يجد المتابع لمسار التنظيمات الإسلاموية سواءً المنخرطة في المجال السياسي والعام في بعض البلدان، أو تلك التي انتهجت العنف والإرهاب كأداة للتغيير وتطبيق رؤيتها المتطرفة والسعي لفرضها على المجتمعات، أن حالة الانقسام والتشرذم والصراع تكون حاضرة بين الحين والآخر، وتطغى على التفاعلات الداخلية الخاصة بهذه التنظيمات، لكن ظهور هذه الحالة يتوقف على الأرجح على وجود سياقات محفّزة لها.

ويمكن وضع إطار تفسيري لهذه الحالة عبر النظر إلى اعتبارين رئيسيين، الأول يتمثل في وجود سياقات سياسية محلية وربما إقليمية وعالمية تدفع باتجاه التضييق على هذه التنظيمات بما يولّد أزمات داخلية عميقة، والثاني يرتبط بالبنية الداخلية لهذه الحركات، سواءً البنية الفكرية أو التنظيمية، فعلى مستوى البنية الفكرية تقوم هذه التنظيمات على تنوّعها واختلافها على فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة، والدوران في فلك سرديات منغلقة على نفسها، ويُغلق الباب أمام أي اجتهاد أو تجديد أو مراجعة.

ومع سيادة هذا النمط يُنظر من صقور الجماعات الإسلاموية إلى أي طرح مختلف على أنه نوع من الرّدة أو الخيانة، وتعبّر المقولة المتداولة لدى تنظيم “الإخوان المسلمين” (الدعوة تطرد رجسها) عن ذلك بشكل واضح، في إشارة إلى رفض العناصر أو الأطروحات التي تختلف مع رؤية قيادة التنظيم، وبالنسبة للبنية التنظيمية سنجد أنها قائمة في كافة الأحوال على اعتبارات معيّنة تغيب عنها أي شفافية أو موضوعية وتخضع لتوازنات القوة داخل هذه التنظيمات، وكلّها اعتبارات تدفع باتجاه تفجّر الانقسامات داخل الحالة الإسلاموية، إلى الحدّ الذي قد يترتب عليه انشطار التنظيم الواحد، أو ميلاد تنظيمات جديدة من رحم التنظيم الأم.

شهدت جماعة “الإخوان المسلمين” والتي تُعد أقدم حركات الإسلام السياسي في المنطقة انقسامات لا تزال مستمرة حتى اللحظة بين جبهتين إحداهما في لندن والأخرى في إسطنبول.

وقد شهدت السنوات الأخيرة العديد من المؤشرات التي أكدت على الافتراض السابق، فقد شهد تنظيم “داعش” الإرهابي خلافات كبيرة كان أبرزها بين الاتجاهين المعروفين بـ”التيار البنعلي” نسبةً إلى المنظّر الداعشي، تركي بن مبارك البنعلي، و”التيار الحازمي” نسبةً إلى أحمد بن عمر الحازمي، وفي نفس السياق شهدت جماعة “الإخوان المسلمين” والتي تُعد أقدم حركات الإسلام السياسي في المنطقة انقسامات لا تزال مستمرة حتى اللحظة بين جبهتين إحداهما في لندن والأخرى في إسطنبول، تدّعي كلّ منهما احتكارها شرعية قيادة الجماعة، وعلى نفس المنوال شهدت العديد من التيارات المحسوبة على الإخوان في المنطقة انقسامات مشابهة ومنها “حزب العدالة والتنمية المغربي”، وحركة “النهضة” التونسية، وعلى مستوى تنظيم “القاعدة” بدأت الانقسامات تعصف بـ”حركة شباب المجاهدين” الصومالية، والتي تُعد أهم الأفرع القاعدية حاليا، إثر صراع على زعامة الحركة بين قادة الصف الأول في الجماعة التي تمثّل التّحدي الأبرز بالنسبة للدولة الصومالية.

“الشباب” الصومالية وقصة الانقسام

تٌعد “حركة الشباب الصومالية” واحدة من أهم وأقوى الأفرع الخاصة بتنظيم “القاعدة” الإرهابي، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية ومنها الموارد المالية الضخمة التي تحظى بها الجماعة، فضلا عن تموضعها القوي في الدولة الصومالية وسيطرتها على العديد من المناطق الحيوية خصوصا في وسط وجنوب الصومال، إلى الحدّ الذي جعلها تمثّل المعضلة الأكبر بالنسبة للدولة الصومالية في السنوات الأخيرة، حتى أن بعض الدوائر تنظر إليها على أنها العائق الأهم أمام إعادة بناء الدولة الصومالية، إلا أن الأشهُر الأخيرة وعلى وجه الخصوص منذ وصول الرئيس حسن شيخ محمود، إلى سدُة الحكم، شهدت العديد من المتغيرات التي دفعت باتجاه آفول الحركة أو تراجعها.

 وقد كان آخر هذه المؤشرات هو ما أعلنته “وزارة الدفاع الصومالية” في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي من أن الحركة تشهد حاليا انقسامات إثر وجود فصائل تتنافس على القيادة، وأشارت الوزارة الصومالية إلى أن الصراع داخل “حركة الشباب” يدور بين فصيلين اثنين، الأول يتبع مهاد كاراتي المراقب المالي للحركة، والثاني هو زعيم الحركة  أحمد ديري الملقب بأبي عبيدة، الذي يتولى السيطرة على الجماعة منذ سبع سنوات بعد وفاة أحمد غودان، زعيم “جماعة الشباب” الذي قُتل بطائرة أميركية بدون طيار.

عناصر حركة “الشباب” الصومالية- “أسوشيتد برس/ محمد شيخ نور”

ولفتت الوزارة إلى أن مساحة الخلاف بين الفصيلين وصلت إلى حدّ حدوث اشتباكات بينهما في جيليب وهرجيسا ياري في جوبا الوسطى، وقالت الوزارة في بيانها، إن “الصراعات الداخلية تضرب حاليا حركة الشباب، وقد أدت الانقسامات إلى اندلاع مواجهات بين الفصيلين، مما خلّف خسائر فادحة في صفوف المسلحين”، معتبرةً أن “هذه الانقسامات تمثّل دفعة كبيرة لجهود مكافحة الإرهاب”.

كيف يمكن قراءة هذه الانقسامات؟

ترتبط أهمية الانقسامات التي تعصف بـ”حركة الشباب” وفق ما أعلنته الوزارة الصومالية، بمركزية الحركة نفسها، وأهميتها باعتبارها التنظيم القاعدي الأهم في الفترات الأخيرة.

هذا فضلا عن كون هذه الانقسامات تمثّل أحد العوامل الإيجابية التي قد تدفع باتجاه إعطاء دفعة قوية لجهود مكافحة الإرهاب، جنبا إلى جنب مع كونها أحد نتائج هذه الجهود.

ويمكن القول، إن ثمة جملة من الاعتبارات المهمّة التي يمكن في ضوئها تفسير الانقسامات الأخيرة التي شهدتها “حركة الشباب”، وهي الاعتبارات التي ترتبط بعضها بالبيئة الداخلية للحركة نفسها، وبعضها الآخر ببعض السياقات الموضوعية الخاصة بالحالة والمشهد الصومالي في الأشهر الأخيرة، وهي الاعتبارات التي يمكن تناولها على عدة محاور.

“الصراع على القيادة”

ككافة الانقسامات التي شهدتها الحركات الإسلاموية المتطرفة العنيفة في السنوات الأخيرة، فإن حالة الانقسام التي تشهدها “حركة الشباب الصومالية”، ترتبط في أحد أبعادها الرئيسية بالصراع على القيادة داخل التنظيم، وقد تفاقمت أزمة القيادة داخل “الشباب” منذ يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وهو اليوم الذي شهد مقتل القيادي بالحركة عبد الله نذير، إثر غارة جوية مشتركة بين القوات الصومالية والحلفاء الدوليين لها في إقليم جوبا الوسطى جنوب البلاد.

وقد ارتبطت أهمية العملية باعتبارين؛ الأول يتمثل في الأهمية والمكانة وطبيعة الوظائف التي كان يلعبها “نذير” إذ كان يمثّل القائد الفعلي للحركة في الصومال، وكان يشغل منصب مسؤول الدعوة في الحركة، بالإضافة إلى رئيس مجلس شورى الجماعة، ومسؤول شؤونها المالية، فضلا عن تمتّعه بعلاقات قوية مع الجماعات الإرهابية الأخرى في شرق إفريقيا.

أما الاعتبار الثاني، فيتمثل بالتداعيات التي ترتبت على وفاته خصوصا تصعيد مهاد كاراتي، والذي أصبح مسؤولا عن الشؤون المالية للجماعة، والعديد من المهام الوظيفية الأخرى، إلى الحدّ الذي جعله ينظر إلى نفسه باعتباره الأحق بقيادة الحركة، خصوصا في ضوء غياب زعيم الحركة أحمد ديري عن المشهد، إثر إصابته بفشل كلوي حاد منذ سنوات، الأمر الذي حال دون انخراطه بشكل كبير في أنشطة التنظيم.

“الهزائم الكبيرة للحركة”

لا يمكن فصل الانقسامات الراهنة التي تشهدها “حركة الشباب الصومالية”، عن السياق العام للمشهد الأمني في الصومال، وهو السياق الذي شهد تناميا وفاعلية ملحوظة على مستوى جهود مكافحة الإرهاب، وهي الجهود التي دفعت باتجاه إضعاف حالة التماسك التنظيمي داخل الحركة، ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى أن الحكومة الصومالية وعلى مدار عام واحد استطاعت قتل أكثر من 3795 إرهابيا من “حركة الشباب”، أي ثلث مقاتلي الحركة التي يبلغ قوام مقاتليها تقريبا نحو 9 آلاف مقاتل، بينهم 57 من كبار القادة.

قتلت الحكومة الصومالية أكثر من 3795 إرهابيا من “حركة الشباب الصومالية”، بينهم 57 من كبار قيادات الحركة، واعتقلت نحو 700 من عناصر الحركة، بينهم قادة ميدانيون.

إلى جانب استعادة أكثر من ألف كيلومتر من الأراضي التي كانت تسيطر عليها الحركة لعدة عقود بالإضافة إلى تحرير 120 قرية ومنطقة وبلدة رئيسية، وإلقاء القبض على نحو 700 عنصر من الحركة بينهم قادة ميدانيون، وهي الأرقام التي أعلنتها الحكومة الصومالية في مؤتمر لوزير الإعلام داود أويس جامع في 22 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم.

ووفقا لما أعلنه وزير الإعلام الصومالي فقد استطاعت الحكومة الصومالية إغلاق 350 حسابا مصرفيا للحركة، و405 أرقام هواتف، و18 حسابا تجاريا كانت مملوكة لـ”حركة الشباب”، الأمر الذي زاد من حجم المعاناة الاقتصادية والمالية للحركة، خصوصا وأن إجراءات التضييق على الموارد المالية للحركة، جاءت جنبا إلى جنب مع جهود إقليمية ودولية مبذولة في نفس الاتجاه.

ولم يقتصر الأمر على ذلك بل وسّعت الحكومة الصومالية جهودها لتشمل تبني جهود مكثفة لمواجهة الفِكر المتطرف، وتكثيف العمليات لمواجهة أنشطة الحركة على وسائل التواصل الاجتماعي.

“الحالة النفسية لمقاتلي الحركة”

 لم تقتصر تداعيات الهزائم والضربات الكبيرة التي مُنيت بها “حركة الشباب الصومالية” في الأشهر الأخيرة، على حدود الخسائر المباشرة المتمثلة في قتل الآلاف من قادتها وعناصرها، وإلقاء القبض على المئات، بل امتدت تداعيات هذه التحركات لتشمل التأثير سلبا على معنويات مقاتلي الحركة، بما دفع العشرات منهم إلى الإعلان عن تراجعهم عن تبني أفكار الحركة، والتّنصل منها، وتسليم أنفسهم للأجهزة الأمنية الصومالية.

خسرت “حركة الشباب الصومالية” الإرهابية أكثر من 50 عنصرا على يد الجيش الصومالي أواخر آب/ أغسطس- “أ ف ب”

هذا فضلا عن دعوة هؤلاء باقي مقاتلي الحركة إلى التراجع عن نهجهم، وهو اعتبار مهم، خصوصا مع احتمالية توظيف الأجهزة الأمنية الصومالية لبعض هؤلاء من أجل اختراق الحركة، بجانب اعتبار آخر مهم يتمثل في أن تنامي هذه الحالة داخل الحركة يعزز من حالة الارتباك الداخلية، ويزيد من مساحة الانقسام.

بشكل عام يمكن القول إن ظاهرة الانقسامات داخل تيارات التطرف والعنف، ظاهرة قديمة متجددة، وترتبط على الأرجح ببعض السياقات الداخلية الخاصة بهذه التنظيمات، فضلا عن وجود بيئة خارجية وعامة ضاغطة على هذه التنظيمات بما يدفع باتجاه تفجّر الانقسامات بداخلها، ومع الضغوط الكبيرة التي تمارسها الحكومة الصومالية تجاه “حركة الشباب”، يبدو أن الأزمات الداخلية والبنيوية للحركة سوف تتفجّر في الفترات المقبِلة وتظهر للعلن، وهو اعتبار يزيد من حالة الضعف التي تشهدها الحركة، ويمثّل عاملا محفّزا لجهود مكافحة الإرهاب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات