في كثير من البلدان، وخاصة الدول العربية، يترك المرء عادة بقشيش أو إكرامية إذا كان راضيا عن الخدمة، واعتمادا على المنطقة، قد لا تكون هذه النسبة كافية، في حين أن البقشيش غير متوقع على الإطلاق في أماكن أخرى. لكن في سوريا، هذه الظاهرة منتشرة وبكثرة، وفي جميع الأماكن تقريبا، من المطاعم والمقاهي والفنادق إلى المؤسسات الحكومية، لدرجة أنها أصبحت أحد وسائل العيش، بسبب تدني مستوى الرواتب والأجور.

بشكل عام، لا يتقاضى العاملون في المطاعم أو الفنادق في سوريا أجورا كافية، بل يعيشون على البقشيش والإكراميات، بالإضافة إلى أن تحول نسبة كبيرة من الموظفين العاملين في دوائر الحكومة السورية، خاصة في السنوات الأخيرة، إلى مجموعة من المرتشين والفاسدين، فقد أثبتت العديد من التقارير الصحفية السابقة أن معظم موظفي الحكومة يعيشون على الرشاوى التي يتقاضونها تحت مسمى “إكرامية أو هدية”، نتيجة تدني الرواتب.

“البقشيش أكثر من الراتب”

مع تدني الرواتب والأجور، وسط غلاء المعيشة في عموم البلاد، يعيش معظم العاملين في المطاعم والمقاهي والفنادق على البقشيش والإكراميات، إذ غالبا ما يترك الزبون هامشا من المال على الطاولة للعامل.

Busy restaurant at night, Aleppo, Syria

أحد العاملين في مطاعم دمشق القديمة يقول لموقع “الحل نت”، إنه لولا الإكراميات التي يأخذها من الزبائن في المطعم، لكان قد ترك وظيفته، نظرا لأن الراتب ضعيف، وما يشجعه في البقاء هو موضوع البقشيش، وفي معظم الأحيان يكون البقشيش أكثر من الراتب نفسه، ويضيف “الراتب ما بجيب همو، وكل يلي بيجو عالمطاعم بيعطو بقشيش وخاصة لمعلم الأركيلة، لحتى نهتم فيه ونظبطله الوضع ويكون مبسوط من القعدة”، متسائلا مَن يستطيع العيش اليوم براتبه فقط.

كما يشير إلى أن معظم زملائه في المطعم يتلقون البقشيش، وقد أصبح هذا الأمر سمة عامة في جميع المطاعم والمقاهي والفنادق في سوريا، وهو ليس أمرا جديدا، ولكن مع هذا الغلاء الجامح في البلاد، يطالب الجميع بشكل غير مباشر من الزبون إعطائه إكرامية، وغالبا ما يلبيه وفقا لوضعه المادي، وفي الحقيقة غالبية الزائرين مقتدري الحال.

إحدى الفتيات المنحدرات من محافظة الحسكة، والتي زارت العاصمة دمشق مؤخرا بهدف إنجاز إحدى المعاملات الحكومية، قالت لموقع “الحل نت” إنها قضت قرابة الأسبوع في فندق بساحة المرجة، رفضت تسميته، وأشارت إلى أنه أثناء إقامتها فيه، اعتادت أن تقدم إكراميات لعمال النظافة وحتى مدير الحجوزات، وذلك بهدف الاهتمام بها وبغرفتها.

الفتاة ذاتها نوّهت إلى أنه أينما يذهب المرء يلاحظ أن الجميع يفتح يده لتلقي الإكراميات أو الرشاوى، وأضافت “حتى عندما ذهبت إلى الهجرة والجوازات، فقد دفعت رشاوى للموظفين والعساكر حتى أنهوا معاملتي بوقت سريع، فبغير ذلك يماطلون في استخراج جواز السفر وهو ما يكلفني أعباء اقتصادية، فأضطر لدفع الرشاوى أفضل من الإقامة لمدة طويلة في دمشق، نظرا لأن مصاريفها غالية”.

كما وأشارت إلى أنها عندما ذهبت إلى “وزارة الخارجية السورية”، كان هناك من يسهّل الدخول مقابل مبلغ مالي قدره ما بين 50-75 ألف ليرة سورية، وإلا فالمرء ينتظر لساعات طويلة حتى يحصل على توثيق لأحد أوراقه من “شهادة جامعة أو سواقة أو كشوفات جامعية وما إلى ذلك”.

العيش على “الرشاوى”


العديد من الخبراء والتقارير تقول إن معظم الموظفين الحكوميين اليوم يعتاشون على الرشاوى، حيث تشكل الرشوة أهم مصدر رزق أساسي غير قانوني لهم وينمو ويقل حسب درجة التوظيف، ويلتزم الكثير منهم بوظائفهم بسبب أزمة المعيشة ونسبة الدخل غير القانوني الذي يحصلون عليه من خلال وظائفهم.

كما ويلاحظ أن أغلب السوريين اليوم ينفقون شهريا عدة أضعاف الراتب الشهري الذي يتلقونه من الحكومة، حيث البعض ينفق حوالي نصف مليون والبعض الآخر مليون أو مليونين حسب الحاجة لكل أسرة.

هذه الرشاوى تأتي تحت مسميات مختلفة، إكرامية أو هدية أو حق فنجان قهوة وما شابه ذلك، وكلّ موظف يتطلب عمله توقيعا أو ختما أو تمرير معاملة لا يمكن أن تُنجز من دونها، وهو ما يصبح حجة حتى يأخذ الإكرامية عنوة من المواطن، وإن كانت قليلة.

كذلك، العديد من التقارير الصحفية أكدت في وقت سابق أن أغلب الموظفين الحكوميين الذين تسمح لهم مناصبهم بتقاضي المال مقابل الخدمة أو تأمين وساطة، يقومون بذلك نتيجة تدني مستوى المعيشة وانخفاض الأجور، لكن لا يعتمد جميع الموظفين الحكوميين على الرشاوى فأغلبهم يعملون عملا إضافيا بعد الدوام.

في الإطار تحدث الصحفي زياد غصن المتخصص في الشؤون الاقتصادية، عن عدم وجود تقديرات بحثية عن حجم وقيمة الرشاوى في سوريا سواء قبل الحرب أو بعدها، إنما هناك قناعة شعبية واسعة تعتقد أن نسبة الرشوة زادت خلال العامين الأخيرين ازديادا كبيرا وملحوظا نتيجة اتساع الفجوة المتشكلة بين مستويات الأسعار من جهة ومستويات دخول العاملين بأجر، وفق تقرير سابق لموقع “بزنس 2 بزنس” المحلي.

اعتماد معظم الموظفين على الرشاوى في سوريا- “إنترنت”

وفق وجهة نظر غصن، ستظل الرشوة منتشرة مادام دخل المواطن غير كاف، مشيرا في وقت سابق أنه وبحسب تقارير أرقام التتبع السنوية للمؤسّستَين الرقابيتَين فإن قيمة مبالغ الفساد المكتشفة جراء التحقيقات التي أجراها مفتشو المؤسستين وصلت في عام 2021 إلى نحو 64 مليار ليرة سورية منها 22 مليار ليرة سورية ناتجة عن تحقيقات الجهاز المركزي للرقابة المالية و 42 مليار ناتجة عن أعمال الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وهذا الرقم لا يشكل إلا نسبة 0.75 بالمئة من إجمالي اعتمادات الموازنة العامة للدولة في العام المذكور.

الحوالات الخارجية

معظم السوريين اليوم يعتاشون على المساعدات المقدّمة من الدول الخارجية، بالإضافة إلى الحوالات التي تأتي من الخارج من قبل الأهالي والأصدقاء وغيرهم، في تعبير واضح عن مدى التدهور الاقتصادي في سوريا، حيث كشفت مصادر اقتصادية محلية في وقت سابق، عن 70 بالمئة من السوريين يعيشون على الحوالات، مقدرة حجم المبالغ التي تصل سوريا من المغتربين يوميا بـ 5 ملايين دولار.

نسبة اعتماد السوريين داخل البلاد على الحوالات المالية الخارجية كمصدر أساسي للرزق باتت تزداد تباعا بسبب الأوضاع المعيشية. مما لا شك فيه أن الأرقام المتداولة حول حجم التحويلات اليومية تتفاوت من حين لآخر، لكن لا أحد يختلف في أنها مهما كان حجمها فإنها تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد السوري، أو ربما يمكن اعتبارها عجلة الاقتصاد نفسه، بالنظر إلى تدني الرواتب والأجور إلى أدنى المستويات، حيث لا يكفي راتب الموظف الحكومي سوى مصروف لعدة أيام فقط.

اللافت أن هذه الحوالات الخارجية القادمة من المغتربين لأُسرهم المتبقين داخل سوريا ليست فقط المصدر الأساسي للمواطن لتمرير يومهم ومعيشتهم، بل أصبحت المصدر الرئيسي للعملة الأجنبية في الأسواق المحلية ورافد مهم لـ”المصرف المركزي”، وفق تقدير الخبراء الاقتصاديين العاملين في مؤسسات الحكومة.

صحيح أن الحوالات الخارجية تعتبر متنفسا جيدا للعائلات في سوريا، لكن لا يمكن اعتبارها على أنها تلبي جميع احتياجات أُسرهم.

نظرا لارتفاع تكلفة المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة، بحيث تصبح تكلفة المعيشة الشهرية لأسرة سورية مكونة من أربعة أشخاص تتطلب أكثر من 4 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 500 دولار، وهو مبلغ يفوق قدرة معظم المغتربين، خاصة وأن متوسط ​​تكلفة المعيشة في ارتفاع مستمر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات