في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد التركي تحديات متزايدة، فإن السؤال الذي يطارد أذهان الاقتصاديين والمواطنين على حدّ سواء، هل يقود الرئيس رجب طيب أردوغان تركيا إلى التدمير الاقتصادي، فمع التطورات الأخيرة في المشهد المالي التركي، ازدادت المخاوف بشأن مستقبل البلاد لا سيما على خلفية قرار بطباعة ورقة نقدية جديدة من فئة الـ 500 ليرة.

في المعركة ضد التضخم، تقدم محاولة الأرجنتين غير العملية لمكافحة ارتفاع الأسعار عن طريق رفع أسعار الفائدة رؤى لا تقدر بثمن. رحلة الاضطراب الاقتصادي التي قاموا بها قدمت درسا مهما، بأن أسعار الفائدة ليست الدواء الشافي للتضخم، بل هي مجرد خطوة لمكافحة التضخم. ومع ذلك، في الحالات التي يغذي فيها التضخم عجز حكومي كبير، يمكن أن تؤدي زيادة أسعار الفائدة إلى تفاقم المشكلة، مما يؤدي إلى تفاقم الاضطراب الاقتصادي. وهذا هو السيناريو الذي ينعكس حاليا على الوضع التركي.

المرحلة الحاسمة التي يُنتظر أن تعلن في 22 حزيران/يونيو الجاري، حيث تفكر تركيا في زيادة كبيرة في أسعار الفائدة، تثير العديد من التساؤلات، وأبرزها ما الدور الذي تلعبه أسعار الفائدة في مكافحة التضخم، وما مدى فعاليتها في السياق التركي، وهل قرار الحكومة التركية بطباعة ورقة نقدية جديدة فئة 500 ليرة استراتيجية فعالة لمواجهة التحديات الاقتصادية في البلاد، وما هي الآثار طويلة المدى المحتملة على الاقتصاد التركي إذا لم يتم اتخاذ تدابير لمعالجة التضخم والعجز الحكومي بشكل فعال.

مسار أردوغان الاقتصادي

مع ارتفاع المخاطر على الاقتصاد التركي، يظهر دور أردوغان في تشكيل مصير تركيا الاقتصادي، إذ مع التفاؤلات التي جاءت بعد تعيينه يوم الجمعة الفائت، للمسؤولة المالية السابقة في “وول ستريت” حفيظة غاية إركان، حاكمة للبنك “المركزي” التركي، إلا أن الحديث عن الموافقة على قرار طباعة ورقة نقدية جديدة في تركيا من فئة 500 ليرة، بقرار من وزير المالية محمد شيمشك، يشير إلى أن الفترة المقبلة ستصحبها العديد من التقلبات في الاقتصاد التركي.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير المالية التركي محمد شيمشك - إنترنت
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير المالية التركي محمد شيمشك – إنترنت

وفقا لتوقعات منظمة “التعاون الاقتصادي”، يُتوقع أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لتركيا نموا بنسبة 3.6 بالمئة في العام 2023. وعلى الرغم من هذا النمو المتوقع، فإن المنظمة تتوقع أن يظل معدل التضخم في تركيا مرتفعا بنسبة تتجاوز الـ 40 بالمئة خلال عامي 2023 و2024. ويرجع ذلك إلى ما يصفه التقرير بـ”الأوضاع المالية الميسرة”، مما يطرح تساؤلات حول استقرار الاقتصاد التركي في المستقبل القريب.

بالإضافة إلى ذلك، تتوقع المنظمة أن يبقى معدل البطالة في تركيا عند مستوى مرتفع يقترب من 10 بالمئة، وهذه التوقعات تجسد تحديات كبيرة تواجه الحكومة التركية في سعيها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتخفيض معدلات التضخم والبطالة، متجاهلة تجارب دول أخرى مماثلة، مثل الأرجنتين، والتي أدت إلى انهيار اقتصادي كبير وتدهور القيمة الشرائية للعملة.

بدورها، هوت الليرة التركية 7 بالمئة نهاية الأسبوع الفائت إلى مستوى قياسي جديد، وسط أكبر عمليات بيع للعملة منذ الانهيار التاريخي في عام 2021، إذ بدا أن الحكومة التركية الجديدة تخفف إجراءات تحقيق الاستقرار بعد أن لوحّت بالتحول إلى سياسات تقليدية على نحو أكبر.

الليرة منذ إعادة انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان لولاية جديدة في 28 أيار/مايو الفائت تعرضت لضغوط، وهوت إلى 22.98 ليرة للدولار، ولامست مستوى قياسيا منخفضا عند 23.16 للدولار في وقت سابق، لتصل خسائرها منذ بداية العام حتى الآن إلى 19 بالمئة تقريبا.

رحلة محفوفة بالمخاطر في الدوامة الأرجنتينية

بحسب ما نقله متعاملون لوكالة “رويترز”، فإن انخفاض احتياطيات “المركزي” التركي سيتوقف، فيما يعطي التراجع الحاد لليرة مقابل الدولار إشارة قوية على أن أنقرة تسحب دعمها للعملة بما يتيح تداولا حرا لها. كما سجل صافي الاحتياطيات الدولية لدى “المركزي” التركي مستوى قياسيا منخفضا عند 4.4 مليار دولار الشهر الماضي، بعد سنوات من التدخلات للحفاظ على استقرار الليرة.

من جهته، علق المستشار المالي، مخلص نذير، على خطوات شيمشيك التي سيبدأها برفع الفائدة، أن أسعار الفائدة ليست سوى جزء واحد من معادلة مكافحة التضخم، وليس علاجا للجميع، فالأرجنتين رفعت الفائدة إلى 100 بالمئة، والتضخم مازال يتسارع. 

وزير المالية التركي محمد شيمشك - إنترنت
وزير المالية التركي محمد شيمشك – إنترنت

طبقا لتوقعات نذير، فإنه إذا رفع وزير المالية التركي أسعار الفائدة إلى 100 بالمئة ولا يزال التضخم موجود، فمن الواضح أن الفائدة  ليست الحل الرئيسي. فقد تؤدي المعدلات المرتفعة للفائدة إلى إبطاء نمو الإقراض وتشجع الناس على الاحتفاظ بالنقد، مما يساعد على محاربة التضخم إذا كان الدين العام مضافا له العجز في الحساب الجاري منخفضا.

لكن بحسب المستشار المالي، فإنه إذا كان التضخم على وجه التحديد ناتجا عن عجز حكومي كبير، فإن  معدلات الفائدة يمكن أن تغذي هذا التضخم وتجعله أكبر، وهي الحالة في تركيا لذلك فإن رفع أسعار الفائدة بشكل كبير في اجتماع 22 حزيران/يونيو القادم، سيكون بداية حزينة للفريق الاقتصادي الجديد وسيكون الخطوة الأولى لدفع البلاد الى الدوامة الأرجنتينية.

الحلول الجذرية معطلة

طبقا لحديث الأكاديمي والخبير في الاقتصاد التنظيمي أوغوزان أوزباس، لـ”الحل نت”، فإن تجربة الأرجنتين في مكافحة التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة توفر مقارنة تحذيرية بالوضع الاقتصادي الحالي لتركيا. إذ كلا البلدين واجها معدلات تضخم عالية، لكن الأسباب الكامنة مختلفة. ففي حين أن التضخم في الأرجنتين كان مدفوعا بسوء الإدارة المالية والعجز الحكومي الكبير، تواجه تركيا أيضا مشكلة مماثلة. وبالتالي، فإن المقارنة تسلط الضوء على المخاطر المحتملة التي تواجهها تركيا إذا اتبعت مسار الأرجنتين.

حفظية غاية أركان رئيسة البنك المركزي التركي - إنترنت
حفظية غاية أركان رئيسة البنك المركزي التركي – إنترنت

أسعار الفائدة بحسب أوزباس تلعب دورا مهما في مكافحة التضخم من خلال التأثير على تكاليف الاقتراض والإنفاق الاستهلاكي. ومع ذلك، فإن فعاليتها تعتمد على السياق المحدد والأسباب الكامنة وراء التضخم. لكن في السياق التركي، حيث يغذي التضخم عجز حكومي كبير، فإن مجرد رفع أسعار الفائدة قد لا يكون كافيا للحد من الضغوط التضخمية؛ بل يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلة عن طريق زيادة تكاليف الاقتراض للحكومة وربما زيادة التضخم.

من غير المرجح أن يكون قرار الحكومة التركية بطباعة ورقة نقدية جديدة من فئة 500 ليرة استراتيجية فعالة لمواجهة التحديات الاقتصادية في البلاد. ففي حين أنه قد يخفف مؤقتا من مخاوف السيولة تبعا لحديث أوزباس، إلا أنه لا يعالج الأسباب الجذرية للتضخم والعجز الحكومي، حيث تتطلب الحلول المستدامة سياسات مالية شاملة وإصلاحات هيكلية وتدابير لاستعادة الثقة في الاقتصاد.

يمكن أن يكون للارتفاع الكبير في أسعار الفائدة في اجتماع 22 حزيران/يونيو المقبل في تركيا عدة عواقب محتملة، ففي احتمال أنه قد يحد من التضخم مؤقتا، إلا أنه قد يحد أيضا من النمو الاقتصادي، ويزيد من تكاليف الاقتراض للشركات والأفراد، ويعيق الاستثمار. بالإضافة إلى ذلك، قد يشير ذلك إلى نقص الثقة في السياسات الاقتصادية للبلاد، مما قد يؤدي إلى مزيد من عدم استقرار السوق وتدفقات رأس المال إلى الخارج.

في آب/أغسطس الماضي خفضت وكالة “موديز” تصنيف تركيا إلى “بي 3” مشيرة إلى مخاطر ميزان المدفوعات، بينما خفضت وكالة “فيتش” تصنيف الديون السيادية لتركيا إلى “بي” في تموز/يوليو الفائت، بسبب مخاوف ارتفاع التضخم.

آثار ضارة لحكومة أردوغان

العجز الحكومي الكبير لتركيا يساهم في التضخم من خلال خلق فائض في السيولة وزيادة المعروض النقدي. فعندما يتم رفع أسعار الفائدة، تزداد تكاليف الاقتراض للحكومة، مما يمكن أن يقلل العجز ويساعد في كبح التضخم. ومع ذلك، إذا لم تكن أسعار الفائدة مصحوبة بإجراءات أخرى لمعالجة الاختلالات المالية، فقد يستمر العجز، وقد تتفاقم الضغوط التضخمية؛ وبالتالي فإن رفع أسعار الفائدة وحده قد يؤدي إلى تفاقم الوضع دون معالجة القضايا الأساسية.

انخفاض الليرة التركية أمام الدولار - إنترنت
انخفاض الليرة التركية أمام الدولار – إنترنت

المنظومة الاقتصادية الدولية بحسب أوزباس، أعربت عن مخاوفها بشأن إمكانية دخول تركيا في دوامة اقتصادية مماثلة لما حدث في الأرجنتين إذا تم رفع أسعار الفائدة بشكل كبير دون معالجة القضايا المالية الأساسية. وهم يحذرون من أن اتباع نهج متسرع وغير متوازن للسياسة النقدية يمكن أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي وتقلبات السوق وفقدان ثقة المستثمرين.

بصرف النظر عن أسعار الفائدة والعجز الحكومي، يجب مراعاة عوامل أخرى عند تحليل الوضع الاقتصادي في تركيا طبقا لحديث الخبير في الاقتصاد التنظيمي، وتشمل هذه العوامل الدين الخارجي للبلاد، واستقرار سعر الصرف، والاختلالات التجارية، والضعف الهيكلي، والاستقرار السياسي، والمخاطر الجيوسياسية، وذلك لفهم الديناميكيات المعقدة التي تؤثر على الاقتصاد التركي.

إذا لم يتم اتخاذ تدابير فعالة لمعالجة التضخم والعجز الحكومي في تركيا تبعا لحديث أوزباس، فقد تكون الآثار طويلة الأجل المحتملة ضارة بالاقتصاد، وقد تشمل هذه الآثار تآكلا مستمرا في القوة الشرائية، وانخفاض ثقة المستثمرين، وانخفاض النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة التفاوتات الاجتماعية، وفقدان المصداقية في السوق العالمية.

سياسات خفض أسعار الفائدة التي تم اعتمادها في تركيا على مدار السنوات الماضية تسببت في تفاقم العديد من الأزمات الاقتصادية، حيث فرض الرئيس التركي سياسات خفض أسعار الفائدة على “البنك المركزي”، وهو ما أثار قلق المستثمرين وأدى إلى تدهور قيمة الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم، ومع قلب السياسة غير التقليدية للبلاد برئاسة أردوغان واعتماد منهج الأرجنتين، يبدو أن البلاد ينتظرها اضطراب اقتصادي غير محمود.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات