منذ بدء عام 2018، وتحديدا عندما أوغلت تركيا في تدخلاتها الدولية انطلاقا من سوريا في الشرق إلى ليبيا في الغرب وعقدها تحالفا مع روسيا، تواجه أنقرة أزمة اقتصادية خانقة، تهدد استقرارها وأمنها وسيادتها؛ والسبب الرئيسي لهذه الأزمة بلغة الأرقام هو سياسة الرئيس رجب طيب أردوغان النقدية، التي تقوم على خفض معدلات الفائدة بشكل متكرر، والتي بنظره تهدف إلى تحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات والإنفاق. 

لكن هذه السياسة أثبتت فشلها في تحقيق أهدافها، وبدلا من ذلك، أدت إلى ارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، وانخفاض قيمة الليرة التركية إلى مستويات متدنية، وزيادة عجز الموازنة والدين العام، وتدهور مؤشرات الثقة والإنتاجية. بعد أن كان الاقتصاد التركي يُعتبر من أكثر الاقتصادات نموا في المنطقة.

مكتب الإحصاء التركي في أحدث تقاريره أشار إلى أن معدلات التضخم السنوية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغت 58.9 بالمئة خلال الشهر الماضي، مقارنة بـ 48 بالمئة في تموز/يوليو الفائت. ومن المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 60 بالمئة في الربع الثاني من عام 2024؛ وهنا تثار التساؤلات حول تقييم السياسة النقدية الحالية في تركيا وما هي تأثيراتها على الاقتصاد، وكيف سيؤثر ارتفاع التضخم على حياة المواطنين الأتراك.

انتكاسة السياسة النقدية

هذه الأزمة تأتي في سياق سياسة نقدية جديدة تتبعها تركيا، مما زاد من معاناة المستهلكين وأثر سلباً على مستقبل الاقتصاد التركي. فعلى الرغم من تطمينات المسؤولين بأن هذه الفترة هي مجرد مرحلة مؤقتة قبل تحقيق هدفهم في خفض معدل التضخم إلى أدنى مستوى ممكن هذا العام، إلا أن الحقيقة تظهر تحدّيا هائلا أمام البنك المركزي التركي، الذي يسعى جاهدا للتصدي لأزمة تكلفة المعيشة بزيادة أسعار الفائدة.

رغم قيادة حفيظة أركان لـ”المركزي” التركي، إلا أنه وعلى أساس شهري، بلغت الزيادة في أسعار المستهلكين حوالي 9.1 بالمئة، وهي نسبة أعلى بكثير من المتوقع، فيما صعد مؤشر التضخم الأساسي الذي يستثني البنود ذات الأسعار المتقلبة بنحو 64.9 بالمئة.

كما صعدت كلفة المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية، التي تشكل حوالي ربع مكونات مؤشر التضخم، بنسبة 72.9 بالمئة على أساس سنوي في آب/أغسطس الفائت، مقارنة بنحو 60.7 بالمئة خلال تموز/يوليو.

رغم تجديد أردوغان لفريقه الاقتصادي بتعيين وزير المالية محمد شيمشك ومحافظة البنك “المركزي”، حفيظة غاية أركان؛ ورفع “المركزي” أسعار الفائدة ثلاث مرات إلى 25 بالمئة، إلا أن الليرة تكبدت ثاني أكبر تراجع في قيمة عملات الأسواق الناشئة منذ بداية 2023، وضخمت تأثير الزيادات الضريبية الأخيرة التي أعلنتها الحكومة لتمويل عجز الميزانية المتزايد على الأسعار.

منذ استلام أردوغان الرئاسة بصلاحيات شبه مطلقة في 2018، انخفض الاقتصاد التركي بشكل ملحوظ، فطبقا للأرقام التي توفرها الحكومة التركية تقلص الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 125 مليار دولار خلال العامين الماضيين، وفقدت الليرة التركية نحو 45 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار منذ 2018.

ليس ذلك فقط، بل ارتفع معدل البطالة بنسبة 26.7 بالمئة منذ 2018، وانخفضت حصة رأس المال الأجنبي في البورصة إلى أقل من 50 بالمئة لأول مرة منذ 16 عامًا، كما بلغ العجز التجاري التركي 40.2 مليار دولار خلال الـ 10 أشهر الأولى من 2020، بنسبة ارتفاع 62 بالمئة على أساس سنوي، وارتفع معدل التضخم السنوي إلى أكثر من 21 بالمئة في تركيا، بسبب خفض البنك “المركزي” أسعار الفائدة من 16 إلى 15 بالمئة.

تقلب أردوغان ضرب الاقتصاد

السياسة النقدية الحالية في تركيا بقيادة أركان هي سياسة تقوم على رفع أسعار الفائدة بشكل كبير ومتكرر، وهي عكس رغبة الرئيس أردوغان، الذي يعتقد أن ذلك سيحفّز النمو الاقتصادي ويخفّض التضخم. ولكن هذه السياسة لم تحقق النتائج المرجوة، بل على العكس، أدت إلى تدهور الاقتصاد التركي وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية.

تأثيرات سياسة أردوغان على الاقتصاد التركي كانت سلبية جدا، فقد انخفضت قيمة الليرة التركية بشكل كبير مقابل العملات الأجنبية، ما زاد من تكلفة الواردات والديون الخارجية. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية والطاقة والإسكان بشكل ملحوظ، ما أثّر على مستوى المعيشة والقدرة الشرائية للمواطنين. وأصبحت تركيا تواجه مخاطر اقتصادية كبيرة، مثل عجز الموازنة والحساب الجاري وانخفاض احتياطياتها من العملات الصعبة. أيضا تضررت ثقة المستثمرين والأسواق في استقرار ونمو الاقتصاد التركي.

السياسة النقدية بحسب الخبير الاقتصادي، والعضو السابق في البنك الدولي، مارتن راما، هي مجموعة الإجراءات التي يتخذها البنك “المركزي” للتحكم في كمية المال والفائدة في الاقتصاد. وتهدف السياسة النقدية إلى تحقيق أهداف مثل النمو الاقتصادي، والتوظيف، والاستقرار السعري، والتوازن في مدفوعات الخارج. وحاليا تؤثر السياسة النقدية على استقرار العملة التركية وسوق الصرف بطرق مختلفة.

طبقا للدورة العادية فمن المفروض طبقا لحديث راما لـ”الحل نت”، إذا رفع “المركزي” سعر الفائدة، فإن ذلك يجعل الليرة التركية أكثر جاذبية للمستثمرين، لأنهم يحصلون على عائد أعلى على أموالهم؛ وهذا يزيد من الطلب على الليرة، وبالتالي يرفع قيمتها مقابل العملات الأخرى. وبالعكس، إذا خفض “المركزي” سعر الفائدة، فإن ذلك يجعل الليرة التركية أقل جاذبية للمستثمرين، لأنهم يحصلون على عائد أقل على أموالهم؛ وهذا يقلل من الطلب على الليرة، وبالتالي يخفض قيمتها مقابل العملات الأخرى.

فضلا عن ذلك، إذا زاد كمية المال في التداول، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة التضخم، أي ارتفاع مستوى أسعار المستهلك، وهذا يقلل من قوة شراء المواطنين، ويضعف قدرتهم على شراء المنتجات والخدمات من الخارج، وأيضا يزيد من عجز موازنة التجارة، ويضغط على احتياطات تركيا من العملات الأجنبية، وبالتالي يخفض ثقة المستثمرين في اقتصاد تركيا، ويزيد من تخوفهم من انخفاض قدرة تركيا على سداد ديونها بالعملات الأجنبية، وبيع المستثمرون لأصولهم بالليرة التركية، وشراء أصول بالعملات الأجنبية، وهذا يزيد من العرض من الليرة، وبالتالي يخفض قيمتها مقابل العملات الأخرى.

الحالة التركية وفقا لتحليل راما، هو أن “المركزي” التركي اتبع سياسة نقدية متقلبة أو غير متناسقة، وزاد من عدم اليقين والمخاطر في السوق، وهذا جعل المستثمرين يتوقعون تغيرات كبيرة في سعر الصرف، ويحاولون التكيف معها بشكل متسرع، هذا بدوره أدى إلى تقلبات حادة في سعر الصرف وصعوبة التنبؤ بها مما ضرّ بالتجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي.

بداية حقبة مميتة

ارتفاع التضخم بحسب راما، يقلل من مستوى المعيشة للمواطنين، ويزيد من فقرهم وإحباطهم؛ وهذا يخف ض من شعبية الحكومة والقيادة السياسية التركية، ويزيد من احتمالية الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية ضدها؛ ما يهدد بزعزعة الأمن والنظام في البلاد، ويضعف من قدرة الحكومة على تطبيق سياساتها وإصلاحاتها.

كما أن ارتفاع التضخم يزيد من التوترات بين الحكومة والبنك “المركزي”، وبين الأحزاب والجماعات المختلفة في المجتمع؛ وطبقا للحالة التركية فإن هناك صراعات سياسية وانقسامات اجتماعية في الأفق، وهذا يُضعف من التوافق والديمقراطية في البلاد، ويزيد من خطر التدخلات الخارجية أو الانقلابات الداخلية كما حدث سابقا.

علاوة على ذلك، فعلى المستوى الدولي فإن ارتفاع التضخم يؤثر على مصداقية تركيا ويزيد من عزلتها وضغوطها. وهذا يصعّب من قدرة تركيا على المفاوضات والتعامل مع شركائها وخصومها.

بالعودة على صعيد الاقتصاد الداخلي، فإن انخفاض قيمة الليرة التركية يجعل المنتجات التركية أرخص للسوق الدولية، مما يزيد من قدرة تنافسية تركيا في التجارة، وهذا قد يفتح فرصا جديدة للتعاون والشراكة مع دول أخرى، خاصة في المنطقة. ولكن هذا أيضا يزيد من التوترات مع بعض الدول التي تشعر بالتهديد من المنافسة التركية، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، وقد يؤدي ذلك إلى فرض عقوبات أو قيود تجارية على تركيا، مما يضر بمصالحها الاقتصادية.

فضلا عن ذلك، فإن ارتفاع مخاطر الدين الخارجي يجعل تركيا أكثر اعتمادا على المساعدات والقروض من دول أخرى، خاصة من دول صديقة مثل دول الخليج، ولا سيما قطر والإمارات والصين، وبالتالي هذا يزيد من نفوذ هذه الدول في شؤون تركيا، ويقيدها في سياساتها الخارجية، وهي على عكس ما كان يلوّح به أردوغان باستقلالية بلاده.

هذه الأزمة تضع البنك “المركزي” التركي في موقف صعب وفق تحليل راما، بين الحفاظ على استقلاليته والتمسك بسياسة نقدية متشددة لمواجهة التضخم، أو الانصياع لضغوط الرئيس أردوغان والتخلي عن سياسة نقدية متساهلة لدعم النمو، هذا قد يؤدي إلى تغييرات في قيادة وسياسات “المركزي”، وزيادة عدم اليقين والمخاطر في السوق.

في عالم يعصف به الاقتصادات وتحدياتها بصورة غير مسبوقة، يأخذ الاقتصاد التركي مركزا مهما في عناوين الأخبار والتحليلات العالمية، فلا يمكن تجاهل الواقع الصعب الذي يعيشه الأتراك حيث ترتفع أسعار المستهلكين بوتيرة غير مسبوقة، ويتسع هاوية الأزمة الاقتصادية؛ وباتت سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان النقدية مصدرا للقلق والتساؤلات، والآن يبدو أنها تشعل نار التضخم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات