لبنان الذي كان يسمى “سويسرا الشرق” أبت الأزمات الاقتصادية إلا وأن تعصف به حتى سلبت منه لقبه ورونقه. فلبنان اليوم تعصف به أزمة اقتصادية تتمثل إلى حد ما بانكماش اقتصادي ناتج عن عدة عوامل داخلية وخارجية، أولها ارتفاع سقف الدين العام، وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة وفقدانها للاستقرار السياسي، ورفع الدعم عن المواد الأساسية كالخبز والأدوية والوقود، وتأثرها الكبير بأزمات البلدان المحيطة بها، وجاءت جائحة “كورونا” والغزو الروسي لأوكرانيا حتى يزيد الطين بلة على هذا البلد، مما أفقد العملة اللبنانية قيمتها ورفع حجم التضخم ورفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، ليعاني المواطن اللبناني اليوم من انخفاض حاد في قوته الشرائية.

توصيفا للحالة التي يعيشها الشعب اللبناني أصدرت المنظمة الدولية غير الحكومية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش” نهاية العام 2022 تقريرا جاء فيه أن أغلبية الشعب اللبناني عاجز عن تأمين حقوقه الاجتماعية والاقتصادية وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، حيث تتحمل الأسر ذات الدخل المحدود العبء الأكبر من الكارثة الاقتصادية التي يعيشها لبنان.

موارد لبنان في مهب الريح

كان الاقتصاد اللبناني يتميز بتنوع موارده المرتبطة بتنوع قطاعاته، ولطالما كان القطاع السياحي هو الرائد بينها، حيث كان لبنان مقصدا سياحياً شهيرا معتمدا على تاريخه الغني وتراثه الثقافي، إلا أن عدم الاستقرار السياسي وانخراط أطراف سياسية فيه بالحرب السورية وإغلاق البلاد بسبب انتشار وباء “كورونا” وتفاقم الأزمة الاقتصادية، أثر على القطاع السياحي بشكل كبير بعدما كان يساهم بما نسبته 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وبعدما سجل عام 2009 أكبر نسبة نمو في العالم، بحسب منظمة السياحة العالمية.


أما عن القطاع الزراعي فلا يقل أهمية عن القطاع السياحي فقد كان لبنان يتقدم على كثير من دول العالم في مؤشرات الغذاء باستثناء بعض المنتجات الغذائية كالحبوب والماشية ومنتجات الألبان، ولكن انتشار جائحة “كورونا” والغزو الروسي لأوكرانيا وما نتج عنهما من تعطل سلاسل التوريد وارتفاع أسعار السلع، كما أن عدم الاستثمار الأمثل للأراضي الزراعية الصالحة للزراعة والتي تقدر ب 658 ألف هكتار ولا يستثمر منها إلا ثلثها تقريبا بحسب بعض الدراسات، أدخل لبنان في فجوة تأمين هذه المنتجات بشكل كبير.

وفيما يخص قطاع التصنيع الذي كان يلعب دورا مهما في توفير فرص العمل والقطع الأجنبي كصناعة الأغذية والأدوية والمنسوجات، هو أيضا تأثر بشكل كبير من تداعيات الأزمة الاقتصادية، حيث فقد لبنان جزءا كبيرا من المنفعة الناتجة عن هذا القطاع بسبب انخفاض قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم ونقص المواد الخام، حيث أصبحت العديد من الشركات تكافح للبقاء في السوق اللبنانية. 

القطاع المصرفي في لبنان

لم يسلم القطاع المصرفي من التداعيات الخطيرة التي ألقت بظلالها على لبنان، والذي كان يعتبر في يوم من الأيام العمود الفقري لاقتصاد البلاد؛ وكاد أن يوصف القطاع المصرفي بلبنان بأنه ملاصق بسمعته للقطاع المصرفي السويسري لما كان يقدمه من خدمات للمودعين والمستثمرين، ولكن مع اعتماد الحكومة اللبنانية بشكل كبير على النظام المصرفي لتمويل ديونها العامة، وزج المصارف اللبنانية في مهب الأزمة السورية، أصبحت المصارف أكثر عرضة من أي وقت مضى لتداعيات الأزمة الاقتصادية في البلاد بل وأصبحت جزءا منها، مما أدى إلى وضع ضوابط صارمة على رأس المال المودع في المصارف اللبنانية ومحدودية الوصول إلى الحسابات المفتوحة لديه بالعملات الأجنبية؛ ليؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى تفاقم الأزمة بشكل أكبر.

فيما يتعلق بعودة القطاع المصرفي اللبناني إلى سابق عهده، يرى الخبير الاقتصادي سمير الطويل خلال حديثه لـ”الحل نت”، أنه لا يمكن الحديث عن عودة القطاع المصرفي اللبناني إلى سابق عهده لعدة أسباب؛ أهمها حالة الانهيار الاقتصادي الموجود في لبنان وفقدان الثقة بالمصارف اللبنانية والفساد الذي طال أهم مؤسسة في هذا القطاع وهو المصرف المركزي اللبناني، كما أن الانكماش الاقتصادي الذي يعصف بالمنطقة يزيد من التحديات التي تواجه القطاع المصرفي في لبنان.

أما عن الليرة اللبنانية فقد شجع انهيارها على ازدهار السوق السوداء لتساهم هي الأخرى في رفع معدلات التضخم وتآكل القوة الشرائية للمواطن اللبناني، فالشركات في لبنان تضطر إلى شراء السلع بأسعار متضخمة بسبب ندرة العملات الأجنبية والإجراءات الصارمة الصادرة عن المصارف اللبنانية ومراكز الصيرفة الرسمية، مما صعّب الأمر على الشركات بمختلف أشكالها لتأمين المواد بأسعار منطقية. 

النفط طوق نجاة لأزمة لبنان؟

رغم المشهد الكئيب الذي يخيم على الاقتصاد اللبناني إلا أن الأمل في تخفيف وطأته ما يزال موجودا، حيث تمتلك لبنان احتياطيات كبيرة من النفط والغاز في شرق البحر المتوسط وتعتبر فرصة لهذا البلد في تحسين أمن الطاقة لديه وتوفير الإيرادات التي تشتد الحاجة إليها يوما بعد يوم لتقليص العجز في ميزانية الحكومة، وعدم التعثر في سداد الديون المتراكمة على لبنان.

بحسب المسح الذي جرى للمنطقة الاقتصادية الخاصة بلبنان في البحر المتوسط يظهر امتلاك تلك المنطقة لـ 96 تريليون قدم مكعب من الغاز، وبالمقابل يقدر حجم الاحتياطي البحري اللبناني من النفط بنحو 865 مليون برميل، ويرى خبراء مختصون في هذا المجال أنه إذا ما نجح لبنان في استخراج الغاز والنفط من مياهه الاقتصادية سيتمكن من لعب دورا مهما على الصعيد الإقليمي، بخاصة أن موقعه الجغرافي المتميز يؤهله لذلك.

معضلة الفساد المستشري في تركيبة القطاعات الاقتصادية والمؤسسات الحكومية في لبنان ستبقى حاجزاً أمام مساهمة الحلفاء في تطوير القطاع النفطي، بحسب رأي الخبير الاقتصادي سمير طويل، ليبقى الطريق إلى تحقيق ما يطمح إليه اللبنانيون في استخراج ثرواتهم من نفط وغاز محفوفا بالتحديات.

القطاع النفطي في لبنان مازال في مهده ويفتقر البلد إلى البنية التحتية والخبرات البشرية اللازمتين لاستخراج تلك الثروات، كما أن النزاعات الإقليمية حول الحدود البحرية الخاصة بلبنان وترسيمها وفقدان لبنان للاستقرار السياسي يشكل عائقا أمام التقدم في تطوير القطاع النفطي اللبناني، ناهيك عن التشكيلات الجيولوجية المعقدة لموقع لبنان الجغرافي والنشاط التكتوني المتعلق بالزلازل؛ والذي يزيد من صعوبة استخراج النفط والغاز تقنياً.

خروج لبنان من أزمته الاقتصادية

يجب أن تشكل الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان حافزا بالنسبة للحكومة من أجل الإصلاح الاقتصادي، سيما وأن الحكومات اللبنانية المتعاقبة أدت إلى خلق توتر في النسيج الاجتماعي اللبناني ورفعت مستويات الفقر لعيش أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر بحسب تقارير “البنك الدولي”، كما من المتوقع أن يزداد الوضع سوءا إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فورية لمواجهة التحديات الاقتصادية وإعادة بناء الهيكلية الاقتصادية بشكل كامل.

قدر لبنان أن يكون موقعه الجغرافي ذو أهمية إقليمية كبيرة لما يحمله من فوائد وتحديات في الوقت نفسه، حيث يوفر موقعه على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط الوصول إلى طرق وأسواق تجارية مختلفة باعتباره بوابة لكل من أوروبا وأفريقيا وآسيا، ومع ذلك يقع لبنان تحت ضغط التجاذبات الإقليمية المختلفة ليقع على عاتق المعنيين في الحكومات اللبنانية الحالية والمتلاحقة تحييد لبنان عن الصراعات المحيطة به، حتى الوصول إلى الاستفادة الأمثل من موقع لبنان الهام والعمل على خفض المخاطر الخاصة بالتجار.

من جهة ثانية يقع على عاتق الحكومة أيضا معالجة الفساد وتحسين الحوكمة لتعزيز الشفافية والمساءلة في توزيع الموارد لتحفز بذلك حلفاء لبنان في تقديم الدعم الاقتصادي له.

اللافت في الأمر أن المانحون الدوليون تعهدوا بتقديم مليارات الدولارات لمساعدة لبنان في الخروج من أزمته الاقتصادية، إلا أن الكثير من هذه المساعدات يتوقف على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتشكيل حكومة مستقرة ذات مصداقية مع تقديم ضمانات ملموسة بأن هذه الأموال ستستخدم بفعالية وشفافية.

بالإضافة إلى المساعدات المالية الدولية يمكن لحلفاء لبنان تقديم الدعم التكنولوجي للمساعدة في تطوير صناعة النفط والغاز في البلاد، والتغلب على التحديات التقنية واللوجستية المرتبطة باستخراج وتصدير الموارد الطبيعية الموجودة في لبنان واستثمارها في النهوض بالاقتصاد اللبناني ودعم الفئات الضعيفة من السكان، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي وزيادة الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم لكافة فئات المجتمع، مما سيضمن للاقتصاد اللبناني مستقبلا أكثر استدامة.

على الحكومة اللبنانية أيضا عدم التغافل عن القطاعات الأخرى والتركيز على الاستثمار في القطاعات المنتجة كالزراعة والعمل على استصلاح الأراضي غير المكلفة، والاهتمام بشكل أكبر بالقطاع السياحي من خلال إعادة تأهيل البنية التحتية كالطرق والجسور والموانئ وتقديم التسهيلات المتعلقة بتطوير هذا القطاع لجذب الاستثمارات الأجنبية.


لمعالجة تدحرج انهيار أزمة الليرة اللبنانية من المهم تنفيذ السياسات التي تزيد الثقة في الليرة اللبنانية كتحديد سعر صرف موثوق به، وتقليل الضوابط على رأس المال بالتعاون مع الشركاء الدوليين و الإقليميين، والوصول إلى احتياطات العملات الأجنبية وتحقيق الاستقرار السياسي والمالي للبلاد والابتعاد عن كل ما يعيق ذلك بما فيها العقوبات الدولية.

الجدير بالذكر أنه إذا ما نجح اللبنانيون في التغلب على تلك التحديات ورمي المناكفات السياسية جانبا، بالتوازي مع عمل الحكومة اللبنانية على مواصلة جهودها مع المجتمع الدولي للارتقاء إلى مستوى يتخطى تلك التحديات من خلال تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتطوير صناعة النفط والغاز واستثمار عائدات النفط والغاز وتسخير ثروات لبنان المبعثرة لتتداخل بشكل صحيح في الدورة الاقتصادية؛ والعمل على بناء بنية تحتية متينة ورفع كفاءة قطاع التعليم ومعالجة ضعف الرعاية الصحية؛ وتوفير برامج تنمية المهارات للشباب و الأيدي العاملة الوطنية، فإن ذلك كله سيخلق مستقبلا أكثر استدامة وازدهارا للشعب اللبناني.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات