إن من أهم ما يميز النشاط السياسي أنه مجال النشاط البشري القائم على الصراع الجماعي الوجودي، ومن ثم فهو موسوم بخلافات أو تعارضات جوهرية متطرفة. وبشكل آخر يمثّل النشاط السياسي حالة من التوتر الذي يمتد على مرّ التاريخ البشري، وهذا الأمر الذي يجعل الصراع السياسي دائما ذا طبيعة خلقية، جدلية، وظيفية، للبحث عن النظام والمحافظة على الوجود والهوية.

يوم الأحد الفائت، جماعة “الحوثي” اليمنية احتجزت سفينة شحنٍ مملوكة لبريطانيين ويديرها يابانيون في جنوب البحر الأحمر، ووصفوها بأنها إسرائيلية، ويأتي هذا التطور بعد إعلان زعيم “الحوثيين”، الأسبوع الماضي، أن قواته ستشنّ مزيدا من الهجمات على إسرائيل ويمكنها استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

“الحوثيون” حلفاء طهران، ومع انغماسهم في حرب غزة وإطلاقهم صواريخ طويلة المدى وطائرات مسيّرة على إسرائيل تضامنا مع “حماس” التي تقاتل القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، يظهر أنهم قوة واحدة متماسكة؛ لكن ما خُفي كان أعظم، فجماعة “الحوثي” تأكل نفسها حرفيا، وهناك صراعٌ لقطبي إيران في اليمن.

صديق اليوم.. عدو الغد

يصير المجتمع السياسي ذا طبيعة صراعية ملموسة بالدرجة الأولي، بحيث إن اختفاء هذه الطبيعة من شأنه أن يؤدي إلى اختفائه ذاته. ويؤكد الفيلسوف والسياسي الألماني “كارل شميت” (1888-1985)، أن الكيانات السياسية في جوهرها قائمة على فكرة المصلحة إذ تستند العلاقات داخل المجتمع السياسي إلى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بين الكيانات السياسية، والتي لا تقوم على أي جوانب أخلاقية محضة أو إنسانية خالصة. 

جماعة الحوثي اليمن إيران
أنصار حركة الحوثي اليمنية يحضرون خطاب زعيمها عبد الملك الحوثي الذي تم بثه على شاشة كبيرة في أحد المساجد خلال الاحتفال السنوي بـ “يوم الشهيد” في العاصمة اليمنية صنعاء في 14 نوفمبر 2023. (تصوير محمد حويس / وكالة فرانس برس)

ولهذا يقول شميت: “قل لي من عدوك أقل لك من أنت”؛ إذاً الجوهر الرئيسي في المجتمعات السياسية هو الحرب أو الصراع داخل الكيانات السياسية المتقاربة القائمة على المصالح والتحالفات والتسويات النفعية. 

فماهية المجتمع السياسي منحصرة في المقام الأول على مفاهيم الصراع والكراهية المفضيَين إلى الحرب التي ربما تكون بين أبناء الوطن الواحد؛ لأن الصديق اليوم هو عدو الغد ما دامت هناك مصالح تتحكم في هذه العلاقات المتجددة والمتطورة تطور ذاتي ديناميكي.

المصالح تتصالح 

عند النظر إلى العلاقات السياسية في المجتمع البشري الحديث، نجد أن المعادلة القديمة – المصالح – هي ذاتها التي تتحكم في علاقات الأفراد مع بعضها البعض، وكما نرى كانت المصلحة بين إيران وجماعة “الحوثي” هي موضع الالتقاء وسيستمر هذا طالما المصالح بينهما قائمة.

مسلحون يتجمعون للاحتجاج على المتمردين الحوثيين اليمنيين في منطقة الخوخة بمحافظة الحديدة الغربية التي مزقتها الحرب في 20 سبتمبر 2022، للتظاهر ضد تدمير المزارع والممتلكات المدنية في منطقة بيت الفقيه جنوب الحديدة. (تصوير خالد زياد/ وكالة الصحافة الفرنسية)

العلاقات القوية بين إيران وبين جماعة “الحوثي” في اليمن نشأت بعد أن عملت إيران منذ البداية على تقديم الدعم إلى الجماعة، لأن لديها طموحات التوسعية وتهدف إلى تصدير الفكر الشيعي إلى المنطقة، فعقِب نجاح الثورة “الخمينية”، قاد طهران إلى نسج علاقة مع جماعة “الحوثي” في صعدة شمال اليمن، حيث دعمتها مالياً وعسكرياً بعد تبني الجماعة المتمردة لفكر إيران الطائفي الدخيل على اليمن. 

علاقة جماعة “الحوثي” بإيران تكشّفت خيوطها أكثر شيئاً فشيئاً في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي، بدءاً من استقطاب قيادات الحركة ومناصريها وإرسالهم إلى “قم” الإيرانية للتعليم الديني، مروراً بالدعم العسكري والمالي للجماعة المتمردة التي أرادت تحويلها إلى ذراع لها في جنوب الجزيرة العربية والسيطرة على مضيق باب المندب أحد أهم ممرات الملاحة في العالم.

الدعم الإيراني مكّن “الحوثيين” من خوض الحروب السّت التي شنّتها الحكومة عليها بين عامي 2004 و2010. وتمثلت ذروة هذا الدعم خلال الانقلاب على الشرعية، حيث لم يجد “الحوثيون” حرجاً في كشف علاقاتهم بإيران التي تحولت إلى شريك استراتيجي، فهبطت الطائرات الإيرانية في مطار صنعاء محمّلة بعناصر “الحرس الثوري”، إضافة إلى مواد وتكنولوجيا عسكرية. 

وخلال عملية “عاصفة الحزم”، ومن بعدها “إعادة الأمل”، التي شنّها تحالف دعم الشرعية في اليمن، شكّل تهريب الأسلحة الإيرانية إلى صنعاء تهديداً لجيران اليمن، وعلى رأسها السعودية التي استهدفتها صواريخٌ إيرانية من الأراضي اليمنية.

نختلف في المذاهب ونتفق في المصالح 

هنا يجب الإشارة إلى أن “الحوثيين” شيعة من مذهب مختلف – الزيدي – على عكس المذهب الإيراني- اللبناني للشيعة الإثني عشرية. إذ انفصل الزيديون عن التيار الشيعي الرئيسي في وقت مبكّر جدّاً من القرن السابع. 

جماعة الحوثي إيران اليمن
أتباع الحوثي في اليمن يسيرون وأحدهم يرتدي سترة عليها صورة زعيم الحركة الحوثية عبدالملك بدر الدين الحوثي، أثناء مشاركتهم في احتجاج مؤيد للفلسطينيين ضد التصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة في 18 نوفمبر 2023 في صنعاء، اليمن. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

ولاء “الحوثيين” لإيران أشبه من المرتزقة عن الولاء الديني – الأيديولوجي، مما يعني أن الاتفاق بين الحوثيين والمذهب الإيراني ليس اتفاقاً نابع من التقارب المذهبي؛ وإنما هي طموحات مشتركة بين هذه الكيانات السياسية، كما أن هناك عامل آخر معلن يجمع بين “الحوثيين” وإيران؛ هو النزعة العِدائية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، ولهذا أصبحت إيران مصدر الدعم العسكري لجماعة “الحوثي” تحت لواء محاربة “أعداء الإسلام”. 

على مرّ السنين، قامت إيران و”الحوثيون” بتعزيز شراكة سياسية وعسكرية، وقد دافعت طهران عن مصالح “الحوثيين” في الأمم المتحدة، وأقامت وجوداً لها في القطاع التعليمي في اليمن الذي يسيطر عليه “الحوثيون”. وقد أعرب المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي عن دعمه لـ “الحوثيين”، على الرغم من نفيه قيام إيران بتزويدهم بالأسلحة؛ فهل يدوم الوفاق بين جماعة “الحوثي” وإيران؟

التقارب الإيراني السعودي 

كما قلنا، المحرّك الأول في عالم السياسة هو المصالح والمنافع المادية والاستراتيجية، فعلى مدى محاولات عديدة للتقارب والتفاهم بين طهران والرياض، بدأت تلوح في الأفق ملامح تفاهم مشتركة التي تحكم وتحركها والمصالح المشتركة ورغبة كل طرف منهما في السيطرة على الشرق الأوسط، إلا أن هذا التفاهم والتقارب ربما يكون له نتائج سلبية على علاقة طهران بجماعة “الحوثي”. 

جماعة الحوثي إيران اليمن
في هذه الصورة المنشورة التي قدمتها وكالة سبأ للأنباء التي يديرها الحوثيون، يلتقي الوفدان العماني والسعودي بمسؤولين حوثيين في 09 أبريل 2023 في صنعاء، اليمن. (وكالة سبأ للأنباء)

الدكتور والباحث السياسي، أحمد زعلول شلاطة، في حديثه لـ”الحل نت” يقول: “التقارب في العلاقات بين طهران والرياض تكتيكي؛ لكن يظل لكل طرف أدواته، “الحوثيون” كغيرهم من ميليشيات إيران أحد أدواتها في إدارة سياسته الخارجية، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق مصالحه، فالوضع اليمني معقد واستنزاف كبير للمنطقة ولكل أطرافه، ومهما طال الوقت فلابد من لحظة مراجعة الخسائر والمكاسب”. 

من قبل حدثت ما يبدو تقارب بلقاء بين الرياض مع “الحوثيين” لكن لم يتطور الأمر لشيء حقيقي، اللقاءات أمرٌ معتاد في أوقات الصراع لكنها لا تعني بالضرورة تسهيدها لتفكيك الصراعات، وفقا لشلاطة. 

إلا أن الإعلامي اليمني، مدير قسم البرامج السياسية في قناة “المسيرة” التابعة لـ”الحوثيين”، حميد رزق، اعتبر أن عودة العلاقات بين الرياض وطهران “خطوة مرحب بها، وهي الأصل في العلاقات بين الدول العربية والإسلامية”، وعلى جانب آخر رحب بعض الأفراد داخل جماعة “الحوثي” بهذا التقارب على اعتبار أن الجماعة جماعة مستقلة وليس تابعة لإيران.

ومع تباين المواقف داخل جماعة “الحوثي” من التقارب الإيراني السعودي، وبالإضافة إلى عوامل المصالح التي بات تحكم كل نسق سياسي، بدأت تظهر على السطح الخلافات الداخلية بين أعضاء الجماعة، الأمر الذي أدى إلى القتل والاختطاف من أجل الحصول على المناصب تارة، والحصول على المكافآت المالية تارة أخرى.

صراع قديم يتجدد اليوم 

الصراعات داخل جماعة “الحوثي” ليست وليدة اليوم؛ وإنما بدأت منذ عام 2014 حيث شهدت صنعاء مواجهات متعددة كان طرفها جناح محمد علي الحوثي الذي يرى أنه الأحق بخلافة صالح الصماد الذي قُتل في العام الماضي. 

جماعة الحوثي اليمن إيران
أنصار الحوثيين في اليمن يقفون بالقرب من الأعلام المرسومة بصورة صالح الصماد، رئيس المجلس السياسي الأعلى السابق الذي أسسه الحوثيون، والذي تم وضعه عند قبره، في 09 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في صنعاء. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

كما أن الصراع بين الأجنحة “الحوثية” قد تفاقم مؤخّراً بعد توقيع اتفاق السويد، فقد اعتبر جناح محمد علي الحوثي، أن الاتفاق يعتبر تنازلاً قدمته الجماعة، وهو ما يفسر رفض مليشيات “الحوثي” تنفيذه. 

وتتصارع القيادات “الحوثية” على أموال المتقاعدين وكذلك العقارات في مناطق سلطتهم، وكانت منظمات حقوقية قد ذكرت بأن “الحوثيين” أصدروا أوامر قضائية للاستحواذ على ممتلكات عقارية لخصومهم السياسيين.

فقد شهدت الفترة الماضية تفجّر الصراع بين أجنحة الميليشيات “الحوثية”، حيث طفت على السطح موجة تصفيات؛ فقد وصلت العمليات إلى دار زعيم “الحوثيين” بمصرع أخيه إبراهيم الحوثي، الذي جرى تصفيته وآخرين برفقته في منزل وسط صنعاء، وسبقه عمليات قتل واغتيال لعشرات القيادات، ضمن الصراع الداخلي بين قادة الميليشيات. 

إلى ذلك، تزايدت بشكل لافت وتيرة الصراع بين قيادات ميليشيات “الحوثي” الانقلابية، حيث بدأت تأخذ أشكالاً جديدة ومتعددة، أبرزها التصفيات الجسدية والاعتقالات، وتدور أسبابها حول خلافات تقاسم الأموال المنهوبة والنفوذ فيما تبقى من مناطق سيطرتها.

الكهرباء.. صراع بين أجنحة “الحوثي”

كشفت وثائق جديدة عن اشتداد الصراع بين قادة الميليشيات “الحوثية” للسيطرة على قطاع الكهرباء في العاصمة اليمنية صنعاء، بموازاة الأنشطة التنافسية على تحصيل الجبايات والإيرادات وممارسات الفساد والاستئثار بالموارد والهيمنة على الإنتاج.

مشيعون يركبون مركبة بعد أن شاركوا في جنازة مقاتلي حركة الحوثي بعد مقتلهم في القتال بين حركة الحوثي المتحالفة مع إيران وقوات الحكومة المدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

اتهم القيادي الحوثي محمد أحمد البخيتي، المُعيّن وزيراً للكهرباء في حكومة الانقلاب غير المعترف بها، القيادي الآخر هاشم الشامي، المُعيّن في منصب مدير عام المؤسسة العامة للكهرباء؛ بمخالفة القوانين واللوائح وتجاوز صلاحياته من خلال تعيين أتباعه لشغل مناصب عدة في مفاصل المؤسسة، وعدم التشاور مع البخيتي. 

ووفقاً لوثيقة تتضمن خطاباً موجهاً من البخيتي إلى الشامي، فإن الأخير ورغم تنبيه الأول له بعدم تجاوز صلاحياته وتحميله مسؤولية ذلك؛ فإنه أصدر قراراً بعد يوم واحد من التنبيه بتعيين أحد أتباعه مديراً عاماً للشؤون الإدارية في المؤسسة، وتعميم القرار في يوم الخميس الذي يعدّ يوم إجازة رسمية لدى الانقلابيين. 

ويعلق الدكتور شلاطة على هذه الصراعات الداخلية لـ”الحل نت” بقوله: “أما ما يتعلق بالانشقاقات فهي أمر طبيعي في التنظيمات الأيدلوجية المسلحة، فلو حدث تباين داخلي حول طريقة الحل قد يحدث انشقاق كبير، أما ما يتعلق بتأثير التقارب نرى أنه قد تتأثر وقتيا إمدادات إيران للحوثيين لكنها لن تختفي نتيجة طبيعة المشروع الإيراني ذي المنحى الثوري الذي يستهدف المنطقة”. 

وبالتالي من المصلحة الإستراتيجية الإيرانية بقاء نموذج “الحوثيين” في المشهد، فإن لم يتم تغذية مصادر قوته إلا أنه لا يمكن القضاء على مصادر قوته المتحققة عبر تراكم السنوات.

حقائق الصراعات 

في الحقيقة يمكننا قول العديد من أسباب هذه الصراعات الداخلية التي ربما فعلا هي صراعات قديمة في مظهر جديد، والتصور هنا أن جماعة “الحوثي” تعاني اليوم شيئاً من الارتباك والقلق والخوف، هذا القلق والارتباط هو الباعث الأول على ظهور هذه الخلافات على السطح والتي هي كالتالي:

1- الخوف الشديد من التقارب الإيراني السعودي، لأن هذا التقارب من شأنه أن يؤثر على علاقة جماعة “الحوثي” بإيران حتى لو على المدى البعيد، وخاصة أنه في ظل هذا التقارب ستخفّض إيران الدعم العسكري لجماعة “الحوثي” ولو بشكل تدريجي.

جماعة الحوثي اليمن إيران
تستعد قوات حركة الحوثي اليمنية للاستعراض في صنعاء، اليمن. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

2- على الرغم من موقف جماعة “الحوثي” العِدائي الصريح نحو الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وخاصة أن جماعة “الحوثي” تقوم بضرب بعض المواقع الإسرائيلية، ربما يسبب هذا مصدر قلق من غضب القوة العظمى، وخاصة أن الولايات المتحدة لا تعتمد منهجاً موحّداً في التعامل فيما يتعلق بتصدير السلاح إلى هذه الجماعات من خلال وكلاء طبعاً. فقد لاحظت الولايات المتحدة انتشار السلاح في الشرق الأوسط الذي ربما يؤدي هذا إلى تغيير سياستها في المنطقة بأكملها.

3- لا يمكن أن نغفل هنا التقارب السعودي الأميركي، فالسعودية تقدم نفسها باعتبارها الحليف الأكبر لأميركا، والسعودية التي تحاول جماعة “الحوثي” ضرب أهدافها بين الحين والآخر، مما يمثل خطراً آخر على الجماعة .

4- غياب الهدف الموحّد داخل جماعة “الحوثي”، الذي يسهل بشكل وبآخر السيطرة عليها وإخضاعها، وهنا تكون الجماعة “الحوثية” أقرب إلى تحقيق نسق مغاير من الشعبوية التي فقدت طرقها. 

كل هذه العوامل وغيرها العديد سمحت بظهور الصراعات الداخلية بين ما يسمّون أنفسهم “أبناء الجهاد الموحد” المزعوم، والذي زرعته إيران داخل المجتمع اليمني الذي كان سابقا موحّدا دون أفكار وخطط “الحرس الثوري” الإيراني، ومن خلفه خامنئي.

0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول زاوية خاصة

جديداستمع تسجيلات سابقة