الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا، وغياب فرص العمل الجيدة، دفع نسبة كبيرة من الشعب السوري، وخاصة فئة الشباب، إلى التوجه نحو الأعمال الخاصة رغم صعوبة ذلك. لكن تحويل الوظيفة الحكومية إلى مجرد مضيعة للوقت، بحسب آراء معظم الشباب داخل سوريا، عزز قدرتهم على العمل في وظائف أخرى، يكون مردودها المادي أفضل من الحكومي.

كما أن نسبة كبيرة من النساء افتتحنّ أعمالهنّ الخاصة أو صالونات تجميل نسائية أو العمل في التسويق الإلكتروني من المنزل، أو حتى العمل في بيع الخبز والقهوة والفستق على الطرقات، حتى لو كانت هذه الأعمال ليست مألوفة لدى المجتمع السوري، لكن الحاجة المادية والظروف الاقتصادية السيئة تفرض نفسها.

العزوف عن العمل الحكومي

الدكتور زكوان قريط، خبير التنمية الإدارية قال لصحيفة “تشرين” المحلية يوم أمس الأربعاء، إن معظم الطلبة وشباب اليوم لم تعد تقنعهم الوظيفة الحكومية ماديا ولا حتى نفسيا، وحتى مَن توجّه إليها منهم فهدفه تحصيل رأس مال أو سحب قرض ليساعده في إطلاق مشروعه الخاص وإن كان صغيرا.

طارق الذي تخرج من الجامعة منذ ثلاث سنوات، اختصاص اقتصاد، فقد ظل يبحث عن وظيفة تناسب مجاله وبراتب مقبول لكن لم يوفق في ذلك، نظرا لأن مسألة التوظيف برأيه تحتاج إلى علاقات وواسطة في سوريا، لذلك لجأ إلى العمل في مجال العقارات على الرغم من أن هذا المجال لا علاقة له بدراسته وطموحاته. أي التخلي عن الشهادة والطموح في سبيل تأمين لقمة العيش، وسط الظروف الاقتصادية السيئة.

طارق بعد أن اقتحم هذا المجال، يقول إنه من الصعب التفكير في أي وظيفة بأي قطاع حكومي أو خاص، لأنه لا يمكن مجاراة ارتفاع الأسعار “الجنونية” في الأسواق نتيجة عدة أسباب ومنها تدهور الليرة السورية أمام النقد الأجنبي، وهو كغيره من الشعب السوري يحتاج إلى دخل كبير غير متاح إلا من خلال العمل الحر أيّا كان نوعه ومجاله.

في هذا الصدد قال أحد خريجي كلية التجارة والاقتصاد بجامعة دمشق في اتصال هاتفي لـ “الحال نت”، إنه لا يمكن الاعتماد على الوظيفة الحكومية، حيث أن الراتب لا يكفي ليومين، ولا يستطيع العيش بهذا الراتب الهزيل، وعلى أساس ذلك ذهب للعمل في محل تجاري.

الشخص الذي فضّل عدم الكشف عن ذكر اسمه، أردف أنه يعمل لنحو عشر ساعات في محل لبيع الملابس الرجالية في سوق الصالحية بدمشق، وراتبه أفضل من راتب الحكومة، حيث يتقاضى أكثر من 500 ألف ليرة سورية، بالإضافة إلى المكافآت عند وجود حركة بيع جيدة في المحل، بالإضافة إلى أنه يمارس مهنة التجارة الإلكترونية على الإنترنت، سواء في مجموعات خاصة على منصة “فيسبوك” أو تطبيق “واتسآب”.

كما وأشار إلى أنه استطاع استقطاب زبائن خاصة به، وهذا العمل له مردود خاص وأحيانا يعمل في بيع الهواتف المستعملة، أي أنه يعمل في التجارة الإلكترونية بشكل عام، ولكن للسلع ذات القيمة المنخفضة مثل الملابس و”الموبايلات” والمسابح الرجالية، وبالتالي يجد أن هذا العمل أفضل بكثير من العمل الحكومي الذي لا يتجاوز راتبه 150 ألف ليرة سورية.

61 بالمئة من البطالة شباب

بدوره محمد الذي درس الهندسة المدنية وتخرج منذ أربعة أعوام، فقد كان حلمه أن يحظى بوظيفة في اختصاصه لكنه لم يحصل عليها حتى اللحظة، فكلما ذهب إلى قطاع حكومي أو شركة لتقديم طلب للتوظيف يُصاب بالإحباط، فهم يطلبون خبرة لا تقل عن ثلاث سنوات، أو يعتذرون لعدم توافر شواغر، وعلى قلّتها وشحّها فإن عائدها المادي ضعيف جدا، وفق الصحيفة المحلية.

الدكتور زكوان قريط، أشار إلى أن 61 بالمئة من نسبة العاطلين عن العمل في سوريا من فئة الشباب، ولذلك يتجه معظم الشباب وخاصة خريجي الجامعات إلى العمل الخاص أو تأسيس مشاريع صغيرة أو متناهية الصغر خاصة بهم لأنها تُعد أكثر ريعية من الوظيفة في القطاع العام.

من الواضح أن السبب هو ضعف الراتب في القطاع العام على الرغم من أن معظم الشباب يعمل في أعمال أو قطاعات بعيدة كل البعد عن تخصصاتهم الجامعية، وفق قريط.

قريط حذر من هذا الأمر، واعتبره استنفادا للكوادر في القطاع العام ما سيؤثر سلبا فيه، والمعالجة تكمن في زيادة الرواتب والحوافز في القطاع العام ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب مع تشجيع الكوادر الشابة على الاهتمام بمشاريعهم الخاصة، ولكن خارج أوقات الدوام كعمل إضافي لتحسين أوضاعهم المعيشية.

خريجة كلية الحقوق تقول في اتصال هاتفي لـ “الحال نت” إنها تتمتع بمهارة الرسم، ولذلك استغلت هذه المهارة في رسم لوحات في منزلها، ومن ثم بيعها عبر الإنترنت للمهتمين باللوحات الفنية، بالإضافة إلى تزويد بعض المحلات التجارية بكمية منها بين الحين والآخر.

هذه الفتاة التي فضلت عدم ذكر اسمها تشير إلى أن مهنة الرسم لا توفر لها مردود جيد، ولهذا تعمل في إعطاء دروس خصوصية للطلاب في المراحل الإعدادية وأحيانا الابتدائية، وإلا فلن تستطيع إعالة نفسها. وتقول إنها تحاول بالفعل العثور على فرصة سفر خارج سوريا، بالنظر إلى أن الحياة في البلاد تزداد صعوبة يوما بعد يوم، بالإضافة إلى حقيقة أنه لم يعد هناك مستقبل للجيل الشاب.

مصادر رزق غريبة!

نتيجة للغلاء المعيشي المهول في سوريا، وفي ظل تدني الرواتب والمداخيل، اتجهت نسبة كبير من الجامعيين للعمل في أعمال تبدو غريبة على المجتمع السوري، مثل تنظيف البيوت أو العمل في المعامل والمِهن الحرفية أو التجارة اليدوية الحرة، كتصميم حرفيات خزفية سواء خشبية أو فضة وبيعها للمحال التجارية. كما يوجد بعض الشباب الجامعيين يعملون في بيع الخضار أو الفواكه أو أي مهنة أخرى في الأسواق، أو حتى سائق “تاكسي” أو عامل في مطعم، بغية إعالة أنفسهم وأُسرهم، وتغيير واقعهم الاقتصادي الهش إلى مستويات تتناسب مع الواقع المعيشي الصعب الراهن.

كما أن البعض يعمل في المطاعم والفنادق طمعا بوجود البقشيش والإكراميات، إذ غالبا ما يترك الزبون هامشا من المال على الطاولة للعامل. إذ يقول أحد العاملين في مطاعم دمشق القديمة إنه لولا الإكراميات التي يأخذها من الزبائن في المطعم، لكان قد ترك وظيفته، نظرا لأن الراتب ضعيف، وما يشجعه في البقاء هو موضوع البقشيش، وفي معظم الأحيان يكون البقشيش أكثر من الراتب نفسه.

يبدو أن الحاجة المادية تدفع الإنسان إلى أمور لم يعتد على خوضها. فبسبب تردي الأوضاع المعيشية لجأت نسبة كبيرة من السيدات السوريات إلى العمل بمِهن تبدو غريبة على المجتمع السوري. حيث تقول السيدة ميادة وهي أم لثلاثة أطفال لصحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا، أن “الحاجة المادية هي أهم الأسباب التي تدفع المرأة للعمل جنبا إلى جنب مع الرجل”، مشيرة إلى أنها تعمل في جني الأعشاب من غابات قريتها، باب جنة التابعة لناحية صلنفة في الساحل السوري.

ميادة أردفت في حديثها عن عملها “في البداية لم يكن جني الأعشاب مهنة، لكن بسبب الإقبال المتزايد عليها أصبح ذلك مصدر رزق لي ولعائلتي”، مشيرة إلى أن جني الأعشاب يتطلب خبرة ودراسة في أصنافها وأنواعها التي هي تعلمتها من والدها، حيث إن قرية باب جنة جبلية ووفيرة المياه، ما ساعد على وجود وتنوع أصناف هذه الأعشاب حيث ينمو أغلبها قرب الأنهار والينابيع.

في السياق ذاته، تعمل السيدة صفاء ببيع الفستق على عربة صغيرة في شوارع العاصمة دمشق لتأمين مصدر رزق لها ولأسرتها وسط تردي الأوضاع المعيشية. فمنذ حوالي ثمانية أشهر، قررت السيدة بمساعدة إحدى صديقاتها البدء في بيع الفستق وتقول لموقع “سناك سوري” المحلي، مؤخرا أنها “اقترضت مبلغا من المال من صديقة لشراء العرباية والمواد الأولية اللازمة لها”، كما تقول السيدة صفاء.

تعمل صفاء أكثر من 12 ساعة خلال اليوم بلا كلل أو ملل، تؤدي وظيفتها التي اختارتها بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وتقدم “قبوع” الفستق لمشتريه كما تقدم الطعام لأطفالها الثلاثة.

كذلك، تقف أمام آلة القهوة على الرصيف الحجري وعلى بعد أميال من مول كفرسوسة في دمشق، الشابة سلوى، 26 عاما لتبيع القهوة وغيرها من المشروبات الساخنة بهمة ونشاط لا ينقطعان طوال ثلاث عشرة ساعة من العمل. تبدأ سلوى عملها منذ الساعة التاسعة صباحا. وتصل إلى المنطقة التي اختارتها لتضع فيها آلة القهوة على دراجتها الهوائية قادمة من منزلها في منطقة الزاهرة.

تكافح سلوى كما أقرانها الشباب الذين يواجهون الصعوبات الاقتصادية في البلاد وتشغلهم هموم الحياة لتأمين قوت يومهم الذي يحتاج لكثير من الجهد والروية والإصرار. يبدو أن ثمة مِهنٌ أخرى ما زالت الأزمة السورية ستكشف عنها في الفترات المقبلة مع تدهور الوضع الاقتصادي الذي ليس هناك ما يؤشر بوجود تحسّن أو انفراجة فيه. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات