمات عجزها عن تقديم الدعم الكافي لهم، خصوصا عندما يولى الاهتمام للحالات الخطيرة والمستعجلة، بينما تبقى الحالات الباردة على قائمة الانتظار.

أمهات سوريات ممن لديهنّ أطفال من ذوي الإعاقة، تحدثن لـ “الحل نت” عن معاناتهن مع أطفالهنّ المتعلقة بأمور حياتية يومية، لا يعيها الجميع، ولا يحسبونها عاجلة أو مريرة، والتي تحتاج فيها للدعم والتوجيه، كالصعوبات التي تواجه الأم في كل مرة تريد إطعام طفلها الذي يحمل الإعاقة ويعاند في ذلك، أو في تغيير ملابسه أو استحمامه، أو نزعه الحفاظ وتعليمه دخول المرحاض في سن كبيرة، ممن لا يملك قدرات عقلية تماثل من هم في سنه، أو القلق على مستقبل الطفل ونفسيته ومشاعره، كلها معاناة تعيشها الأم دون أي داعم أو موجِّه أو معلِّم، لسيدة قد لا تمتلك الخبرة أو العلم الكافي لتلبية كل احتياجات الطفل ذي الإعاقة.

حياة فاعلة

لم توقف الإعاقة أحدهما عن العمل، ولم تحرمهما الأبوّة أيضا، أخوان سوريان في مدينة كفر تخاريم بريف إدلب، أصيبا عند بدء الأعمال العسكرية حيث يسكنان، أحدهما أصيب بأحشائه (36 عاما)، ويعمل حاليا بتصليح الأدوات الكهربائية، ولديه 3 أطفال أحدهم بالتبني، وآخر قطعت يده وفقد قدرته أيضا على الإنجاب (33 عاما)، يعمل كحارس بمستشفى، بينما تبنّى هو الآخر طفلا تم العثور عليه في المدينة.

تأكيدا على نقطة ذكرتها أم محمد بداية، فإن العمل يمكن أن يسهم بتغيير وإنعاش حياة المصاب أو من يحمل إعاقة من جديد، حيث يكفل له جانبا مهما من حقوقه، وإشراكه بسوق العمل والحياة الإنتاجية، ما يعني أنه سيكون منتجا لا مستهلكا، له دوره في الحاضر والمستقبل، وهو ما تشدد عليه الإخصائية النفسية سلوى عرابي، عندما تحدثت عن ضرورة إشراك ذي الإعاقة بكافة الأنشطة الحياتية والمهام، في الأسرة والمدرسة والعمل، مع مراعاة احتياجاته الخاصة.

في عجلة الحياة اليومية، وديناميكية الوقت، ينشغل الناس عادة بشؤونهم الحياتية، وينسون في كثير من الأحيان حقوق حرموا منها، أو التزامات قصّروا فيها، وعند الحديث عن مصابي الحرب وذوي الإعاقة، يسري عليهم وعلى ذويهم الحال نفسه، فهم أصبحوا ورغم صعوبات شاقّة، يطحنون متاعبهم على نفس العجلة، ويجارون مرغمين عجز الحال وضعفه، لكن أمثال يوسف الحاج (27 عاما) استطاعوا أن يكسروا القاعدة، ويبنوا قصة نجاحهم.

الحاج تعرض لقصف طيران حربي في حلب في 2016، أفقده أطرافه اليمنى بشكل كامل، كما تأذت أذنه اليسرى بشكل كبير أيضا، وتابع الشاب السوري حديثه لـ “الحل نت” بأنه بعد دخوله إلى تركيا بشهرين، ركّب طرف صناعي، وقرر أن يغير حياته بشكل جذري، حيث نشط الحاج بالعمل الإنساني ودخل عالم التطوع، ثم انتقل لمجال الإعلام، وبعد 3 سنوات من التدريب في إذاعة راديو، عمل معهم كمراسل في مدينة غازي عنتاب التركية.

قد يهمك: ربع سكان العراق من ذوي الإعاقة

الحاج (أب لطفلين) أشار إلى الصعوبات الكبيرة والإرهاق الذي عاشه بداية عمله الإنساني والتطوعي، كالمشاركة في الحملات الخيرية التي كانت ترسل من تركيا إلى سوريا وتوزيع المساعدات مثلا، لكنه يجد نفسه اليوم ناجحا، خصوصا وأنه افتتح مشروعه الصغير الخاص عام 2020، كمحل لبيع الهواتف المحمولة، بدأ يجني ربحه الخاص منه حاليا.

عطفا على أهمية العمل والدراسة، وضرورة إعطاء ذوي الإعاقة حقوقهم في العيش والحياة، تأتي قصة يوسف وغيره ممن يقال عنهم “أصحاب الهمم”، تأكيدا على أن البيئة الداعمة، وإرادة الشخص الذاتية، يمكن أن تصنع الكثير من النجاح.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.