في التاسع من آب/أغسطس الفائت، قال الرئيس السوري بشار الأسد، في مقابلة مع قناة “سكاي نيوز عربية”، حول عودة العلاقات مع بعض العواصم العربية، إنه لا يعتقد أن العلاقات العربية السورية تغيرت بالعمق، فهناك بداية وعي لحجم المخاطر التي تؤثر على الدول العربية لكنها لم تصل إلى مرحلة وضع الحلول، وطالما أنه لا توجد حلول للمشاكل، فإذا العلاقة ستبقى شكلية.

هذه الكلمات فُسّرت على أنها رسالة من الأسد بعدم قبوله لشروط أو مخرجات الاجتماعات التي أدت إلى عودة سوريا إلى “الجامعة” العربية، والتي تمحورت أبرز بنودها حول إنهاء تهريب المخدرات عبر سوريا، وتنفيذ شروط سياسة متوافقة مع القرار 2245، والتمهيد لعودة اللاجئين السوريين.

خلال هذه الفترة، وتحديدا منذ أيار/مايو وحتى اليوم، دأب الأسد على تكثيف علاقته مع حلفائه التقليديين، فيما بقيت المتطلبات العربية مصطفة في الدرج الأخير لمكتبه، ولكن مع وصوله إلى بكين في زيارة رسمية وبدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ، يطرح السؤال نفسه ماذا تريد الصين من بشار الأسد. 

هذا السؤال يطرح نفسه بقوة بعد وصول الأخير إلى بكين، اليوم الخميس، في أول زيارة رسمية له منذ عام 2003، وفي وقت تحاول دمشق الخروج من العزلة الدولية والحصول على دعم لإعادة إعمار بلاده ولكن ليس عبر العرب الذين طرحوا شروطا لا توائم تطلعتها. 

لم شمل المعزولين

زيارة بشار الأسد إلى الصين لم تكن مفاجئة على غرار زياراته السابقة لعدة دول مثل سلطنة عُمان والإمارات وروسيا وإيران، إذ تسربت أنباء هذه الزيارة على غير العادة قبل أسبوع من الإعلان عنها، وهذا يشير إلى أن هناك رسائل سياسية من وراء هذا التسريب.

الرئاسة السورية أعلنت أن زيارة الأسد هي تلبية لدعوة الرئيس الصيني، إلا أنه لا توجد دعوة رسمية من الرئيس الصيني لبشار الأسد لعقد قمة ثنائية لمناقشة أمور ثنائية، بل هي دعوة لحضور دورة الألعاب الآسيوية المشارك بها وفد من حكومة دمشق، حيث وجّه رئيس الصين خلال الفترة الماضية دعوات للرؤساء في آسيا لحضور دورة الألعاب الآسيوية، ومن ضمن تلك القائمة تمت دعوة الأسد، وتضمنت الدعوات جميعا لقاءا ثنائيا مع الرئيس الصيني والذي سيُقيم مأدبة ترحيب وأنشطة ثنائية للقادة الأجانب.

الصين، وهي ثالث دولة غير عربية يزورها الأسد منذ عام 2011، تعتبر حليفا استراتيجيا لحكومة دمشق، والتي استخدمت حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي 16 مرة لمنع أي عقوبات أو تدخل عسكري ضد بشار الأسد، ترى في هذه الزيارة فرصة لتعزيز موقعها في المنطقة و توسيع مشروعها الطموح “الحزام والطريق” الذي يهدف إلى ربط آسيا وأوروبا وإفريقيا بشبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ والأنابيب.

بعد أن عاد إلى العزلة الدولية بسبب عدم تنفيذ الاتفاقيات التي وقّعتها دمشق مع الدول العربية، والتي عاشها سابقا لسنوات بسبب سياساته، يحاول بشار الأسد العودة إلى الواجهة العالمية بزيارة مهمة إلى الصين، حليفته القوية التي تحميه من أي عقاب أو تدخل في مجلس الأمن.

الزيارة التي تستغرق أسبوعا، لم يتم الإعلان عن جدول أعمالها رسميا، لكنها تشمل محطتين رئيسيتين؛ هانغتشو وبكين، ويرافق الأسد في رحلته زوجته أسماء ووفد من كبار المسؤولين السياسيين والاقتصاديين، ويتوقع أن يلتقي بالرئيس الصيني شي جين بينغ وغيره من القادة الصينيين، كما سيشارك الأسد في افتتاح الألعاب الآسيوية في هانغجو، وهي مناسبة رياضية تجمع بين دول آسيا وتعكس النفوذ الصيني في القارة.

في ظل تزايد نفوذها في الشرق الأوسط، تسعى الصين إلى إشراك سوريا في مشروعها “الحزام والطريق”، الذي يربط بين القارات الثلاث بشبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ والأنابيب، والذي يُعد أحد أهم ركائز الاستراتيجية الصينية لتوسيع نطاق نفوذها وتأمين مصالحها الاقتصادية، وذلك عبر السيطرة على مشاريع البُنى التحتية والاستثمار في سوريا.

سوريا انضمت إلى هذا المشروع في عام 2022، ووقّعت عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع الصين في مجالات الطاقة والاتصالات والزراعة والتعليم، لكن على الصعيد الدبلوماسي، تأتي استضافة الأسد ضمن برامج الحزب “الشيوعي” الصيني، في دعوة قادة وممثلين عن دول وحركات تواجه صعوبات أو عقوبات من الغرب، مثل بيلاروسيا وأفغانستان وفنزويلا.

زيارة الأسد تأتي مع إعلان “الكرملين” عن زيارة مرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين في تشرين الأول/أكتوبر القادم، في إشارة إلى تقارب بين الحليفين اللذين يدعمان الأسد عسكريا وسياسيا، حيث تواجه روسيا ضغوطا وعقوبات من الغرب بسبب تدخلها في أوكرانيا ودعمها للانفصاليين هناك.

الانسحاب إلى مصادر الأموال

الإدارة الأميركية الحالية أجرت خلال الأسابيع الماضية إعادة تقييم للأوضاع في سوريا، ويبدو أن إعادة تقييم الوضع الذي شاركت فيه وزارتا الدفاع والخارجية ومجلس الأمن القومي، أوصل الأميركيين إلى إعادة تبنّي سياساتهم في سوريا من دون تغيير، ما يشير إلى حدّ كبير إلى أن المساعي الكثيرة التي بذلتها أطراف إقليمية ودولية تصطدم بقناعة واشنطن أن الحكومة السورية لم تتغيّر، وليس بوارد تغيير ممارساتها.

هذا التقييم جاء بعد أيام من كشف مصادر دبلوماسية عن تجميد اجتماعات اللجنة الوزارية العربية مع دمشق، بسبب عدم التزامها بمخرجات اجتماعي “عمّان التشاوري وجدّة”.

لكن بالعودة إلى زيارة الأسد الذي يصرّ على ضرورة إرسال أموال المساعدات الدولية وإعادة الإعمار من أجل تقديم أي تنازلات، فإن هذه الزيارة تأتي تتويجا للاتفاقيات التي خص الصين بها خلال عام 2023، حيث شهد هذا العام على غير العادة توقيع العديد منها، ويرجح أن زيارته من أجل الاتفاق على خط ائتماني جديد على غرار ما حدث مع إيران.

وفقا لما أعلنت عنه دمشق فقد وقّعت اللجنة المشتركة السورية الصينية حوالي 28 اتفاقية فقط منذ بداية العام الجاري، من ضمنها اتفاقية للتعاون في مجال الطاقة والموارد الطبيعية، وتتضمن تنفيذ مشاريع لاستغلال النفط والغاز والمعادن والمياه في سوريا، وتقديم مساعدات فنية ومالية وتدريبية من الصين.

كذلك كانت هناك اتفاقية للتعاون في مجال البنية التحتية والنقل، تتضمن إعادة إعمار وتحديث الطرق والجسور والموانئ والمطارات والسكك الحديدية والاتصالات في سوريا، وتوفير معدات وتكنولوجيا وخبرات من الصين، واتفاقية للتعاون في مجال الصحة والتعليم، تتضمن تأهيل وتجهيز المستشفيات والمراكز الصحية والمختبرات والمدارس والجامعات في سوريا، وتقديم مساعدات طبية وتعليمية وبشرية من الصين.

بالإضافة لاتفاقية للتعاون في مجال الزراعة والثروة الحيوانية، تتضمن تطوير وتحسين الإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي في سوريا، وتقديم بذور وأعلاف وأسمدة ولقاحات وتقنيات حديثة من الصين، واتفاقية للتعاون في مجال الثقافة والسياحة، تتضمن ترميم وحماية المواقع والآثار الثقافية والتاريخية في سوريا، وتقديم دعم فني و مادي ولوجستي من الصين، واتفاقية للتعاون في مجال التجارة والاستثمار، تتضمن تسهيل وتنشيط التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين، وتقديم تسهيلات وحوافز وقروض وتأمينات من الصين.

أما الاتفاقيات التي وقّعها مجلس الأعمال السوري الصيني في عام 2023، والتي كانت آخرها في الأول من آب/أغسطس الفائت، فتضمنت اتفاقية لتنشيط النقل البحري والجوي بين البلدين، ودعوة بكين لتشغيل رحلات جوية بين بكين ودمشق، وتعزيز التعاون على الصعيد المالي، وطرح إمكانية اعتماد آلية التبادل التجاري بالعملات المحلية من المصارف العاملة في البلدين، ومتابعة تنفيذ اتفاقيات المنح الموقعة مع الصين وبما يضمن تأمين احتياجات دمشق ذات الأولوية.

الهدف الرئيسي للصين

بالرغم من أن المشهد الأول لدعوة بكين للأسد هو تعزيز مكانته دوليا وتوسيع مشروع “الحزام والطريق”، إلا أنه بحسب حديث الصحفية والباحثة في الشأن السياسي، أية عويس، لـ”الحل نت”، من المحتمل أن تلعب الصين دورا جديدا في العلاقات مع دول الشرق الأوسط بطرق مختلفة، حسب موقف كل دولة من الأزمة السورية ومن الصين نفسها.

الصين تسعى إلى كسب تأييد بعض الدول التي قد ترحب بالزيارة كإشارة إلى دعم الصين للحل السياسي والحوار في سوريا، وكفرصة لتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري مع الصين في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وأيضا توجيه رسالة لبعض الدول التي قد تنظر بقلق إلى الزيارة كتعبير عن تقارب بين الصين وإيران، اللتان تعتبران حليفتين استراتيجيتين لدمشق.

أبرز العوامل التي تعتمد عليها الصين في تقديم خط ائتماني لدمشق، من خلال الحصول على الحصة السوقية التي تقاسمتها إيران وروسيا، والتي مهدت لها عبر الاتفاقيات التي وقِّعت هذا العام، بهدف ربط الصين بأسواقها التقليدية في آسيا وأوروبا وإفريقيا عبر سوريا، خصوصا بعد الإعلان عن خط الهند – أوروبا مؤخرا والذي ضرب طموحات “الشيوعي” الصيني.

علاوة على ذلك، تسعى بكين من خلال استضافة الأسد إلى تعزيز النفوذ الصيني في المنطقة، وتعزيز دور دمشق التي تعد الآن مصدر إزعاج للعديد من الدول، وذلك في إطار مواجهة السياسات الأميركية والغربية التي فرضت نفسها باتفاقية قمة “العشرين” على الشرق الأوسط.

طبقا لتوقعات عويس، لا تريد بكين حلّ الأزمة السورية لأن في ذلك ضربا لمصالحها، فالبرغم مما تعانيه سوريا منذ أكثر من عقد إلى الآن، إلا أن ذلك يخدم مصالح “الشيوعي” الصيني في المنطقة، فتعزيز موقف دمشق وحلفائها الإيراني والروسي، وتقديم دعم سياسي واقتصادي ودبلوماسي لهم، تمكنها من تحقيق أهدافها الاقتصادية بأقل التكاليف.

زيارة الأسد إلى الصين، بنظر عويس ستخلق توترات وتنافسات جديدة بين الصين والولايات المتحدة والغرب في الشرق الأوسط، وتزعزع التوازن القائم بين القوى الكبرى في المنطقة، وتفتح المجال لحدوث صراعات أو تحالفات جديدة.

لذلك من المحتمل أن تكون هناك تطورات في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا بعد زيارة الأسد إلى الصين، ولكن ليس بشكل كبير أو جذري، فالولايات المتحدة لا تزال تعتبر الأسد مسؤولا عن الحرب الأهلية في سوريا، وتدعم المعارضة السورية، وتفرض عقوبات اقتصادية على حكومة دمشق، وتطالب بحل سياسي يضمن انتقالا ديمقراطيا في سوريا.

أما حول ردود الفعل المتوقعة من دول الشرق الأوسط بشأن زيارة الأسد إلى الصين، فترى عويس أنها تختلف باختلاف مواقف هذه الدول من الأزمة السورية ومن الصين نفسها، فبعض الدول قد ترى في الزيارة فرصة لتحسين العلاقات مع الأسد، وللمشاركة في إعادة إعمار سوريا، وللتعاون مع الصين في مشروع “الحزام والطريق”، والبعض الآخر سينتقد الزيارة ويعتبرها تقريبا بين الأسد والصين، وتهديدا لمصالحها وأمنها، وتعزيزا للمحور الإيراني والروسي في المنطقة.

هذه الزيارة تأتي في ظل تغيرات كبيرة في سياسة الدول العربية والولايات المتحدة تجاه سوريا، فبينما تقوم الإدارة الأميركية الحالية بإعادة تقييم سياستها، وأنها ترفض “التطبيع” مع حكومة دمشق، يبدو أن الصين استغلت ذلك لفتح ذراعيها للأسد من أجل تحقيق مصالحها التي ضربها مشروع الربط الهندي – الأوروبي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات