ترسيم الحدود وثروة الغاز: من إنجاز تاريخي لـ”حزب الله” إلى صفقة فاشلة للبنان!

ترسيم الحدود وثروة الغاز: من إنجاز تاريخي لـ”حزب الله” إلى صفقة فاشلة للبنان!

وسط صخب الحرب والاشتباكات الدائرة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية بين “حزب الله” وإسرائيل، مرّ خبر لافت لشركة “توتال” الفرنسية تقول فيه إن نتيجة الحفر لأحد الآبار في بلوك رقم “9” تبيّن أنه لا يحتوي على غاز! 

وبسرعة، تبخّرت أحلام اكتشاف الغاز في البحر التي عيّشتها السلطة اللبنانية للمواطنين، وخصوصاً أنها أقدمت على صفقة مع إسرائيل تنازلت فيها عن حقل “كاريش” والحدود البحرية اللبنانية، وقبلت أن تشاركها في غاز بحر قانا، والمستغرب أن هذه الصفقة تمّت بموافقة “حزب الله” وتشجيعه، قابلاً بالوساطة الأميركية التي قادها موفد الإدارة الأميركية آموس هوكشتاين، وراضخاً في النهاية لشروطٍ كان لبنان قادراً على تحصيل أفضل منها. 

والمستغرب أن “الحزب” وحليفه رئيس الجمهورية السابق، ميشال عون، اللذين يعتبران أنفسهما أكثر عداء للهيمنة الأميركية و”الكيان الصهيوني”، كما يسمّيانه، اعتبرا ما فعلاه إنجازاً سيذكره التاريخ!

النفط أهم من العقيدة الفكرية

الاتفاق اللبناني الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية هو اتفاق تم التّوصل إليه بعد وساطة أميركية دامت عامين، ووقّع عليه الرئيس اللبناني ميشال عون، ورئيس الحكومة الإسرائيلي آنذاك، يائير لبيد، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2022. 

الرئيس اللبناني ميشال عون (يمين) يستقبل الوسيط الأمريكي آموس هوشستين (يسار) بعد توقيعه على اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بوساطة الولايات المتحدة في 27 أكتوبر 2022، في قصر بعبدا في بيروت، لبنان. (تصوير الرئاسة اللبنانية)

الاتفاق يحدد خطّاً بحريا فاصلا بين الدولتين، يسمح لهما بالتنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها من مياههما الإقليمية، إلا أنه يضمن لإسرائيل حقل “كاريش” بالكامل، وللبنان حقل “قانا” الذي يتجاوز خط الترسيم. 

كما ينص الاتفاق على أن تحصل إسرائيل على تعويض من شركتي “توتال” و”إيني”، المشغّلتَين لحقل “قانا”، لقاء الحقوق العائدة لها من أي مخزونات محتملة في المكمن.

والمدهش أنه في لحظة واحدة، نسي “حزب الله” اللبناني الموجّه من إيران عداءه لإسرائيل، وعدم اعترافه بها، متخلياً عن عزمه رميها في البحر، قابلاً بإسقاط الخط 29 الذي حدده الجيش اللبناني بما يمنح إسرائيل كامل “حقل كاريش”، في مقابل القبول بالخط 23 الذي يمنح لبنان كامل “حقل قانا”.

هذا التنازل المريب من عون و”حزب الله”، مُهّد له قبل اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، بحملة تعهدات ووعود للرأي العام اللبناني بأن هناك تأكيداً بوجود كميات غاز تجارية هائلة ستُسهم في إعادة أموال المودّعينَ المحتجزة لدى المصارف وإعادة تحريك عجلة الاقتصاد، إضافة إلى تأمين الكهرباء بعد تحويل المعامل للعمل على الغاز بدل الفيول.

تلك الحملات الترويجية التي قام بها “الحزب” و”التيار الوطني الحر” المحسوب على عون، لم تكن سوى تسويق لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل وتغطية للتنازل عن جزء من المياه اللبنانية وما تحمله من مخزون غازي ونفطي، مراهنينَ أنه سيتم التغاضي عن هذه الصفقة إذا ما بدأت الشركات المعنية باستخراج الغاز سريعاً.

سرّ قبول “حزب الله”

لكن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، وبعد اخفاقات “توتال” في العثور على غاز في البلوك رقم “4” في بحر البترون، تكرر الأمر نفسه في بئر بلوك رقم “9”، وأبلغت شركة “هاليبرتون” الأميركية، المتعهدة لدى شركة “توتال” بالحفر في مكمن “قانا” المحتمل، الشركة المشغّلة أنها قررت وقف الحفر على عمق 3900 متر، لعدم وجود كميات تجارية في البئر التي يجري حفرها.

جندي إسرائيلي يسير عند معبر رأس الناقورة الحدودي بين لبنان وإسرائيل، في 7 أكتوبر 2022. (تصوير جالا ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

لكن الأستاذ الجامعي المتخصص في شؤون الطاقة، شربل سكاف، لم يفاجأ بهذه النتيجة، ويعتبر في حديثه لـ”الحل نت”، أن عدم العثور على غاز في بئر من آبار بلوك رقم “9” لا يعني أن كل البلوك فارغ من الغاز. 

بل من المؤكّد أن بلوك رقم “9” يتضمن أكثر من بئر، لكن الاتفاقية مع “توتال إنيرجي” و”قطر للطاقة” واضحة بضرورة حفر بئر على الأقل، أما حفر البئر الثاني فيعود حصراً إلى تقدير “توتال” بحسب معطيات البئر الأول، وعادة تأخذ الشركة في الاعتبار نتائج البئر الأول لتبدأ باستكشاف الثاني.

بعد خيبة الأمل في بلوك “9” أثار بعض القوى السياسية الكثير من الشكوك بوجود “مؤامرة” على لبنان، تحمل رسالة إلى السلطات اللبنانية بأنه في حال فتح “حزب الله” الجبهة الجنوبية مع إسرائيل دعماً للفلسطينيين، فإن الأميركيين والفرنسيين سيطلبون من الشركات وقف أعمال الحفر والتنقيب وحرمان لبنان من استثمار هذه الثروة الطبيعية المهمة التي يراهن عليها لمعالجة أزمته الاقتصادية، وبالتالي إبقاء لبنان تحت الحصار النفطي والمالي والغازي.

مرة أخرى يُكرر سكاف رفضه لنظرية المؤامرة؛ انطلاقاً من مبررات منطقية ترتبط بوجود مصلحة لإسرائيل في استكشاف الغاز في “قانا”، لكن ما يثير الريبة هو توقّف الحفر عند 3900 متر فيما كانت الضرورة تقضي باستمرار الحفر إلى عمق 4350 متراً المتفق عليه وفق العقد، لأن النتائج باعتقاده قد تنقلب بين متر وآخر، مستنداً إلى تجربة حقل “ظهر” في المنطقة الاقتصادية المصرية، حين كانت هناك نيّة لوقف الأعمال، لكن بعد حفر نحو 50 متراً إضافياً وجِد أحد أكبر مكامن النفط في البحر المتوسط!

إلا أن معلومات موثوقة تكشف بأن كلفة الحفر الاستكشافي تقدر بنحو 130 مليون دولار، ومن ثم ليس بالسهولة الاستمرار بالحفر الاستكشافي في أكثر من ناحية، وذلك يمكن أن يحدث لو تبين وجود كمية غير تجارية في الاستكشاف الأول حينها يمكن المحاولة مرات عدة إضافية.

قد يتساءل سائل ما هو سرّ قبول “حزب الله” بهذه الصفقة والمغامرة بسمعته والقضية التي وُجِدَ من أجلها، لكن عندما يُعرف السبب يُبطل العجب، فهو قبِل بالتنازل عن تلك الرقعة البحرية الواسعة لمصلحة إسرائيل، مقابل صفقة أجرتها إيران تغض الطرف عن تنفيذ القرار الدولي 1559 الذي ينصّ على نزع سلاح الميليشيات وضمنها سلاح “الحزب”، علماً أن الثروة البحرية باتت في الجزء الذي حصلت عليه إسرائيل وحرم منه لبنان، كما يبدو من نتائج الاستكشافات التي تجريها “توتال”، ولو الأمر غير محسوم علمياً.

لافتة مكتوبة بالعبرية والإنجليزية والعربية تحدد منطقة عسكرية، تقف مطلة على البحر الأبيض المتوسط في رأس الناقورة الإسرائيلي، على الحدود بين لبنان وإسرائيل، في 7 أكتوبر 2022. (تصوير جالا ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

والمفارقة أن “الحزب” إثر توقيع إتفاق الترسيم مع إسرائيل، راح يدّعي بأنّه لولا سلاحه لما تحقّق الترسيم، وخلفية هذا الادعاء طبعاً مردّها إلى خشيته من مزيد من إضعاف حجة احتفاظه بسلاحه غير الشرعي، ولكن طالما أنّ لسلاحه هذا المفعول تماشياً مع ادعاءاته التضليلية، فلماذا لم يستخدمه لإخراج إسرائيل من مزارع شبعا؟ 

وإذا كان قادراً ولم يفعل بسبب إصراره على اشتباك يبرِّر سلاحه ففعلته ترتِّب عليه جرم الخيانة الوطنية، فضلاً عن أنّ بإمكانه مثلاً  تحرير شبعا والاحتفاظ بسلاحه من خلال الادعاء أن هذا السلاح يردع أي عدوان إسرائيلي على لبنان، وإلى آخر معزوفة النشاز التي ملّ منها الشعب اللبناني!

مزايدات ممجوجة ومكشوفة

في مطلق الأحوال فإن تسريع خطوات الترسيم، كان مردّه إلى عامل أساسي هو حاجة أوروبا إلى الغاز على أثر دخول روسيا في حرب عسكرية ضدّ أوكرانيا وحرب باردة ضدّ القارة العجوز حتّم البحث عن مصادر بديلة تسدّ الثغرة الروسية، وبالتالي أصبح الغاز الإسرائيلي حاجة أوروبية ماسة وضرورية.

إسرائيل لبنان حزب الله
متظاهرون لبنانيون يشاركون في مظاهرة في منطقة الناقورة الحدودية بأقصى جنوب لبنان، في 11 يونيو، 2022، بعد أيام من نقل إسرائيل سفينة لإنتاج الغاز إلى حقل بحري، يطالب لبنان بجزء منه. (تصوير محمود الزيات / وكالة الصحافة الفرنسية)

وتساهل “الحزب” بإيعاز إيراني يضمن ثلاث رسائل: الأولى إلى واشنطن بأنّه براغماتي ولا يعارض تلبية الرغبات الأميركية على طريقته؛ والثانية إلى تل أبيب بدعوتها إلى التمييز بين خطاب الضرورة بإزالتها من الوجود، وبين التزامه بقواعد الردع المتبادل؛ والثالثة إلى اللبنانيين بأن بطولاته حقّقت الترسيم.

واستفاض اعلامياً موحياً أن سلاحه أتى بالترسيم وسلاحه ضمانة للثروة النفطية، فيما سلاحه يشكل الضرر الأكبر على لبنان: يمنع قيام الدولة، ويحول دون تطبيق الدستور، وينتهك السيادة، وينسف الميثاق الوطني، ويزعزع السلم الأهلي والاستقرار، ويتحمّل مسؤولية الانهيار والعزلة، واللائحة تطول.

في حين ما يحصل من نتائج مخيّبة للآمال حصدتها الشركة الفرنسية التي حفرت البئرين في بلوكي رقمي 4 و9، كشفت أن الصفقة لم تكن لمصلحة لبنان، و”الحزب” وحليفه “التيار الوطني الحر” برئاسة جبران باسيل تخليا عن حقوق لبنانية في المساحات البحرية من دون مقابل حتى الآن!

وكلمة حق تُقال أن تعاطي “حزب الله” مع ملف ترسيم الحدود متخلّياً عن مبادئه وأدبياته وجوهر وجوده، وما يحصل اليوم على الحدود الجنوبية من اشتباكات مدوزنة مع إسرائيل بحيث “لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم”، وترك “حماس” وحيدة في مواجهة إسرائيل في غزة، متخلّياً عن معادلة “وحدة الساحات”، تؤكد حقيقة ساطعة لا تحتمل التأويل وهي أنّ “الحزب” تخلى عن عقيدته خدمة لمصلحته. 

وجلّ الكلام عن سلاح و”مقاومة” وردع وما شابه من مصطلحات خشبية انتهت صلاحيته بعد صفقة الترسيم وعملية “طوفان الأقصى”، وأصبح من الأجدى أن يتخلّى عن هذا السلاح بعدما تخلّى عن عقيدته، والعقيدة لا يتمّ التعامل معها على القطعة وتِبعاً للظروف والزمن، فيتمّ تعليقها حيناً وتطبيقها حيناً آخر، باعتبار أنّ العقيدة هي عقيدة، وقد أظهر “الحزب” أن عقيدته هي للمتاجرة السياسية، وأنّ مصالحه تتقدّم على مبادئه.

فبعدما تخلّى “الحزب” فعليّاً وعمليّاً عن هدف كبّ إسرائيل في البحر، فأصبح من الأجدى به أن يكبّ سلاحه في البحر، ولكنه لن يفعل وسيواصل مزايداته التي أصبحت ممجوجة ومكشوفة، وسيحاول توظيف إنجازاته الوهمية في مزيد من مشاريع الغلبة في الداخل على حساب الدولة والدستور والميثاق. 

إسرائيل لبنان حزب الله
متظاهرون لبنانيون يبحرون في قوارب تحمل شعارات تؤكد حق لبنان في ثروته البحرية من الغاز، بالقرب من العوامة الحدودية بين إسرائيل ولبنان في مياه البحر الأبيض المتوسط قبالة بلدة الناقورة الجنوبية في 4 سبتمبر 2022. (تصوير محمود الزيات/وكالة الصحافة الفرنسية)

إلا أنّ الترسيم وأوهام ملف الغاز كشفه أمام ناسه وجمهوره الذين كانوا حتى الأمس القريب “مغشوشين” بأنّه منسجم مع نفسه ووفي لقناعاته، فجاء الترسيم ثم حرب غزة  ليكشف المكشوف بأن لا انسجام، ولا قناعات، ولا مبادئ، ولا ثوابت، ولا مسلمات – علماً أن “الحزب” استفاد من الحرب الدائرة الآن لحجب فضيحة الصفقة الفاشلة على صعيد الترسيم والغاز!

في المحصلة، يُعتبر “حزب الله” بنظر إيران ذراعاً عسكرية تؤتمر من المرشد علي خامنئي، ولبنان بمفهوم إيران و”الحزب” هو ساحة جهاد، ولن تتخلى طهران عن لبنان كورقة من أوراق مشروعها الإقليمي التشييعي التوسعي، ولن يرتاح لبنان والشعب اللبناني قبل فصل الدولة عن “محور الممانعة”، وبالتالي المواجهة الأساسية هي في “قبع” هذا المحور من السلطة، منعاً لمزيد من الموت والفقر والبؤس والموت للبنان واللبنانيين.

0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول زاوية خاصة

جديداستمع تسجيلات سابقة