بلبلة واهتزاز في الوسطين السياسي والمالي في لبنان، بعد صدور مذكرة توقيف دولية بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وتسلم بيروت من “الإنتربول” الدولي نسخة عن “النشرة الحمراء” التي تطلب توقيف سلامة لصالح القضاء الفرنسي، كل ذلك له تداعيات ذات بعد خارجي وداخلي تتعلق بمصير لبنان المالي والمصرفي والاقتصادي وعلاقته الخارجية مع الدول الأوربية، إضافة إلى علاقته بالجهات المانحة مثل “صندوق النقد الدولي”.

بعد انتهاء ولاية سلامة في تموز/يوليو المقبل إلى جانب ما يواجه حاليا من “الإنتربول”، تساؤلات عدة تطرح عما سيشهدُه سوق الدولار ومنصة “صيرفة”، ومصير سلامة في حال خروجه من الحاكمية قبل انقضاء ولايته، فيما إذا استقال طوعيا أو طلب هذا الأمر منه من قبل السلطة السياسية.

من جهته قال وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي، الجمعة الفائتة، إن سلطات بلاده تناقش بجدية مصير حاكم مصرف لبنان المركزي بعدما تسلمت بيروت مذكرة من “الإنتربول”، إثر إصدار قاضية فرنسية مذكرة توقيف دولية بحقه، كما صدرت دعوات داخل لبنان لاستقالة سلامة. مولوي أضاف أنه سينفذ مذكرة التوقيف بحق سلامة إذا قرر القضاء اللبناني الأخذ بها.

مذكرة “الإنتربول” صدرت على إثر إصدار فرنسا مذكرة لاعتقال سلامة في إطار تحقيقها فيما إذا كان قد اختلس أكثر من 300 مليون دولار من أموال مصرف لبنان المركزي، وهو اتهام ينفيه حاكم مصرف لبنان، بحسب ما نقله موقع “الجزيرة نت”.

تطور لافت

لم ينجح القضاء اللبناني على الرغم من محاولات عدة خلال السنوات الماضية في الوصول إلى نتائج حاسمة حول شبهات عدة ودعاوى مرفوعة ترتبط بأداء حاكم مصرف لبنان، وإمكانية اختلاسه أموالا عامة بشكل مباشر أو عبر شركات ترتبط بأقرباء وأصدقاء له، في ظل حديث عن حماية سياسية معينة يتمتع بها حاكم المصرف المركزي.

حاكم مصرف لبنان رياض سلامة/رويترز
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة/رويترز

إلا أن اللافت في ردود الأفعال الصادرة عن الجهات الرسمية اللبنانية، كانت تصريحات حكومية هي الأولى من نوعها لكل من وزير الداخلية اللبناني، بسام المولوي، ونائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، تطلب من سلامة الاستقالة الطوعية، وهو تطور لم يسبق أن شهدته البلاد، وذلك بحسب موقع “قناة الحرة” الأميركية.

 تقارير صحافية رافقت تلك التصريحات نقلت في الإطار نفسه عن رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، مطالبتهما سلامة بالاستقالة على خلفية مذكرات الاعتقال الدولية، وهو تطور بارز بالنسبة إلى المواقف السابقة للرئيسين اللذين سبق في العديد من المناسبات أن جاهروا بتمسكهم بحاكمية سلامة للمصرف المركزي رغم كل الانتقادات التي طالته على مدى السنوات الماضية.

دعوة نائب رئيس الحكومة، حاكم مصرف لبنان للاستقالة الطوعية، كانت انطلاقا من مبدأ أن اي شخص في أي دولة يتهم بارتكاب جرائم مالية مزعومة متعددة، فيما هو في موقع مسؤولية حساس ومؤتمن على النظام المالي والنقدي في البلاد، ينبغي أن يتنحى فورا، قائلا طالما إن ولايته تنتهي في أواخر تموز/يوليو المقبل فمن الأفضل أن يستقيل طوعيا، ويضيف على الرغم من أن سلامة بريء حتى تثبت إدانته، إلا إن الادعاءات تضع صدقية الحكومة في خطر وقد تهدد العلاقات المالية للبلاد مع بقية العالم، بما في ذلك مع صندوق النقد الدولي، بحسب ما نقلته وكالة “رويترز”.

الخبير الاقتصادي عماد عكوش استبعد من جانبه تسليم سلامة للقضاء الفرنسي لأسباب متعددة، منها أن القضاء اللبناني يعتبر بأن له سيادة على المتهمين داخل الأراضي اللبنانية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يرى عكوش خلال حديثه لـ”الحل نت” بأن السبب سياسي بالدرجة الأولى.

اليوم رياض سلامة هو كنز من المعلومات المالية والمصرفية، وفقا لعكوش وبالتالي تسليمه يمكن أن يعتبر فضيحة على المستوى المصرفي وعلى المستوى النقدي والمالي في لبنان، نظرا لما يملكه من معلومات من الممكن أن تهدد مستقبل سياسيين كُثر وخاصة المشاركين معه خلال السنوات الثلاث أو أربع سنوات الأخيرة.

مصير سلامة

التطورات الأخيرة سلطت الأضواء على القرار الذي ستتخذه السلطات اللبنانية في الأيام المقبلة حول مصير سلامة في منصبه، وما إذا كانت الحكومة التي تمتلك قانونيا صلاحية إقالة حاكم المركزي، ستلجأ إلى هذا الخيار أم انها ستستكمل النهج المعهود بتمسكها بسلامة رغم التداعيات، إلى حين نهاية ولايته كحاكم أواخر تموز/يوليو المقبل، لاسيما وأنها كحكومة تصريف أعمال تتمتع بصلاحيات ضيقة جدا دستوريا، وتثير مؤخرا جدلا دستوريا كبيرا بسبب توليها صلاحيات رئاسة الجمهورية بحكم الفراغ المستمر في الموقع منذ نحو 6 أشهر، ما من شأنه أن يخلق جدلا قانونيا و دستوريا في البلاد التي تشهد انقساما سياسيا حادا.

عكوش يعلق هنا، بأنه بعد انتهاء مدة ولايته، وبحسب “قانون النقد والتسليف” يستلم المهام بالوكالة نائب الحاكم الأول عند الشغور، حيث يرى عكوش بأن الإقالة مستبعدة لأنه وفق القانون آنف الذكر وبحسب تحليل الطبقة السياسية، يحتاج الأمر إلى اتهام مباشر وإلى ارتكاب جريمة مالية أو اهمال بالوظيفة حتى يتم ذلك، ولغاية اليوم القضاء اللبناني لم يثب عليه شيء أو لا يريد أن يثبت عليه، وبالتالي السلطة السياسية اليوم غير قادرة على إقالة رياض سلامة، وفق تعبيره.

“وكالة الأنباء الفرنسية” نقلت من جهتها عن مسؤول قضائي رفيع في لبنان أنه يُرجّح أن يستدعي النائب العام، غسان عويدات، الذي تسلم مذكرة “الإنتربول”، سلامة إلى جلسة تحقيق الأسبوع المقبل، “على أن يطلب بعد ذلك من القضاء الفرنسي تسليمه ملفه القضائي، ويقرر إذا كانت الأدلة المتوفرة فيه كافية لاتهام سلامة ومحاكمته”.

في إطار رده على المذكرة اعتبر سلامة أن إشارة الإنتربول جاءت بناء على طلب القاضية الفرنسية” التي استندت إلى تغيبه عن جلسة الاستجواب التي حددتها في 16أيار/ مايو الحالي، وأوضح في تصريحات إعلامية أنه لم يحضر جلسة الاستجواب بسبب عدم تبليغه تبعا لأصول القواعد والقوانين المرعية الإجراء، مشيرا إلى أن “خلفيّة هذه الإشارة إجرائية”، كاشفا عن “أنه سيتقدم باستئناف لإلغاء هذه الإشارة”.

أما من ناحية مذكرات “الإنتربول”، فهي غير ملزمة للدول الأعضاء تنفيذها، إذ يعود لكل دولة تقدير الموقف استنادا إلى قوانينها الخاصة واعتباراتها الداخلية، لناحية اعتقال المطلوب من عدمه، في حين تلزم إشارة “الإنتربول” السلطات القضائية وفور تسلمها مذكرة “الإنتربول” أن تسحب جواز سفر الشخص المطلوب ومنعه من مغادرة الأراضي اللبنانية، فيما يعود للنيابة العامة التمييزية الأمر بتوقيف المطلوب أو عدم ملاحقته، بناء على معطياتها.

 مسار الدولار

في الواقع، يُعتبر الكلام عن مسار الدولار حاليا بمثابة حديث عن أمر مجهول لا يمكن لأي أحد توقعه. فمن جهة، في حال دخل البنك المركزي في شغورٍ وفراغ، عندها لا سلطة موجودة يمكنها ضبط السوق ولو نسبيا مثلما يحصلُ حاليا بالحد الأدنى. عندها، ستتوقف كل معاملات “صيرفة”، وسيُصبح مصرف لبنان “خارج السمع” نهائيا على صعيد ضخ الدولارات، وبذلك، سيُصبح الضغط كبيرا جدا على السوق، ما يعني أن الدولار سيكون تحت وطأة المضاربين مُجددا، وفقا لما نقله موقع “لبنان 24”.

مصرف لبنان/سبوتنيك
مصرف لبنان/سبوتنيك

أمام هذه الأسباب وغيرها، لا يمكن أن يبقى المصرف المركزي معزولا عن الحل المطلوب، ولهذا الحاجة لوجود “نائب الحاكم الأول” في الحاكمية حاليا يعدّ الأمر القانوني الوحيد. في المقابل، تبيّن أنه لا يمكن للمجلس المركزي أن يتخذ أي قرار في حال عدم وجود حاكم أصيل من جهة، وفي حال عدم وجود بديل عنه من جهة أخرى. أما الأمر الأهم فهو أن الكلام عن تعيين حارس قضائي يعدّ خطوة غير قانونية بالشكل والمضمون، لأنّه لا مخرج لها في قانون النقد والتسليف.

إذا، وأمام كل ذلك، يقف لبنان من الآن ولغاية تموز المقبل عند مفترق طرق إما الفراغ التام في حاكمية مصرف لبنان أو السير بـ”الموجود”، ومن لا يعلم، فإنّ ما يكشفه المسار القائم يؤكد أن دور حاكمية مصرف لبنان هو الذي يُبقي الدولة مستمرة، وهو الذي يشلّها بـ”لحظة” واحدة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات