بعد غياب طويل عن المشهد السوري، أو يمكن القول وسط إخفاقه في الانخراط في أي تشكيلات سياسية أو عسكرية، حيث لم يلقَ قبولا من أوساط المعارضة السورية، بالإضافة إلى عدم قدرته على كسب التأييد الأوروبي بعد انشقاقه منذ عام 2012، يعود العميد مناف طلاس للظهور في المشهد السوري، وفي جعبته مبادرة بشأن حلّ للأزمة الممتدة لأكثر من عقد.

العميد المنشق عن الحكومة السورية، طرح مؤخرا عبر بيان مقتضب مشروعا لتشكيل مجلس عسكري سوري، بينما انبثق عنه عقد مؤتمر تحت مسمى “حركة التحرر الوطني السوري”، لضباط عسكريين منشقين، وذلك في ما يُعرف بـ”المجلس العسكري السوري”.

اللافت أن الحركة التي تزعم أنها “حركة ضمن إطار نضالي وطني جامع، وليست حزبا بالمعنى الأيديولوجي، وليست كيانا عسكريا بالمعنى الفصائلي، بل مظلة وطنية تنضوي تحتها قوى سياسية وعسكرية وشخصيات وطنية وتجمعات عشائرية ومنظمات مدنية”، عُقد مؤتمرها في مدينة عفرين، الواقعة ضمن ما يُعرف بمنطقة “غصن الزيتون” شمال محافظة حلب، شمال سوريا، وتخضع لسيطرة القوات التركية و”فصائل الجيش الوطني” التابعة لها، والتي ارتكبت ممارسات وانتهاكات غير قانونية ضد سكان المدينة الأصليين ولا تزال مستمرة حتى فترة قريبة جدا، وقد وصفتها تقارير حقوقية أممية بأنها ترقى لـ”جرائم حرب”.

من هنا يجدر طرح بعض التساؤلات حول تداعيات مبادرة مناف طلاس، وذلك حول دلالات إطلاق “حركة التحرير الوطني السوري” وكذا ما يعنيه مكان انعقاد المؤتمر في مدينة عفرين، وفيما إذا يمكن اعتباره سعيا للحصول على دعم تركي أو قد حصل بالفعل على ضوء أخضر من أنقرة مسبقا، وذلك إلى جانب التساؤل بخصوص تداعيات فشل هذا التشكيل الجديد على مستوى الثقة بالمعارضة السورية وعلى مستوى الملف السوري ككل.

مبادرة محكومة بالفشل!

نحو ذلك، عقد ضباط عسكريون برتب مختلفة وهم منشقون عن الحكومة السورية، يوم الجمعة الفائت، اجتماعا تحت مسمى “حركة التحرر الوطني السوري” التي يقودها مناف طلاس. وقالت “حركة التحرر الوطني السوري”، في بيانٍ مقتضب مساء الجمعة، عقب الاجتماع في مدينة عفرين، أنها “تهدف إلى تغيير النظام وتمكين الشعب السوري من بناء الدولة السورية الجديدة التي يحدد شكلها السوريون أنفسهم بكل أطيافهم”.

ضباط من “المجلس العسكري السوري” خلال حضور مؤتمر “حركة التحرر الوطني السوري” في عفرين “بتاريخ ٢٠٢٣/٧/٢٨”فيسبوك”

كما بيّنت الحركة في بيانها أنها لا تدّعي وصايتها على السوريين، كما لا تدعي مصادرة نضال السوريين خارج إطارها، ولا تقوم على حوامل أيديولوجية أو عرقية أو مذهبية، بل تؤمن بمفهوم المواطنة كناظم للعلاقة بين الفرد والدولة، والديمقراطية كمنهج في تداول السلطة، والدستور وما ينبثق عنه من قوانين كناظم لإدارة الدولة.

كذلك شددت على “تمسّكها بجميع المضامين التي انطوت عليها القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية”، داعية إلى إيجاد “آليات ووسائل جديدة للمقاومة، من المسار الحقوقي والإعلامي والحراك الشعبي والعصيان المدني وأشكال نضالية أخرى ستُعلن في حينها، وعدم الركون والتعويل على الإرادات الدولية والخارجية”، وفق ما ورد في البيان.

من وجهة نظر الكاتب الصحفي السوري، عقيل حسين، هذا يعني أن مناف طلاس والضباط الذين معه التقطوا مؤشرات إقليمية تجاه الحكومة في دمشق بعد إصرارها على عرقلة المبادرة العربية، وربما قدّروا أن هذه فرصة مناسبة لكي يثبتوا أن ما يُعرف بـ “المجلس العسكري السوري” هو الحل الوحيد الممكن للصراع في سوريا، أو لمرحلة ما بعد الصراع.

باختصار، ووفق تقدير حسين لموقع “الحل نت”، الرسالة من هذا التشكيل تتعلق بإبلاغ الجميع أن مشروعهم هو بديل الحكومة الموجودة في دمشق، ذلك لأنهم يعتقدون مثل الكثيرين بطبيعة الحال أن ثمة من عاد للتفكير ببديل عن السلطة الحاكمة في دمشق..

بعض المراقبين يرون أن تشكيل هذا الكيان أو إطلاق مبادرة مناف طلاس لا تعدو كونها أكثر من محاولة فاشلة من مجموعة ضباط كانوا مغيّبين مغلوبين على أمرهم، فضلا عن تواجدهم في مدينة تتعرض لانتهاكات حقوقية جمّة دون رقيب أو حسيب، الأمر الذي يدلل على احتمالية فشل هذه الخطوة مسبقا، وذلك من خلال عدم مساندتها من أي طرف خارجي أو حتى داخلي، فلم تشهد الحركة أي تأييد أو دعم حتى الآن.

بالتالي من يعلن عن أية حركة وطنية عسكرية أو سياسية من عفرين التي تتعرض لممارسات قمعية وتغييرات ديمغرافية كل يوم سيكون مصيرها طي النسيان دون إحراز أي تقدم في مسار الملف السوري كباقي المبادرات الأخرى التي باءت بالفشل. 

كما أن انعقاد المؤتمر في مدينة منكوبة مثل عفرين والتي لا تزال تتعرض لأشد الانتهاكات الموثقة في تقارير حقوقية محلية وأممية، منها “لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا” و”منظمة العفو الدولية”، يوحي بعدم قوة ووطنية هذه الحركة التي يقودها طلاس، ولا يمثل سوى طرح نفسه كبديل في ظل الظروف الإقليمية والدولية المتسارعة، وبالتالي تكريس نفسه كمنقذ للحل السوري.

أما حسين فيعتقد أن “القائمين على هذه الحركة أرادوا التأكيد من خلال ذلك على أن المجلس العسكري موجود بالفعل وليس مجرد غرفة واتس آب، وأنه موجود على الأرض في الداخل وليس الخارج فقط، وهو مع مشروع الثورة لأنه يعقد المؤتمر في منطقة خاضعة للمعارضة”.

احتمالات دعم تركي

طبقا للبيان، فقد نوّه إلى أن ما يُعرف بـ”المجلس العسكري السوري” هو من أطلق “حركة التحرر الوطني”، ولكنه زعم في الوقت ذاته أنه لن يكون وصيا عليها، بل سيكون ذراعها التنفيذية والداعم لسياساتها وتوجهاتها، مؤكدا حرصها على إقامة كافة أنواع الجسور والعلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي، وذلك وفقا لما تقتضيه المصلحة الوطنية السورية بعيدا عن أي شكل من أشكال الوصاية والارتهان.

في سياق إذا ما كانت مبادرة مناف طلاس قد طرحت بضوء أخضر تركي أو سيحمل معها دعم من أنقرة في الفترة المقبلة، نظرا لأن كل التشكيلات والتنظيمات التي تتشكل سواء في مناطق سيطرة أنقرة بسوريا أو في الداخل التركي يكون بعلم ودعم تركي من دون شك، يقول الكاتب الصحفي السوري هنا، إن “المجلس العسكري السوري” بشكل عام ليس لديه موقف سلبي رسمي من تركيا، لكن حسب تقدير عقيل حسين لا يريد القائمون عليه أن يظهروا أنفسهم كمن يستجدي تركيا حرصا منهم على عدم استعداء خصوم تركيا ومنافسيها في الملف السوري.

لقاء سابق بين مناف طلاس وأحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا سابقا- “أ.ف.ب”

كما أشار البيان، إلى أن إطلاق “حركة التحرر الوطني” هو “تجسيد لنقلة نوعية في الوعي السوري، تتمثل في ضرورة تجاوز الصيغ التقليدية للمعارضة، والدخول في مواجهات جديدة مع النظام السوري، تأخذ بعين الاعتبار أن معركة السوريين مع القتلة تجاوزت حدودها السياسية وباتت معركة وجودية ذات أبعاد أخلاقية وإنسانية”.

اسم مناف طلاس خلال السنوات الماضية أثار الكثير من الجدل، وكذلك الأمر بالنسبة للجسم الذي شكله، “المجلس العسكري” الذي لا تعرف الأسماء المشكّلة له، ومدى فاعليته على أرض الواقع، ومَن يدعمه. ويقيم ابن وزير الدفاع السوري الأسبق، مصطفى طلاس في العاصمة الفرنسية باريس.

تأزيم الوضع السوري

يبدو أن طلاس يعرف كيف يستغل الظروف والأحداث، ذلك لأن تشكيل الحركة يأتي بالتزامن مع تحركاته لتفعيل “المجلس العسكري” من جديد، عقب تأييد فرنسا لمحاكمة مسؤولين كبار في الحكومة السورية إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، وفق وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، التي أكدت في أواخر أيار/مايو الفائت ذلك الأمر، وقالت إن “محاربة الجرائم والإفلات من العقاب جزء من قيم دبلوماسية البلاد، وأن بشار الأسد عدو شعبه منذ أكثر من 10 سنوات”، مشيرة إلى أنه قتل مئات آلاف السوريين واستخدم الأسلحة الكيميائية، كما استبعدت رفع العقوبات الأوروبية المفروضة على دمشق.

بالعودة إلى الكاتب الصحفي، فإن فشل هذا المشروع لا شك ستكون له آثار سلبية كبيرة وخطيرة، وهي آثار معنوية على المواطن السوري الذي يبحث عن أي مشروع سياسي لدى المعارضة يكون ناضج ويمتلك القدرة على الإقناع والتطبيق.

إلى جانب آثار سياسية جمّة، ذلك لأن الدول المنخرطة في الصراع السوري ستفقد الثقة تماما بقدرة المعارضة على إنتاج بديل وطني للحكومة في دمشق. ولذلك يحذر الكاتب الصحفي السوري القائمين على المشروع، من أن يكونوا قد قرروا اتخاذ هذه الخطوة قبل دراستها بشكل جيد وتأمين حاضنة محلية وخارجية لمشروعهم.

في مطلع عام 2021 كانت فكرة “المجلس العسكري” المرتبط بطلاس قد ترددت على نحو كبير، وارتبطت باسم منصتي “موسكو والقاهرة”، وتداولت معلومات صحفية آنذاك أفادت بنيّة بعض الضباط تشكيل “مجلس عسكري” في سوريا، على رأسهم مناف طلاس.

إلا أنه لم يصدر أي تعليق من طلاس. بينما نفت “منصة موسكو” في ذلك الوقت تلك المعلومات بشكل قاطع واعتبرت أن فكرة “المجلس العسكري ولدت ميتة”، فضلا عن نفي روسيا، في وقت سابق وجود أي محادثات حول “المجلس العسكري”.

حقيقة عدم تلقي مناف طلاس أي دعم أو تأييد حتى الآن، سواء خارجي أو حتى على مستوى الحاضنة الشعبية محليا، يشير أولا إلى استغلاله فقط للظروف وتعثر الجهود في إيجاد أي حلّ محتمل للملف السوري، وثانيا ضعف مبادرته التي لم تحظَ حتى الآن بأي قبول يجعلها رائجة محليا وإقليميا ودوليا. وكل المعطيات والمؤشرات حتى الآن تدلل بأنه لن يحظى بأي مستوى من الشرعية والتداول السياسي، مع استثناء تركي قد ينحاز له ولو بشكل مؤقت، خاصة أن مقر قيادة هذا التشكيل العسكري يقع ضمن المناطق التي تسيطر عليها أنقرة، بالتالي ستستخدم تركيا هذه الورقة عمدا في هيئة الابتزاز السياسي لتحقيق مصالحها وستراوح مكانها، أي مبادرة طلاس، كما غيرها طيلة السنوات الماضية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1.5 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات