زواج “الفصل أو الفصلية” أو “الديّة” أو “الدكة” بسوريا، هذا المصطلح الذي يبدو مألوفا للكثيرين وخصوصا لدى العشائر، لكن وراءه يكمن واقعٌ مرير ومعاناة تعجز الكلمات عن وصفها بالكامل، إنها قصة تجمع بين قسوة قوانين المجتمع وتضحيات النساء في سوريا.

“زواج الفصل”هو مصطلح يعبّر عن واقع مروّع تتعرض له النساء السوريات في بعض المناطق الريفية والعشائرية في سوريا، يتم في هذه الممارسة زواج الفتيات بقسر من أعدائهم أو أفراد من عشيرة أخرى بهدف وقف الصراعات والحروب العشائرية ولوقف نزيف الدماء، وهذه الممارسة تعيدنا إلى القرون الوسطى وتجبر النساء على تحمّل عبء تقديم أنفسهن ضحية لتصفية الدماء.

رغم كل القوانين والتشريعات التي منعت مثل هذه الممارسات وشددت على المحاسبة بموجبها، إلا أنها ما زالت مستمرة وتواجه تحديات كبيرة، حيث تُستخدم المرأة كقربان لفضّ كثيرٍ من النزاعات ولنزع فتيل حروب محتدمة بين العشائر.

إهانة للمرأة والعشيرة

“زواج الفصل”، هو إهانة للمرأة والعشيرة لأنه يجعل المرأة كأنها سلعة تُباع وتُشترى، ويحرمها من حريتها واختيارها وكرامتها، وهذا الزواج يسبب أيضا معاناة نفسية واجتماعية للمرأة وأولادها، ويزيد من العنف الأُسري والانتحارات، وهذا الزواج لا يحلّ الخصومات العشائرية، بل يزرع الحقد والكراهية بين الأطراف المتنازعة.

عادة ما يجري هذا الزواج لدى العشائر السورية، لحقن الدماء بين العشائر، فيقضي الأمر بتزويج امرأة من عشيرة إلى رجل من عشيرة أخرى بهدف التهدئة بينهما والمصالحة وسدّ الطريق أمام المشاحنات والخلافات، وما زال هذا العُرف منتشرا في بعض مناطق سوريا من الشمال حتى الوسط والجنوب، وعلى امتداد انتشار العشائر التي تتّبعه في البلاد.

هذا العُرف العشائري الذي أُعيد تكراره في درعا الأسبوع الفائت بين عشيرتي الزعبي والرفاعي ضحيته المرأة فقط، حيث ليس بإمكان كثيرات الاعتراض، أو النجاة من قرار أهاليهنّ وذويهنّ تزويجهنّ من أعدائهم، فبموجب هذا الاتفاق تصبح المرأة زوجةً قانونا وشرعا، إلا أنها تتعرض غالبا لمعاملة مهينة باعتبارها مجرد ثمن مقبوض، دون أن تملك حقا في الاعتراض أو طلب الطلاق، وحتى إنها تُجرّد غالبا من جميع حقوقها.

رغم البحث المتعمق الذي أجراه “الحل نت”، إلا أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن عدد زيجات “الفصل” العشائرية في سوريا خلال العشرين سنة الفائتة، لكن بعض التقارير الإعلامية والحقوقية تشير إلى أن هذه الظاهرة ما زالت منتشرة في بعض المناطق الريفية والعشائرية، خاصة في محافظات إدلب وحلب ودرعا والرقة ودير الزور.

كما أن هذه الظاهرة تفاقمت بسبب الحرب والفقر والنزوح والتشرد والضعف الأمني والقانوني، وقد أدانت العديد من المنظمات الحقوقية والنسوية هذا النوع من الزواج، وطالبت بوقفه وإنقاذ الفتيات من براثن العادات والتقاليد العشائرية المجحفة، لكن دون جدوى.

فنون التزويج أو الاغتصاب المبطن

المحامية والصحفية رهادة عبدوش، أوضحت أن هناك العديد من الزيجات التي تتفنن بها العشائر في سوريا، وفي جميع هذه الزيجات المرأة هي الضحية الأولى والأخيرة، على الرغم من أن القانون السوري يشترط في صحة عقد الزواج توفر الرضا وعدم وجود إكراه.

عدا زواج “الفصل” هناك زواج “النهوة” العشائرية، حيث يُستخدم لمنع المرأة من الزواج برجل آخر ضمن عُرف عشائري قديم يفرضه على الفتاة عمها أو ابن عمّها، أما زواج “الحيار” التي تشتهر بها المناطق الشرقية من سوريا، يتم فيه تحيير ابن العم لابنة عّمه، فتصبح الأخيرة مقيدة له إلى أن تموت، وممنوع عليها أن تتزوج غيره.

من الزيجات القسرية أيضا، “زواج البدائل”، حيث يُلزم ولي أمر العروس عريسها بأن قبوله كصهر للعائلة يتطلّب شرطا أساسيا، وهو أن يتزوج أخ العروس من أخت العريس أو العكس، كنوع من المقايضة، أما عادة “قطش الردن”، فتعني إن كان المولود الجديد فتاة، يقوم شخص بقص قطعة من لباس الفتاة، ثم يقف وسط الجميع ويقول لوالديها “جيّرناها لولدنا فلان”، أي أنها أصبح ممنوعا عليها الزواج من أي رجل سوى الذي سمّاه. 

فيما يتعلق بمفهوم “عقد الشليل” أو “عقد الثوب”، ينطوي على ولي أمر العريس جلوسه على الأرض مع ركبتيه ملتصقتين بركبتي ولي أمر العروس، ثم يمسك ولي العريس بطرف منديله أو ثوبه ويقوم بعقده بشكل يصعب فكّه، ثم ينطق بجملة تعبّر عن تأكيده على الارتباط الزوجي، كقوله “عقدت شليلك، وبخنتك ما تردني”، ويُعتبر هذا العقد اتفاقا جدّيا وصعب الرّد عليه في ثقافة العشائر، وبعد ذلك يتم تنفيذ رغبة ولي الأمر بتزويج ابنته للشخص الذي تم اختياره لهذه المهمة.

تسليم النساء ثمنا لإنهاء نزاع عشائري

وفقا للإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، يُفهم العنف ضد المرأة بأنه “يشمل العنف الجسدي والجنسي والنفسي الذي يحدث في الأسرة، بما في ذلك الاعتداء الجنسي على الأطفال الإناث داخل الأسرة، وكذلك العنف المرتبط بالمهور والاعتداء الجنسي من قبل الزوج وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، وغيرها من الممارسات التقليدية الضارة ضد المرأة، بالإضافة إلى العنف غير الزوجي والعنف المرتبط بالاستغلال”.

كما تنص اتفاقية حقوق الإنسان العالمية، فإن لكل فرد حرية مطلقة في اختيار شريك حياته دون قهر أو إكراه، وهذا الحق جوهري وغير قابل للتنازل.

بالإضافة إلى ذلك، تعرِّف اتفاقية “السيداو” وهي اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التمييز بأنه أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس، والتي من نتائجها وأغراضها تقليل اعتراف المرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، وهذا يتعارض بشدة مع مبدأ تساوي الرجل والمرأة في جميع الميادين.

تسليم النساء ثمنا لإنهاء نزاع عشائري، هو موضوع مثير للجدل في سوريا، هذه الممارسة تعني أن العشيرة المتسببة في النزاع تقدم امرأة أو أكثر من بينها للعشيرة المتضررة كديّة أو تعويض عن الدماء المسفوكة، وهذه النساء تسمَّى الفصليات، وتصبح زوجات قانونية وشرعية لرجال من العشيرة الأخرى، دون رضاهن أو اختيارهن. 

هذه النساء ضحية للأعراف العشائرية، يتعرضن للإهانة والاضطهاد والعنف، ويفقدن كل حقوقهن وكرامتهن، وهذه الممارسة تخالف القانون السوري والشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان، وتهدد النسيج المجتمعي والسّلم الأهلي في سوريا، ورغم ذلك لم تجد لها السلطات الرسمية أو سلطات الأمر الواقع حلّا حتى الآن.

على الرغم من المدنية والقوانين والتشريعات التي تسعى لحماية حقوق المرأة، إلا أن “زواج الفصل” يبقى تحدّيا كبيرا، إذ إنه ليس فقط مشكلة انتهاك حقوق الإنسان، بل هو أيضا تهديد للسلام والاستقرار في المنطقة، واستمراره يزيد من احتمالية انتحار النساء في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات