في خطوة لإحداث خرقٍ للأزمة السياسية اللبنانية، عاودت فرنسا مرة أخرى، لتواصل جهودها المستمرة منذ أشهر، في سبيل اتخاذ خطوة أخرى علّها تسرّع في حل أزمة الشغور الرئاسي المستعصية في البلاد، وذلك عبر إرسال مبعوث خاص بها إلى لبنان لعقد لقاءات مع مسؤولين في بيروت لوضع خطة أو الشروع في مسار ما لإنهاء الوضع السياسي اللبناني المأزوم.

هذه المهمة الفرنسية، تأتي في خضم غياب الاهتمام الدولي وحتى الإقليمي عن الملف اللبناني، ووصفت بـ”المهمة المستحيلة”، جراء الانقسامات السياسية المزمنة في البلاد، التي بدورها أدت إلى تعثر كل الجهود الدبلوماسية بشأن انتخاب رئيس جديد للبنان خلال الفترة الماضية.

المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هو وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان، الذي وصل يوم الأربعاء الماضي إلى لبنان واستمرت زيارته لمدة 3 أيام، التقى خلالها عددا من المسؤولين اللبنانيين، لكنه أكد أنه لا يحمل أي خيار، بل سيستمع للجميع، مشيرا إلى أنه سيكون هناك زيارات أخرى. وأن الحل يبدأ من اللبنانيين.

هذا يعني أن حل أزمة الشغور الرئاسي ما زال مستعصيا وثمة العديد من الأسباب والعقبات تقف وراء ذلك، وهنا تبدو المهمة الفرنسية صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وهذا يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول فرص إحداث باريس لانفراجة في مسألة أزمة الشغور الرئاسي، وكيف، ولماذا تعتبر مهمة إنهاء هذه الأزمة الرئاسية في لبنان مهمة المستحيلة.

“مهمة مستحيلة”!

نحو ذلك، افتتح لودريان لقاءاته يوم الخميس الماضي باجتماع مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ثم البطريرك الماروني بشارة الراعي. والتقى لاحقا بقادة أحزاب رئيسية، وفق “أ.ف.ب“.

الرئيس نجيب ميقاتي مستقبلاً الموفد الفرنسي لودريان- “رويترز”

إثر لقائه الراعي، قال لودريان إن زيارته الأولى هدفها “الاستماع.. وإجراء المشاورات الضرورية مع كافة الأطراف للخروج فورا من المأزق السياسي ثم النظر في أجندة إصلاحات من أجل أن يستعيد لبنان الحيوية والأمل”.

كما التقى لودريان مع رئيس “مجلس النواب اللبناني” نبيه برّي، حليف “حزب الله” الموالي لطهران، والحزب الأبرز والذي يلعب دورا محوريا في الملف الرئاسي.

الكاتب والمحلل السياسي اللبناني، منير الربيع، يقول في هذا الصدد، إن مهمة المبعوث الفرنسي بالطبع ليست بالمهمة السهلة، خصوصا وأن المسار الفرنسي والمبادرات الفرنسية في لبنان يتعثر منذ عام 2020، وحتى عندما كان لودريان وزيرا للخارجية الفرنسية.

الربيع استدرك لموقع “الحل نت”، أن باريس اصطدمت بتصلب القوى السياسية اللبنانية في مواقفها، إلى جانب انعدام الاهتمام الإقليمي والدولي بالمشهد اللبناني، بسبب انشغالهم بملفات وأولويات أخرى تجري في الساحة الإقليمية والدولية. ولم تنجح باريس في تحقيق أي خرق في جدران الأزمة المستمرة منذ فترة طويلة.

مبادرات فرنسا المتعددة ومنذ فترة طويلة، حول إنهاء المأزق السياسي في لبنان، لم تحقق أي نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع، حتى عند زيارة إيمانويل ماكرون للبنان بعد اليوم الثاني من انفجار مرفأ بيروت ومحاولته وضع البلاد في مسار التصحيح ولملمة شتات الفرقاء السياسيين، لم يُؤخذ على محمل الجد، بمعنى أن المقاربة الفرنسية لم تثمر حتى اليوم، وهذا يعني مدى تضارب وانقسام القوى السياسية في بيروت.

لا انفراجة في الأزمة

لودريان كان قد زار لبنان مرارا حين كان وزيرا للخارجية في إطار جهود فرنسية لدعم لبنان على تجاوز أزماته. ولطالما حذر في تصريحات قاسية من إهمال القوى السياسية حتى أنه اتهمهم قبل عامين بـ”قيادة البلد إلى الموت” كما وصف لبنان بأنه “سفينة تايتانيك من دون الأوركسترا”.

ماكرون كان قد عيّن لودريان في السابع من حزيران/يونيو الجاري مبعوثا خاصا للبنان للمساعدة في إيجاد حلّ توافقي وفعّال للأزمات اللبنانية المتتالية، وآخرها الشغور الرئاسي.

كما ورجح مصدر مطلع على الملف اللبناني في باريس ألا تحقق زيارة لودريان خروقات، وفق “الوكالة الفرنسية”. وقال “ليس لودريان من سيغير نظاما سياسيا متصلبا وسياسيين فاسدين لا يرون سوى مصالحهم”.

بالعودة إلى المحلل اللبناني، فيرى أنه ليس من المتوقع حتى الوقت الراهن أن ينجح لودريان في تحقيق خروقات بالأزمة السياسية اللبنانية المستعصية جدا، نظرا للانقسام العمودي الحاد في مواقف القوى اللبنانية وعدم استعداد أي طرف عن موقفه أو تقديم تنازلات للتقارب مع الطرف الآخر.

بالتالي وفق تقدير الربيع، فإن كل هذا المسار الفرنسي الذي بدأ مع زيارة لودريان يمكن رؤيته ضمن زيارات أخرى ومتعددة للبنان، وهي الزيارات التي قد لا تؤدي إلى أفق سياسي مختلف وجديد أو أي نتيجة ملموسة ومتوقعة خصوصا أنه أعلن عن أن زياراته ستكون مكوكية إلى بيروت.

مبادرة باريس تأتي بعد أن فشل “البرلمان اللبناني” مؤخرا، وللمرة الـ 12 في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في أول جلسة لمحاولة انتخاب الرئيس منذ قرابة 5 أشهر، ما يطيل أمد أزمة الشغور الرئاسي، على وقع انقسام سياسي يزداد حدة مع تشبث “حزب الله” اللبناني الموالي لطهران بمواقفه، الذي لا يزال مستمرا في تعطيل انتخاب رئيس جديد للبلاد تحت شعار “إما فرنجية أو لا أحد”، بإشارة إلى زعيم “تيار المردة” الذي يتبنى “حزب الله” ترشحه للرئاسة، وخصومه.

لودريان وزعيم “حركة أمل” ورئيس “مجلس النواب اللبناني” نبيه بري- “إنترنت”

“حزب الله” وحليفته “حركة أمل” برئاسة بري يدعمان وصول حليفهما القديم الوزير السابق سليمان فرنجية، إلى سدة الرئاسة. واتهم قادة أحزاب لبنانية مسيحية في السابق باريس بدعم ترشيح فرنجية مقابل وصول رئيس حكومة إصلاحي.

كما وترفض أحزاب مسيحية بارزة أبرزها “حزب القوات اللبنانية” ولديه كتلة برلمانية مسيحية وازنة، و”التيار الوطني الحر” حليف “حزب الله” المسيحي الأبرز، وصول فرنجية. ويتهم كل فريق الآخر بمحاولة فرض مرشحه وبتعطيل انتخاب رئيس فيما تغرق البلاد في أزمة اقتصادية.

مفتاح الحل

المحلل السياسي اللبناني، لا يعتقد أن خطوة باريس، ستفتح مسارا جديدا لحل الأزمة، فثمة استعصاء لا يمكن حله عبر الفرنسيين وحدهم ولا يمكن حله عبر اللبنانيين وحدهم، ولذلك لا بد من تظافر الجهود بين القوى الخمس الدولية والإقليمية، “الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر”، وبالطبع بالتفاوض بشكل مباشر أو غير مباشر مع إيران لأجل التوصل إلى صيغة تفاهمية، نظرا لأن ذراع طهران والمتمثل بـ”حزب الله” يُعد المعوّق الأساسي والمحوري في استمرار هذه الأزمة.

هذا الأمر هو السبيل الوحيد لحل الأزمة اللبنانية وفق وجهة نظر الربيع، والخوض في هذا المسار يتطلب مزيدًا من الوقت، وبالتالي يرى الربيع أن الأزمة ستطول في البلاد، نظرا لمجموعة من المعطيات، منها المواقف الداخلية المتضاربة والمتشابكة وانعدام الاهتمام الإقليمي والدولي عن المشهد اللبناني، بسبب انشغالهم بملفات وأولويات أخرى، كما ذكر آنفا.

هذا وعنونت صحيفة “لوريان لوجور” الصادرة باللغة الفرنسية، “لودريان في بيروت في مهمة شبه مستحيلة”. وقال رئيس التحرير في مركز “كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط” مايكل يونغ لـ”فرانس برس” “إنها زيارة استطلاعية قبل أن يتمكن من أن يفعل شيئا.. لا يجدر بنا انتظار حل هذه المرة”.

كما ركز على أهمية البدء بعملية المفاوضات في الوقت الراهن وفق ما يجده الربيع أيضا، موضحا أن مهمة لودريان قد يكون هدفها وضع آلية لتتمكن الأحزاب من تبادل العروض والطلبات. وقد يكون السعي للتوصل إلى صفقة شاملة، لا تتضمن فقط الرئيس بل أيضا رئيس الحكومة، وحاكم “مصرف “لبنان وقائد الجيش، اللذين ستنتهي ولايتهما قريبا.

البعض يرى أنه حتى لو تمّ انتخاب رئيس جديد للبنان فإن الوضع سيبقى مأزوما، وخاصة الأزمة الاقتصادية ذلك لأن الهيكل الأساسي للدولة انهار منذ تصدير “حزب الله” المشهد السياسي في البلاد عبر حلفائه، بالتالي حتى لو حاولت القوى الدولية أن تعيد إنتاج النظام بشكل من الأشكال، فإن هذه القوى والأحزاب نفسها، لا تملك وليس لديها أي إمكانية لوضع شكل مختلف للبلد بما يغير الحال ككل.

ذلك لأن الفرقاء السياسيين في لبنان بأزمة بكل أشكالها، ولا يمكن حلها عبر مبادرات فردية وحتى دولية، بل قد يتم الحل عبر إخراج اليد الطولة لبعض الأطراف الخارجية المزعزعة للبلاد، وإعادة سلطة البلاد للبنانيين.

العديد من الأطراف والآراء تتفق على أمر واحد، وهو أن “حزب الله” لا ينفك عن إحداث الثغرات والمشاكل في البلاد، وهو حجرة عثرة أمام استقرار الأوضاع هناك، وهيمنة “حزب الله” على لبنان كرهينة ولصالح دولة الولي الفقيه، إيران، الأمر الذي يزيد من تعقيد وتأزم الوضع اللبناني أكثر فأكثر، أي أن الأمر يتخطى الحدود اللبنانية، وبالتالي لا حلّ في القريب العاجل للمشهد اللبناني، وإن كان انتخاب رئيس جديد للبنان يخفف من وطأة الوضع قليلا ولكن الحل الكامل للبلاد يكاد يكون شبه مستحيل، على الأقل خلال المستقبل المنظور.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات