بدا خطاب زعيم “حزب الله”اللبناني حسن نصر الله، الأخير، محبطا ومخيّبا للتّوقعات. فـ”إعلان الحرب” الذي انتظره كثيرون غاب عن خطابه بينما تفادى التلميح أو الإشارة أو التصريح باحتمالية حدوثه. اللافت أن تعبئة قطاعات عريضة بحالة الحرب المتوقعة كانت صناعة مقصودة من “حزب الله” بنفس درجة ابتعاده عنها في الخطاب. ولم يكن التّخلي عن ذلك سوى لعبة مزدوجة حافظت فيها الماكينة الإعلامية الدعائية للحزب على درجة السيولة المطلوبة من الناحية السياسية، وشعبوية “السيد” الذي يتحرك داخل كادر ضيق في مشهد مفتوح على تأويلات عديدة، لكنها محدودة الأُفق برهانات الواقع.

فيما عرج حسن نصر الله، على ما يتم تداوله بشأن “إعلان الحرب” المزعوم، وخلط الأوراق بشكل ملتبس من ناحية نفي احتمالية ذلك، ثم التأكيد على وجوده في ساحة الصراع بما يرفع عنه هذا الحرج. فقال إن هناك من فسّر خطابه، “هذا مخصص لإعلان دخول حزب الله الحرب، بينما نحن دخلنا الحرب منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر”.

نصر الله والتظاهر بالقوة

 زعم حسن نصر الله، أن ما يحدث على الحدود الجنوبية للبنان ذات أهميةٍ وتأثير حتى “وإن رآه البعض متواضعا”. وقال إن ثمة قلقا من اندلاع حرب واسعة على الجبهة الشمالية لإسرائيل، “وعليها أن تحسب لذلك كل حساب”. وأوضح أن “جبهة لبنان استطاعت جذب ثلث الجيش الإسرائيلي إلى الحدود مع لبنان، وجزء من هذه القوات قوات نخبة ونظامية، وأن نصف القوات البحرية الآن موجودة في البحر المتوسط قبالتنا وقبالة حيفا، وأن ربع القوات الجوية مسخّرة تجاهنا، وكذلك قرب النصف من الدفاع الجوي”.

صورة من خطاب حسن نصرالله، الأمين العام لـ”حزب الله”- “النهار العربي”

وفي سياقٍ ظاهره تهديد لكن مضمونه والخفي وغير المعلن منه هو التأكيد على أن الانخراط في حربٍ وتوسيع جبهة الصراع أبعد من غزة ليس قائما في أجندة الحزب، حيث قال إن الوصول لحرب واسعة “احتمال واقعي”، وحذّر إسرائيل من أنها سترتكب “أكبر حماقة في تاريخها” إذا أقدمت على عملية استباقية ضد لبنان. مؤكدا أن “كل الاحتمالات في جبهتنا اللبنانية مفتوحة، وكل الخيارات مطروحة، ويمكن أن نذهب إليها في أي وقت من الأوقات”.

عمد حسن نصر الله في خطابه الذي انحرف بعيدا تماما عن الأهداف التي روّج لها إلى استباق نهاية المعركة في غزة بين “حماس” وإسرائيل، للتأكيد على موقعه السياسي البراغماتي و تأميمه من أي نزاع يستنزفه محليا وإقليميا.

فالقرار الإيراني على ما يبدو هو أن تظل بيئة الحزب في حالة تعبوية وشحن وتجييش، لكن تبقى الدائرة بدون اتساعٍ وتفلّت يؤدي إلى تفلّت الأوضاع، وتآكل وكيل الملالي في لبنان الذي يؤدي أدوارا استراتيجية فيما يخص ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والبحث عن النفط في شرق المتوسط وإدارة مكاسب الصراع في سوريا واليمن.

رسائل خفية

مبدأ “وحدة الساحات” الذي لطالما روّج له نصر الله ما هو إلا وسيلة أيضا لإحداث الأثر التعبوي المطلوب وكأنما إيران تطوّق خصومها بقوى “المقاومة”.

بيد أن الحقيقة تكشف عن مبدأ لاعب واحد في الساحات ممثل في القوى الولائية وتغييب الآخرين أو بالأحرى منحهم فرصة التواجد بهدف الإضعاف لحساب تقوية الطرف الأول. حيث إن “حماس” و”كتائب عز الدين القسام” وغيرها من الفصائل المسلحة تحديدا السُّنية ستلقى مصيرها ميدانيا في المعركة من دون الدعم المتوقع الذي يرقى إلى حرب ضد إسرائيل كما يلحّ إعلام الحزب في لبنان وخارجها. والحرب بالنسبة لنصر الله هي عملية تحريك لخلق آلية جديدة لتراكم مكاسب استراتيجية في عدة ملفات عاجلة مثل ترسيم الحدود وتخفيف الضغوط عن إيران في ما يخصّ الملف النووي والعقوبات.

لذا، كان تلميح نصر الله بأن الحرب في غزة لا علاقة لها بأي ملفات إقليمية تخصّ إيران بمثابة إعلان لما هو خفي من أهداف والنفي هنا للتأكيد، لا سيما أن السياق يؤكد خلاف ما يحاول نفيه. فيقول: “معركة طوفان الأقصى فلسطينية بالكامل، من أجل فلسطين، وملفاتها، وقضاياها، وشعبها، وليس لها علاقة بأي ملف إقليمي أو دولي على الإطلاق”. وتابع: “عادةً عندما تصير معركة معيّنة في لبنان أو فلسطين يقولون من باب الكذب والتضليل إنها لخدمة إيران وأهدافها”.

إذا لم يكن تبرؤ نصر الله من معركة “طوفان الأقصى” سوى حقيقة قُصد تمريرها، ووصفها بأنها “فلسطينية خالصة”. تحرى زعيم حزب الله تقليب التربة السياسية للحفاظ على معاني محددة ليس لها ما يجعلها متحققة من الناحية الاستراتيجية، لكنه بقدراته الخطابية سعى إلى جعل الأطراف كافة على الحافة في انتظار معركة وشيكة بينما يجلس هادئا مهددا يتنقل بين العبارات المفخخة في مناورة سريعة، فيعطي إسرائيل والولايات المتحدة رسائل طمأنة لا أكثر، حيث إنه قبل الكل على مائدة المفاوضات في انتظار حصته من تلك الترتيبات الجديدة للمنطقة في ذروة انشغال الآخرين بالحرب.

إضعاف الأطراف السنية

وعليه، ذكر نصر الله أن المعركة التي شنّتها حركة “حماس” ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي قد دشّنت لمرحلة تاريخية جديدة في المعركة مع إسرائيل، وقال إن “هذا العمل العظيم أدى إلى زلزال أمني وعسكري وسياسي ونفسي على الكيان الإسرائيلي، وكانت له تداعيات استراتيجية ستترك آثارها على حاضره ومستقبله”، مشيرا إلى أن “الإدارة الأميركية برئيسها ووزرائها وجنرالاتها سارعت لتمسك بهذا الكيان ليستعيد بعض أنفاسه ووعيه، ويقف على قدميه من جديد لاستعادة زمام المبادرة التي فشل في استردادها حتى الآن”.

سياسة ذر الرماد في العيون التي قام بها نصر الله، لا تدع مجالا للشك أن الخدوش التي تركتها المناوشات بينه وبين إسرائيل مؤخرا على جسد الحزب توثق تفاهمات مبطّنة مع تل أبيب..

وأردف نصر الله: “هذه السرعة الأميركية لاحتضان إسرائيل ودعمها كشفت فشل هذا الكيان، تصوروا منذ اليوم الأول احتاجت إسرائيل أن تأتي الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط من أجل الإسناد العسكري والدعم المعنوي”.

سياسة ذر الرماد في العيون التي قام بها نصر الله، لا تدع مجالا للشك أن الخدوش التي تركتها المناوشات بينه وبين إسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، على جسد الحزب توثق تفاهمات مبطّنة مع تل أبيب بأنه غير منزعج من استنزاف وإضعاف الأطراف السُّنية داخل حلف ما يسمى “المقاومة”.

ربما لا يهدف “حزب الله” إلى تصفية هذه الأطراف والقوى التي لها أدوار وازنة ووظيفية في حساباته لكنه يريد أن يتسيّد المشهد بينما لا يمانع في وضعها تحت وطأة الضغوط وربما المساهمة بتوريطها أكثر فأكثر (تماما مثلما تغض روسيا الطرف عن استهداف المواقع الإيرانية في سوريا من قبل إسرائيل) حتى لا تجد ثمة فرصة للمنافسة الجيواستراتيجية وترفع رأسها خارج الطوق الإيراني.

حسن نصر الله غير منزعج من استنزاف وإضعاف الأطراف السُّنية داخل حلف ما يسمى “المقاومة”- “الصورة من الإنترنت”

وفي ما يبدو أن “الخط الأحمر” الذي لمّحت إليه إيران على لسان عدد من مسؤوليها، ومن بينهم حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني، كان يعني به تصفية “حماس” وليس الاجتياح البري. فالمطلوب ليس تصفية وإنهاء الأخيرة إنما جعلها هذا الكيان الذي يمكن تمرير عدة مصالح وصفقات من خلاله بالدرجة كذلك التي تجعل إيران تملك الورقة الفلسطينية كلاعب إقليمي ضمن آخرين مثل السعودية وقطر والأردن ويمكّنها من تحقيق مصالحها بالضغوط والابتزاز كما هي العادة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة