يقف العراق خلال السنوات الأخيرة أمام العديد من التحديات التي تحول دون ازدهاره، فالانفلات الأمني من فترة إلى أخرى وعدم الاستقرار السياسي عاملان أساسيان ليحيد المستثمرون عن الانخراط في الاقتصاد العراقي والاستثمار فيه، حيث ينعم العراق بوفرة موارده الطبيعية أبرزها احتياطاته الهائلة من النفط والغاز.

يأتي القطاع الزراعي والاستثمار فيه بشكل جيد في مقدمة القطاعات التي يمكن أن تعود على العراق بالخير إذا ما تم استثمار الأراضي الصالحة للزراعة فيه بشكل مثالي والتي يمكن للمستثمرين أيضا أن يوجهوا أنظارهم إليها، فالعراق يملك أراضي زراعية بمساحات شاسعة تفتقر للمشاريع الاستثمارية. فالأراضي الصالحة للزراعة في العراق تشكل ما نسبته 30 بالمئة من مساحة العراق بحسب بعض الإحصائيات، ومنذ ثلاث سنوات اتجهت المملكة العربية السعودية نحو الاستثمار في الأراضي الزراعية العراقية الجنوبية والجنوبية الغربية، ولكن عدم استقرار النظام السياسي وتدخل أطراف إقليمية في إفشال هذه المبادرة حال دون التقدم بهذا الملف، وكان لمشروع المملكة إذا ما تم تنفيذه أن يفتح المجال أمام القطاع الصناعي المتعلق بالغذائيات والذي يستورد العراق حاجته منها من الخارج.

أما بالنسبة للموارد المائية والتي تعتبر الحجر الأساس في تطوير العراق لقطاعه الزراعي، يمتلك العراق موارد مائية محلية يمكن أن تغطي حاجته بنسبة 38 بالمئة بينما تأتي النسبة الأكبر والبالغة 62 بالمئة من إحدى جيرانه.

وفيما يتعلق برأس المال البشري، يمتلك العراق قوة شبابية عاملة كبيرة يمكن الاعتماد عليها في النهوض باقتصاد البلاد ودفع اقتصاده نحو النمو المتنوع والابتعاد عن الاقتصاد الريعي، حيث يمثل الشباب 68 بالمئة من الشعب العراقي الذي يبلغ عدد سكانه 40.2 مليون نسمة بحسب إحصائيات عراقية رسمية، ولكن هذه القوة العاملة لا يتم استغلالها بالشكل الأمثل، ويلجأ الشباب إلى التوظيف الحكومي عوضا عن اتجاههم نحو إقامة المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

موقع العراق والتحديات الاستثمارية

تجسيدا لاستثمار العراق لموقعه الهام، أطلقت الحكومة العراقية مشروع “طريق التنمية” والذي سيربط موانئ العراق مع نظيراتها التركية إلى الدول الأوربية ومنها إلى دول القوقاز ويمكن أن يوفر هذا المشروع أكثر من 100 ألف فرصة عمل بحسب تصريحات حكومية.

يرى مراقبون أن مثل هذه المشاريع تبقى خطوة متأخرة مع أنها يمكن أن تساهم في إنعاش الاقتصاد العراقي إذا ما تم تنفيذها بالمدة الزمنية المحددة لها والكفاءة المطلوبة، وخاصة أن البنية التحتية في العراق تحتاج إلى إعادة تأهيل، فبحسب مسؤولين عراقيين يحتاج العراق إلى أكثر من 100 مليار دولار لإعادة تأهيل القطاعات المختلفة التي دمرتها الحرب، كالبنية التحتية والطاقة والتعليم والرعاية الصحية، ويمكن أن يقدم استحداث البنية التحتية في العراق فرصا استثمارية للشركات والدول حيث تشمل كل ما يتعلق بالطرق والسكك الحديدية والاتصالات.

يستطيع العراق أن ينهض إذا ما عمل أصحاب القرار والمصلحة معا لإطلاق مشروع عراقي وطني بعيدا عن التجاذبات السياسية والمحاصصة الطائفية للوصول بالبلاد إلى الاستقرار الأمني الغائب عنها والعمل على تنمية اقتصاد العراق على المدى الطويل من خلال جذب الاستثمار الخارجي والتركيز على القطاعات الرئيسية كالقطاع الخدمي المتعلق بالبنية التحتية والقطاع المصرفي والقطاع الزراعي وقطاع الطاقة.

يأتي في أولوية المهام التي يجب على الحكومة والأطراف المؤثرة في العراق العمل عليها هي توفير الاستقرار السياسي وخفض المخاطر الأمنية من خلال العمل عن كثب مع الشركاء المحليين والإقليميين والدوليين ومنظمات المجتمع المدني لتنفيذ استراتيجيات قوية لإدارة البلاد وتعزيز الشفافية وسيادة القانون بعيدا عن الفساد وسوء الإدارة. فالفساد وسوء الإدارة يقفان حاجزا أمام الاستثمار في القطاعات الاقتصادية العراقية، فضلا عن دعم المبادرات التي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال وتشجيع الشباب على الاستقلالية في المشاريع والحد من البيروقراطية والمحسوبيات.

أما عن التمويل وتوفيره، فذلك يأتي في المهمة الثانية للحكومة العراقية، فالوصول المحدود إلى رأس المال وخيارات التمويل يمكن أن يعيق الاستثمار في العراق، حيث يمكن سد فجوة التمويل لتمكين تدفق الاستثمارات في القطاعات الرئيسية من خلال اللجوء إلى المؤسسات الإنمائية الدولية وخاصة الزراعية والصناعية منها.

كما من المهم التركيز على القطاع المصرفي في العراق وتطويره، حيث يتمتع القطاع المصرفي في العراق بإمكانيات كبيرة يمكن أن تسهل عمليات الاستثمار ويمكن أن تلعب دورا محوريا في دعم نمو القطاع الخاص من خلال تسهيل القروض التنموية والصناعية والتنويع في الخدمات المصرفية وتعزيز ما يسمى بالتصنيف الائتماني للشركات والأفراد.

وعن قطاع الاتصالات فهو الآخر يملك آفاقا واعدة للمستثمرين إذا ما تم تطويره وإدخال أفضل التقنيات والمعدات التكنولوجية وتم العمل على توطين صناعة الاتصالات في العراق، فقطاع الاتصالات يمكن أن يؤمن عائدات وموارد مهمة للدولة وخاصة أن العالم اليوم يعيش ثورة في الاقتصاد الرقمي ويتسارع نموه بشكل مضطرد.


في هذا السياق يرى الخبير الاقتصادي الدكتور يحيى السيد عمر، أنه في ظل المحاصصة الطائفية وفي حال تم إقرارها في العراق فإنها لا يمكن أن تترافق بنهوض اقتصادي، فالاقتصاد يحتاج لبيئة مستقرة سياسيا وأمنيا واجتماعيا.


العمر أضاف خلال حديثه لـ”الحل نت” أن هذا الاستقرار من غير الممكن أن يحدث في ظل المحاصصة الطائفية، كما أن سلطة الدولة تتراجع مقابل ارتفاع سلطة القيادات الدينية والطائفية، وأن النظام السياسي القائم على محاصصة طائفية قد لا يتمكن مستقبلا من إلغاء هذه المحاصصة، فالنظم الدينية والعِرقية تكون قادرة باستمرار على إنتاج ذاتها، فالاقتصاد سيتراجع في ظل المحاصصة مع احتمال الاختلاف حول تقاسم الموارد لا سيما النفط.

وأشار العمر في حديثه بأنه يحدث أحيانا خلط بين الفيدرالية والمحاصصة الطائفية، فهما مفهومان مختلفان، فالأولى غالبا ما تقوم على مرتكز جغرافي بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية والطائفية في الحيّز الجغرافي، بينما في المحاصصة الطائفية يكون المعيار الانتماء الديني والطائفي فقط، وهذا يعني تشتيتا للدولة وللموارد، وهو لا يحل المشكلات السياسية والأمنية، بل يُخفيها فقط ولكنها تبقى موجودة وكامنة بانتظار لحظة انفجار، ولعل في لبنان خير مثال على ذلك.

العمر أنهى حديثه لـ “الحل نت” بأن الخطوة الأولى لتنفيذ المشاريع الاستثمارية في العراق لا بد أن تتثمل في ترسيخ الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، فالشركات الأجنبية غالبا ما تُحْجِم عن الاستثمار في أيّ بيئة مضطربة.

بعيدا عن مشكلة المحاصصة الطائفية، يمكننا القول أنه ومن خلال طرح المشاريع المجدية وجذب الاستثمارات ومعالجة التحديات الاجتماعية الرئيسية كارتفاع معدلات البطالة والفقر ووصول الطبقات الدنيا في العراق إلى الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وتحسين مستويات المعيشة وخلق فرص عمل لشباب العراق والابتعاد عن فكرة الاعتماد على التوظيف الحكومي وطرح مشاريع الطاقة المتجددة لتنويع مصادر الطاقة في العراق والعمل على تحقيق فكرة التنمية المستدامة للاقتصاد العراقي، يمكن للعراق أن ينهض بأبنائه ويحقق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

القطاع النفطي ودوره في التنمية

يمكن أن يوفر قطاع الطاقة في العراق فرصا استثمارية كبيرة أيضا وآن الأوان لاستغلال موارد هذا القطاع لتطوير القطاعات الإنتاجية الأخرى بعد سنوات طويلة من العقوبات والحروب.

على الرغم من وجود خطط طموحة لتطوير حقوله النفطية إلا أن تلك الخطط تصطدم بقيود تتعلق بتطوير البنية التحتية وتوفير التكنولوجيا اللازمة لذلك، فالبنية التحتية العراقية تحتاج إلى تحديث لمعالجة زيادة الإنتاج الخام وزيادة حجم الاستثمار في الغاز الطبيعي، وبخاصة فيما يتعلق بحقن المياه للحفاظ على الضغط اللازم لاستخراج النفط وزيادة الإنتاج.

أما بالنسبة للغاز الطبيعي في العراق فيعتبر موطن لاحتياطيات هائلة إلا أنه يعاني من عجز في استثماره ويستورد حاجته الأكبر من الغاز من جارته إيران، فوفقاً لوكالة “رويترز” فإن العراق يولد ما يقرب من 4 آلاف ميغا واط عن طريق استيراد الغاز من الخارج.

وللمفارقة فإن إنتاج الغاز الطبيعي في العراق ارتفع بشكل ملحوظ منذ سنوات، ولكن نقص البنية التحتية للاستهلاك والتصدير وحرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط والقضية القانونية المتعلقة بالحقول المشتركة لاسيما مع إيران والكويت حالت دون استثمار المستخرج منه بالشكل الأمثل.

بحسب منظمة “أوبك” فإن العراق يمتلك 145 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية المؤكدة، مما يجعل العراق ثالث أكبر مالك لهذه الموارد في العالم، كما يمتلك العراق احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي بواقع 131 تريليون قدم مكعب، ويعتمد العراق على النفط والغاز لتغطية 90 بالمئة من دخله المالي.

وفي نهاية الأمر يوفر قطاع الطاقة العراقي فرصا استثمارية كبيرة ستساهم في خلق وظائف جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي ويضمن تقاسم فوائد الاستثمار على نطاق أوسع بين سكان العراق بعيدا عن المحاصصة المناطقية، وذلك من خلال الاستثمار الصحيح وجهود التحديث ووضع إطار قانوني شامل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات