بينما ينهمك غالبية السوريون في داخل البلاد في السعي خلف تأمين أبسط احتياجات حياتهم اليومية، من غذاء وطاقة ومياه، والاصطفاف في طوابير سيئة الصيت للحصول على بضعة أرغفة من الخبز وعبوة غاز كل ثلاثة أشهر، يسعى آخرون خلف أبرز وآخر الحفلات الغنائية باهظة الثمن، التي عكف مطربون عرب على إقامتها داخل سوريا، في تطبيع سياسي – اقتصادي مع حالة الفوضى السورية.

هذا المشهد يتوائم مع محتوى البرنامج الصباحي على التلفزيون السوري، والذي كان يتحدّث عن فوائد سلطة الفواكه، بينما هناك بيوت سورية لم تدخلها الفاكهة منذ أشهر طويلة، في مشهد يعكس حالة الشرخ في الطبقية الاقتصادية والأولويات لمن هم داخل سوريا، الأمر الذي وصفه الباحث الاقتصادي السوري أدهم قضيماتي خلال حديثه لـ “الحل نت” بأنه، حرب المستفيدين من الحرب على الخاسرين منها.

اقرأ أيضا: الحفلات في دمشق.. من نقابة الفنانين إلى الأمن السياسي!

منذ صيف 2019 وبعد هدوء الجبهات في محيط العاصمة دمشق وقبلها حلب وحمص، عادت الحفلات الغنائية لمطربين مشهورين إلى سوريا، ثم توقّفت خلال انتشار وباء “كوفيد 19” لتعود بعدها مرّة أخرى على نطاق أوسع.

بدأت هذه الحفلات من بوّابة سهرات ثقافية في مهرجانات كانت تقام سابقا في سوريا، مثل مهرجان قلعة دمشق، لتنتقل بعدها على شكل حفلات تنظّمها شركات الإنتاج والتوزيع السورية.

هذا الصيف، استضافت العاصمة دمشق، ومدنا أخرى مثل حلب وحمص عدّة حفلات لمطربين عرب مشهورين، ولكن بينما تأتي هذه الحفلات في البلد الذي يتصدّر “قوائم البؤس” من حيث الأسوأ في المعيشة والدخل والسعادة، وبينما يعيش أكثر من 80 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر حسب الإحصاءات الأممية، تظهر هذه الحفلات حالة الشرخ الطبقي الاقتصادي الذي يعيشه السوريون في داخل بلادهم.

“الحل نت” يضيء في هذه السطور على ما بات معروفا بـموسم “الحفلات الدمشقية” الذي ازدهر في الفترة الأخيرة من قبل مطربين شعبيين أو لديهم تاريخ طويل في الغناء، مع إسقاطاته على الحالة الاقتصادية السورية.

موسم الحفلات

الصيف الحالي شهد إقامة سلسلة حفلات في سوريا، البعض منها لفنانين مغمورين، والبعض الآخر لمشهورين، من جنسيات عربية مختلفة.

كان حفلات “عيد السيدة” في منطقة وادي النصارى، والذي أقامه عدد من النجوم السوريين والعرب من أكثر الحفلات تكلفة، فبحسب ما نُشر عن أسعار التذاكر، توزّعت الحفلات على مطربين ثنائيين بحيث يعني مطربين اثنين في كل فندق، ووصلت تكلفة البطاقة الواحدة إلى ما بين 200 – 500 ألف ليرة سورية للحفل الواحد، كان أكثرها ثمنا حفل فارس كرم بـ 500 ألف، وأقلّها حفلا كان لمطربة مغمورة تدعى هناء سلوم بـ 100 ألف، وهي أسعار تقترب من حد الإنفاق الشهري للأسرة السورية وفي بعض الأحيان يزيد عنه.

موسم هذه الحفلات بدأ بحفلة غنائية للمطرب الشعبي حسام السيلاوي، والذي يشكّل المراهقون القوّة الضاربة في جمهوره، حيث تراوح سعر تذكرة الدخول في دمشق إلى هذا الحفل بما يتراوح بين 90 – 200 ألف ليرة سورية، حسب جودة المقعد، بينما وصلت تكلفة الدخول إلى حفلة فرقة “تكات” التراثية نحو 90 ألف ليرة سورية.

أما حفل المطربة الشعبية ريم السواس، والتي اشتهرت بإدخال الشتائم إلى أغانيها، فبلغت تكلفة حضوره 200 ألف ليرة سورية. في 23تموز/ يوليو الفائت،   أقام المطرب العراقي سيف نبيل حفلا غنائيا مع عشاء فاخر في فندق الشيراتون وسط العاصمة دمشق، بلغت تكلفة حضوره نحو 350 ألف ليرة لبعض المقاعد، وذلك بعد يوم واحد من إحياء نبيل حفلا ضمن مهرجان ليالي قلعة دمشق.

يُضاف إلى هذه الحفلات، حفل جورج الراسي وناصيف زيتون ونجوى كرم وهاني شاكر وغيرهم، حيث أقيمت هذه الحفلات بأسعار مخفّضة كونها أٌديرت حكوميا من قبل “دار الأوبرا” في دمشق.

حفلات لا تمثّل الجميع

“الحل نت” لاحظ بأن أسعار بطاقات الحفلات انقسمت لفئتين، فئة شعبية تنظم حفلاتها في “دار الأوبرا” أو قلعة دمشق أو أماكن عامة ثقافية أخرى، والفئة الثانية هي بطاقات حفلات المطاعم والفنادق وأماكن السهر الفاخرة والتي قد يتجاوز سعرها النصف مليون ليرة كما هو الحال في حفلات عيد السيدة “عيد السيدة” التي وصل سعر بطاقتها إلى نصف مليون ليرة.

أسامة محمد، موظف في قطاع الآثار في سوريا يقول في حديثه لـ “الحل نت” إن هذه الحفلات حتما لا تمثّل الجميع، ولا تعبّر عنهم، فعندما يكون سعر أقل تذكرة لهذه الحفلات بمئة ألف ليرة، فهو مبلغ بسيط لمن يعيشون خارج سوريا، ولكن بالنسبة لفرد يعيش داخل سوريا، تُشكل حلا لعشرات المشاكل التي يواجهها شهريا من تأمين الطعام واللباس وإيجار المنزل، كما أنَّ رواد هذه الحفلات، بحسب محمد، لا يعبّرون عن الحالة الاقتصادية وحتّى النفسية للسوريين داخل البلاد.

من جهتها تشرح عبير عيسى التي تعمل في مكتب سفريات بدمشق لـ “الحل نت”، أنّها عندما تشاهد مقاطع فيديو لتدافع الناس على طوابير الحفلات والأجواء الرومانسية خلالها، تشعر أنّها في دمشق موازية، لا تشبه تلك التي تعيش فيها وتواجه مصاعبها الاقتصادية والخدمية يوميا.

شركة متورّطة؟

من بين الأسماء التي وردت كمنظّمة لمهرجان “ليالي قلعة دمشق” الأشهر في سوريا، شركة “مينا” للفعاليات الثقافية والفنية ومنذ أن أعادت الحكومة السورية إقامة المهرجان في عام 2018 وحتّى اليوم، ظهرت هذه الشركة بشكل مفاجئ واحتكرت تنظيم هذا الحفل.

كما أقامت شركة “مينا” ذاتها مهرجان الياسمين الذي تطلقه وزارة السياحة السورية، بالتعاون مع شركة “إيما تيل” التي يملكها رجل الأعمال خضر أبو علي، المدرج على لوائح العقوبات الأوروبية، وعقوبات قانون “قيصر” الأميركي.

حسام أسمر (اسم مستعار) تقني يعمل في تنظيم الحفلات في سوريا، قال لـ “الحل نت”، بإن هناك الكثير من الشركات التي تعمل بكفاءة عالية على تنظيم المهرجانات والحفلات، ولكن أيا منها لا يستطيع منافسة شركة “مينا” في هذا المجال، لأنّها تحتكر تنظيم أبرز المهرجانات.

الشركة يقف خلفها شخصيات لها دعما من مسؤولين سوريين، لكنّه لم يحدّد اسما بشكل دقيق، وأن الشركة توقّفت عن العمل خلال انتشار فيروس “كورونا”، وعادت بعده بقوّة للاستحواذ على كل المهرجانات والفعاليات الثقافية والفنية وغيرها.

لا يوجد لدى هذه الشركة أي معلومات ولا حتّى موقعا على الإنترنت، ولكن بالتزامن مع انطلاقها ظهرت شركة جديدة تحمل اسم “مينا بلدنا”، بحسب مرجع الشركات والشخصيات “من هم” التابع لمجلة الاقتصادي السورية، فإن الشركة تأسّست بموجب قرار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك رقم 1118 في أواخر عام 2020، وتتخصص في الأدوات المنزلية والكهربائية ومواد البناء، والتعهدات والاستثمارات والمواد الغذائية.

تشير بيانات الشركة لوجود شخصين مؤسسين وهما محمد أديب بن محمد علي مارديني، ورياض بن محمد نذير كناية وهو المدير العام، لا تتوفّر أي معلومات عن الشخص الأول، غير أن الثاني يحمل كنية متطابقة لينا نذير كناية بنت محمد، وهي على لائحة العقوبات الأوروبية، إضافة إلى كونها معاون وزير شؤون رئاسة الجمهورية السورية.

دعاية سياسية

هذه الحفلات لا تحمل أي فوائد اقتصادية، بل تنحصر بكونها “دعاية سياسية وكسر عزلة” عن حكومة دمشق. وفق الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي، وهذه الحفلات تُقام لطبقة محدّدة في المجتمع الموجود داخل سوريا، وفي أغلب الأحيان يكون روّاد الحفلات الخاصة التي تقام في المنتجعات والفنادق هم إمّا تجّار حرب أو مستفيدين منها أو أشخاص كانوا مغتربين لفترات طويلة وعادوا للاستقرار في سوريا مع القطع الأجنبي الذي لديهم.

 متوسّط الدخل في سوريا لا يتناسب إطلاقا مع تكاليف هذا النوع من الحفلات الفاخرة، بحسب قضيماتي، حيث أن الراتب بمتوسّطه يبلغ 150 ألف للموظف، وهذا الراتب لا يكفي لاستجرار الكهرباء عبر المولّدات، بعيدا عن بقية الاحتياجات الأساسية من مياه وأغذية وأدوية ومستلزمات أخرى حتّى يخوّل الشخص حضور حفلات به.

هناك احتمال ضعيف بوجود محاولة التفاف على العقوبات أو تحويل أموال من خلال هذه الحفلات ولكنّه غير وارد، إلّا أن المؤكد هو أنّها تكسر العزلة عن دمشق وتطبّع معها على العلن من خلال مطربين مشهورين قادرين على خلق صدى كبير لتوجّهاتهم.

منظّمو الحفلات يحاولون تصدير فيديوهات تبرز التدافع والتزاحم على حضور الحفلات، وهذا كلّه يخلق صورة بأن الوضع في سوريا آمن من الناحية العسكرية، وفيه رخاء اقتصادي يجعل الناس يتّجهون بشكل جماعي لحضور حفلات بمبالغ باهظة، إذ أن هذا الواقع يخدم الحكومة السورية من مبدأ أنّها تحاول تقديم الرفاهية الاقتصادية للشعب.

 قضيماتي يرى أن وجود حفلات فاخرة في بلد يعاني 90 بالمئة من سكّانه من الفقر، يعني حتما تعميق الشرخ والطبقية داخل المجتمع، بين شريحة تعيش تحت خط الفقر وأخرى برفاهية مطلقة.

قد يهمك: هاني شاكر يولد من جديد في سوريا

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.