“هذه السنة لم نستطع أنا وعائلتي شراء ملابس صيفية إلا كم قطعة وهو من محال البالة، ويبدو أننا لن نتمكن من شراء الملابس الشتوية أيضا، خاصة وأن الأسعار تفوق القدرة المادية لمعظم السوريين اليوم. فمثلا سعر الجاكيت المتوسط الجودة لا يقل عن 350 ألف ليرة سورية، بينما راتبي كموظف حكومي 140 ألف ليرة. هل هذا منطقي، أي أن يكون سعر الجاكيت أعلى بكثير من راتب المواطن؟. في الحقيقة الملابس الشتوية وخاصة الملابس الثقيلة كالجواكيت والأحذية ليست في متناول للجميع وأنا عن نفسي لن أشتريها لا لنفسي أو لأي فرد من عائلتي لأن الوضع المادي على قده، ولا توجد طريقة أخرى لنا سوى إصلاح الملابس القديمة وتمضية الحياة بما نستطيع عليه”، هكذا يشرح السيد محمد الهيثمي، لـ”الحل نت”، وضعه مع ارتفاع أسعار الملابس في سوريا وكيف أن الأسعار لا تتناسب مع رواتب ودخول السوريين في الداخل وأن العائلات يلجؤون إلى ترقيع الملابس القديمة والعزوف عن شراء ما هو جديد.

الشتاء، الفصل الذي بات يشكل عبئا ثقيلا على السوريين منذ عدة سنوات، فقد أصبح حلوله بمثابة كابوس لدى الغالبية منهم، فهناك نقص في وسائل التدفئة وارتفاع بأسعارها، والخدمات وعلى رأسها الكهرباء، ومع حلوله لا بد من لقائه بلباس مناسب قادر على جلب الدفء، ولكن ارتفاع أسعار الملابس بما فيها المستعملة “البالة” بات فوق قدرة السوريين الشرائية بالتزامن مع الارتفاع في كل الأسعار.

ارتفاع الأسعار مئة بالمئة

لم يمضِ أكثر من شهر على تصريح رئيس القطاع النسيجي في غرفة صناعة دمشق لإحدى وسائل الإعلام مهند دعدوش، عن ارتفاع أسعار الألبسة الشتوية هذا العام بنسبة تصل إلى 40 بالمئة عن العام الماضي، هذا التصريح أثار الكثير من ردود الأفعال على حال الأسواق، ولكن إذا ما تمت المقارنة بين هذا الرقم وبين الحال الفعلي للأسواق لتبين أن سعر الجاكيت الشتوي الذي من الممكن أن يحمي من برد الشتاء لا يقل عن 250 ألف ليرة ليصل في بعض المحلات إلى 325 ألف ليرة، أما في محلات “البالة” التي يلجأ إليها المواطنون ظنا منهم أنهم سيجدون فيها غايتهم فإن سعر الجاكيت لا يقل عن 100 ألف ليرة ويرتفع سعره إذا كان مصنوعا من الفرو الطبيعي أو الجلد، وكل ذلك وسط تدني مستوى الرواتب والمداخيل.

بحسب تقرير لصحيفة “الوطن” المحلية، يوم أمس الأحد، فإنه ومقارنة بسيطة عن الأسعار في العام الماضي فإن سعر الجاكيت كان 120 ألف ليرة في أسواق دمشق ذات الأسعار المتوسطة، أي إن سعره هذا العام ارتفع بنسبة تزيد على 100 بالمئة، مع التذكير بأن الكثير من الموديلات هي ذاتها موديلات العام الماضي والكثير من المحلات لم تعرض بضائع هذا العام حتى الآن بحسب ما ذكر أصحابها للزبائن، وبالتالي من المحتمل أن تكون أسعار البضائع الجديدة أعلى من الرقم المذكور.

المواطن محمد الهيثمي (48 عاما)، يعمل موظف حكومي ويعمل في وظيفة أخرى (كاشير) في محل للوجبات السريعة، بدوام مسائي، يضيف لـ”الحل نت”، “الأسعار بالأسواق السورية خيالية، وحتى أنها أعلى من دول الجوار، مثل الأردن ومصر والعراق وحتى تركيا، وعلى الرغم من أن الرواتب والمداخيل أقل بكثير من هذه البلدان. ليس فقط أسعار الملابس أغلى من دول الجوار وإنما معظم تكلفة المعيشة وهذا غير معقول. اليوم لولا شغلي الثاني كـكاشير، إلى جانب وظيفة زوجتي والحوالات الخارجية التي تأتينا بين الحين والآخر من أقاربنا لكان حال في الويل”.

الهيثمي يقول إن من يعيش في سوريا إما من الطبقة الغنية جدا، ومعظمهم من تجار الحرب، أو من الطبقة الفقيرة التي تمثل نسبة كبيرة من السوريين في الداخل، وأن الحياة أصبحت صعبة جدا وبات يثقل كاهل المواطنين بالكثير من الأعباء، وهذا كله نتيجة تدهور قيمة الرواتب مقارنة بمستوى المعيشة، بالإضافة إلى حالة التضخم في البلاد، وتزايد البطالة، وغياب الدور الحكومي الذي يفترض أن يدعم الوضع المعيشي في البلاد.

قد يهمك: هجرة الأطباء في سوريا مستمرة.. الغربة جَنّة بعد الفقر!

ما الأسباب؟

رئيس لجنة صناعة الألبسة في غرفة صناعة حلب محمد زيزان، عزا هذا الغلاء إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية الداخلة في صناعة الألبسة الشتوية بسبب مشاكل استيراد الأقمشة التي يتدخل فيها التاجر وأكثر من جهة أخرى، حيث يرتفع سعر القماش الواصل إلى المعمل بنسبة 30 بالمئة عن سعره الحقيقي، مشيرا إلى أن القرارات الصادرة من ناحية ترشيد الاستيراد زادت الأمر سوءا، إضافة إلى أن تمويل الاستيراد لا يتم إلا عبر عدة مراحل هذا ما يدفع التاجر إلى وضع نسب أرباح كبيرة جدا لأنه يقوم بتجميد أمواله لفترات معينة نتيجة ذلك، كاشفا أن نسبة الزيادة في أسعار القماش عن العام الماضي وصلت إلى 30 بالمئة.

زيزان أضاف في حديثه للصحيفة المحلية، إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى يؤدي إلى ارتفاع أسعار الألبسة من جهة ضرورة زيادة أجور العمال الذين يعيلون أسرا أيضا وذلك إرضاءً لهم، مشيرا إلى أن الأجور ارتفعت بنسبة 100 بالمئة عن العام الماضي، معتبرا أن تكاليف صناعة الألبسة تدخل ضمن دائرة واحدة مع أسعار المواد والخدمات بالقطاعات الأخرى.

ضمن هذا السياق، أرجع أبو فريد، أحد أصحاب محلات الألبسة في سوق الصالحية بدمشق، ارتفاع أسعار الألبسة إلى ارتفاع قيمة تكاليف الإنتاج من الأقمشة والخيوط، معتبرا أنها سلع مستوردة من في الخارج وبالعملة الأجنبية، بالإضافة إلى أن تكاليف الإنتاج في سوريا أعلى نتيجة لغياب الكهرباء واستخدام المولدات بدلا منها في كثير من الأحيان، وهذا ما يكلف أكثر، نتيجة شراء المازوت من السوق السوداء.

قد يهمك: تراجع استهلاك اللحوم في سوريا.. “من سنة لسنة لناكل”

ما الحلول؟

في إطار الحلول، فقد أشار رئيس لجنة صناعة الألبسة في غرفة صناعة حلب محمد زيزان، إلى أن تصدير الألبسة أصبح معضلة، لأن أسعارها أصبحت أعلى من أسعار الدول الأخرى كالعراق مثلا، هذا ما أدى إلى إحجام التجار في هذه الدول عن استيراد الألبسة السورية، لافتا إلى أن الحلول تتمثل باستقرار سعر الليرة أمام الدولار، إضافة إلى ضرورة إعطاء تسهيلات خاصة لتمويل المستوردات بالنسبة للمواد، وتخوّف من كساد البضائع والألبسة الشتوية نتيجة ارتفاع الأسعار وإحجام المواطنين عن الشراء، وقد بدأ هذا الأمر فعلا حيث لم يتم بيع أكثر من 20 بالمئة من الموسم الشتوي لهذا العام.

أحد محال “البالة” بسوريا “إنترنت”

زيزان أردف بأن حلب تمتلك معامل ضخمة فيما يخص الصناعات النسيجية من قطنيات وبيجامات، ولكن يلجأ التاجر للاستيراد بالنسبة للمواد التي لا تصنع محليا كالجلديات وقماش الجاكيت الشتوي وما إلى ذلك، منوّها إلى أن سعر الجاكيت الشتوي ذي الجودة المنخفضة (التجارية) يصل إلى 100 ألف ليرة، بينما يبلغ سعر الجاكيت متوسط الجودة 150 ألف ليرة، أما الجاكيت الماركة فيتراوح سعره بين 200-225 ألف ليرة، وهذا التفاوت بالأسعار يعد طبيعيا فالجاكيت ذو الجودة المرتفعة قطعة نادرة في الأسواق لا تتجاوز 10 قطع، بينما الجاكيت التجاري فيوجد منه حوالى 4000 قطعة في الأسواق.

أما صاحب أحد محال الألبسة، أبو فريد، فقد أشار إلى أن الحلول ليست على عاتق طرف واحد وهو  المواطن الذي يجب أن يدبر نفسه وأموره كيفما كان، وإنما يقع بالدرجة الأولى على الحكومة السورية، والتي بدورها يجب أن تقوم بإعادة النظر إلى قيمة الرواتب والمداخيل، التي أساسا لا تتناسب مع قيمة المعيشة، ومن ثم تسهل الأمور أمام الصناعيين والمستوردين وما إلى ذلك.

قد يهمك: “مذاق الجنة” بعيد عن موائد السوريين..أسعار التوابل والبهارات إلى مستوى غير مسبوق

“البالة” الحل الأمثل؟

أما في إطار توجّه المواطنين لـ”البالة” أوضح زيزان أن ملابس “البالة” الموجودة في الأسواق مخالفة للقوانين والأنظمة لأن هذه الألبسة ممنوعة من الاستيراد ووجودها يعد قضاء على الصناعة الوطنية في سوريا وعلى الإنتاج المحلي الذي يغطي ثلاثة أضعاف حاجة القطر لذا يتم البيع للأسواق الخارجية، معتبرا أن انتشار البالة بكثرة والألبسة الأجنبية المهربة وارتفاع الأسعار ساهم في ركود الألبسة محلية الصنع.

تقرير لموقع “أثر برس” المحلي، نشر مؤخرا، أشار إلى أن أسواق الثياب المستعملة المعروفة باسم “البالة” في أسواق العاصمة دمشق، شهدت ارتفاعا كبيرا في الأسعار، وأصبحت كسوة الشتاء عبئا يتحمله المواطن فوق أعبائه، وتحولت فكرة التسوق من متعة إلى حيرة في كيفية اقتناء الملابس بعد معرفة أسعارها الصادمة خاصة لذوي الدخل المحدود الذين يعتبرون أسواق “البالة” خيارا بديلا لهم يلجؤون له لغلاء الألبسة محلية الصنع.

التقرير لفت إلى أنه على الرغم من الازدحام الذي تشهده الأسواق، فإن الكثيرين غير قادرين على دفع مبالغ كبيرة، حيث أن أسعار الثياب الشتوية قفزت نحو الضعف وهذا أدى إلى توجه أغلب الناس لشراء الملابس ذات النخب الثاني أو الثالث من “البالة”، إذ تراوح سعر الجاكيت العادي في سوق الشيخ سعد بالمزة بين 30 و50 ألف ليرة سورية، أما الجاكيت ذو الجودة العالية وصل سعرها إلى 100 ألف ليرة سورية، وسعر جاكيت الفرو يصنف ضمن “سوبر كريم”بلغ 500 ألف ليرة سورية، على حين بلغ سعر كنزة شتوية ذات جودة مقبولة 50 ألف ليرة سورية، أما سعر البيجامات ذات النوعية الجيدة يتراوح بين 50 و60 ألف ليرة سورية، على حين يبلغ سعر بنطال بيجاما 25 ألف ليرة سورية.

أما ملابس الأطفال في أسواق “البالة” لا تقل ثمنا عن أسعار ملابس الكبار، إذ يبدأ سعر أفرول لعمر ثلاث سنوات بـ 50 ألف ليرة سورية، أما سعر كنزة شتوية لطفل بعمر سنتين 40 ألف ليرة سورية، وسعر بنطال جينز لنفس العمر يتراوح بين 35 و50 ألف ليرة سورية.

التقرير نقل عن مواطنين سبب تفضيلهم ملابس “البالة” على المنتجات السورية، بأنها ذات نوعية جيدة ويمكن لبسها لعدة سنوات، لكن أسعارها هذا العام فاقت مقدرة معظمهم على شرائها.

حول أسباب ارتفاع الأسعار، أكد عدد من التجار أنهم يشترون الملابس بالعملة الأجنبية، ويدفعون مبالغ كبيرة ليحصلوا على بضاعتهم، مضيفين أن معظم بضاعتهم تصل تهريبا من خارج سوريا، ويضطرون لدفع نفقات وصولها لهم، وهذا يجبرهم على رفع أسعار الثياب المرتبطة أساسا بالدولار.

أيضا فإنهم يتسلّمون شحنات كبيرة من الأكياس الضخمة المغلفة، التي يجهلون محتواها ويشترونها بالوزن وقد يحالفهم الحظ وتكون البضاعة مصنفة “سوبر كريم” أو “كريم” أو “نخب ثان ونخب ثالث”، مشيرين إلى أن كثيرا من الأكياس يُكتب عليها “سوبر كريم” وعندما يتم فتحها يتفاجؤون أنها نخب ثان ويوجد بداخلها بعض القطع الجيدة فقط.

من جهته، مدير جمعية حماية المستهلك عبد العزيز المعقالي، بيّن للموقع المحلي، أن ارتفاع الأسعار شمل كل شيء ليس الألبسة فقط، فالأسعار ارتفعت بنسبة 20 بالمئة وبسبب ضعف القدرة الشرائية للمواطن والوضع الاقتصادي الصعب، يلجأ كثيرون إلى شراء الألبسة المستعملة “البالة”، مضيفا أنه لا توجد تسعيرة موحدة لهذه السوق.

قد يهمك: غياب التسويق يهدد مواسم المزارعين بسوريا.. “كل سنة خسارة”

تضخم مع حلول الشتاء

بحسب تقرير سابق لـ”الحل نت”، فإن لهيب الأسعار المشتعل صيفا في سوريا لن يكون المسبب الوحيد في معاناة المواطنين، إذ إن تحذيرات وتوقعات الخبراء الاقتصاديين تقود نحو الإجماع بأن التضخم سيصل إلى ذروته في شتاء هذا العام، وأن الغذاء والطاقة سوف يدفعانه نحو الجموح.

سابقا، حذر باحثون من وصول التضخم في الاقتصاد السوري إلى مرحلة التضخم الجامح، وهو الشكل الأكثر ضررا للاقتصاد بسبب الارتفاع السريع والمتواصل في المستوى العام للأسعار، ما يؤدي إلى فقدان المال لقيمته الشرائية. فحسب آخر الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغ معدل التضخم في سوريا 163.1 بالمئة في عام 2020.

التقرير نقل عن الدكتورة رشا سيروب، عميدة كلية الاقتصاد السابقة بالقنيطرة، تأكيدها أن التضخم العام بدأ يتجاوز حدوده العامة في اقتصادات الدول المتقدمة منذ أوائل عام 2021، مدفوعة بسياسات التحفيز النقدي “التيسير الكمي”، وخطط الإنقاذ التي لجأت إليها حكومات دول العالم في محاولة للحد من آثار انتشار فيروس كورونا.

سيروب، أشارت إلى أن تغير المناخ يجعل المعروض العالمي من الغذاء أكثر تقلبا، وهو ما يؤدي بدوره إلى زيادة الأسعار، كما سيؤدي التحول الأخضر “الجفاف”، على رفع تكاليف الطاقة، والتي من المتوقع أن تخلّف جميعها تأثيرا كبيرا على الاقتصاد في بداية الشتاء من هذا العام، وسوف يدفعان التضخم العام في سوريا إلى الجموح “التضخم الجامح”.

لأن معدل التضخم العام يبلغ حاليا ضعف معدل التضخم الإجمالي، وفقا لسيروب، فإن أسعار الفائدة القصيرة الأجل لابد أن تكون أعلى كثيرا من أجل الحد من التضخم؛ ولكن الساسة سوف يتدخلون في الاقتصاد لتخفيف المخاطر الناجمة عن هذا الارتفاع، الذي لن يسفر إلا عن الحفاظ على نمو الاقتصاد الاسمي بسرعة، وبالتالي الإبقاء على التضخم لفترة أطول.

مركز “فيتش سوليوشنز”، المهتم بدارسة اقتصاديات الدول، توقع أن تظل الأسعار المحلية مرتفعة في سوريا في عام 2022، بمتوسط 105 بالمئة. في حين أن هذا يمثل تباطؤا عن تقديراتهم لعام 2021 البالغ 150 بالمئة، وسيظل التضخم أعلى بكثير من متوسط 57.0 بالمئة.

التضخم المفرط أو الجامح، هو مصطلح لوصف الزيادات السريعة والمفرطة في الأسعار العامة في الاقتصاد، في حين أن التضخم هو مقياس لوتيرة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، فإن التضخم المفرط يؤدي إلى ارتفاع التضخم بسرعة، وعادة ما يصل إلى أكثر من 50 بالمئة شهريا.

التضخم الجامح يمكن أن يتسبب في سوريا بعدد من العواقب على الاقتصاد، فقد يضطر الناس لتخزين البضائع، بما في ذلك المواد سريعة التلف مثل الطعام، بسبب ارتفاع الأسعار، والذي بدوره يمكن أن يؤدي إلى نقص في الإمدادات الغذائية وهو ما يشكل خطورة على الوضع العام في البلاد.

قد يهمك: “قاطعناها من زمان“.. انخفاض الاستهلاك يهدد صناعة الألبان والأجبان في سوريا

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.