في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC)، عقوبات على أكثر من 20 فرداً وكياناً من بينها شركات إماراتية لتورّطهم في تقديم تسهيلات مالية لصالح وزارة الدفاع الإيرانية و”فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني.

وتؤمّن إيران مليارات الدولارات من خلال مبيعات السلع الأساسية ومنها النفط لتوليد الإيرادات وتمويل أنشطتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار ودعم مجموعات إقليمية متعددة بالوكالة، بما في ذلك حركة “حماس” و”حزب الله” اللبناني، مستخدمةً شبكات معقّدة من الشركات والوسطاء كواجهة أجنبية لتمكين هذه الأنشطة التجارية غير المشروعة واستغلال النظام المالي الدولي.

من بين الشركات الأجنبية التي مكّنت الإيرادات العسكرية شركة “سپهر‎ للطاقة” (Sepehr Energy) الإيرانية التي استخدمت  شركات في هونغ كونغ والإمارات العربية المتحدة لبيع سلع بقيمة مليارات الدولارات لعملاء في أوروبا وشرق آسيا. 

ففي العام الماضي، وافقت على بيع ملايين البراميل من النفط الخام الإيراني الخفيف إلى شركة “يونيك بيرفورمانس للتجارة العامة” (Unique Performance General Trading LLC)، ومقرّها دبي لتسليمها للعملاء في الصين، فيما عرضت شركة “أو بي جي العالمية للتجارة العامة” (OPG Global General Trading Co. LLC) ومقرّها دبي، نيابة عن شركة “سپهر‎”، بيع ملايين البراميل من النفط الخام والبنزين إلى العملاء المقيمين في عمان ودبي لشحنها بعد ذلك إلى أوروبا.

وبالمثل، فقد دفعت شركة “شركة جيب لتجارة البتروكيماويات” (JEP Petrochemical Trading LLC) ومقرّها دبي شركة”شركة طاقة المستقبل للتجارة” (Future Energy Trading LLC) ومقرها دبي لشراء ما يعادل أكثر من 400 مليون دولار من النفط الإيراني من شركة “سپهر‎” الإيرانية، ما يعني ضلوع الإمارات بغسيل ملايين الدولارات لصالح إيران وحرسها “الثوري” المصنف على لائحة الإرهاب العالمي.

“الحرس الثوري” شركة لغسيل الأموال

ليست المرة الأولى التي تتعرض شركات في الإمارات لمثل هذا النوع من العقوبات الأميركية، ففي عام 2019 أفاد وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، أن مبيعات البتروكيماويات الإيرانية كانت تمر عبر الإمارات، وفي ربيع 2020، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على خمس شركات، مقرّها بالإمارات، لدورها في تسهيل مبيعات النفط والبتروكيماويات الإيرانية، وفي عام 2020 تم فرض عقوبات على شركة “تريليانس للبتروكيماويات” ومقرها الإمارات.

أعلام إيران (على اليمين) والإمارات العربية المتحدة (على اليسار) ترفرف فوق مبنى في المجمع الذي يضم مقر القنصلية الإيرانية في دبي في 5 أبريل 2023. (كريم صاحب / وكالة فرانس برس)

يُعد استخدام الشركات متعددة الجنسيات التقليدية هو الأسلوب الأكثر أهمية والمُستخدَم من قبل المنظومة الإيرانية للتحايل على العقوبات ونقل وتحويل الأموال بأبعاد كبيرة، إذ يقوم النظام بتأسيس بنك أو شركة بمشاركة المواطنين الأجانب، ثم البيع والشراء بأسماء هذه الشركات وأعضائها الأجانب، في حين يبقى اسم الأشخاص الإيرانيين غير معروف.

ومن المعلوم أن “الحرس الثوري” الإيراني، الذي يسيطر على جزء كبير من السوق المصرفية والنقدية الإيرانية، يلعب دوراً كبيراً في غسيل الأموال عبر الأنشطة الاقتصادية كالأعمال المصرفية والمؤسسات الائتمانية والنفط والغاز والبتروكيماويات وتهريب المخدرات، لدعم أذرعه الولائية وتمويلها في كلّ من العراق وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين، إذ لا يمكن تمويل هذه الجماعات ضمن مشروع تصدير “الثورة” الإيرانية في إطار الحكومة التقليدية مع تعقيدات القوانين المصرفية والمالية العالمية وخاصة قوانين مكافحة الإرهاب التي اتخذت على نطاق أوسع بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.

ووفقًا لكتاب “إستراتيجية إيران تجاه دول الخليج العربي”، لتاج الدين جعفر الطائي، فإن المحلّلين وصفوا “الحرس الثوري” الإيراني، بأنه مشروع إيراني كبير لغسيل الأموال في الخليج العربي، بسبب ما يُثار حول طبيعة دوره الاقتصادي، وشبكة العلاقات والشراكات الاقتصادية التي يبنيها داخل الخليج العربي عبر المسؤولين والموظفينَ الرسميينَ، كأحد أوجه متناقضات العلاقات الإيرانية الخليجية، ولفت الكاتب إلى أن عملية غسيل الأموال كانت الوسيلة الوحيدة أمام “الحرس الثوري” للتحايل على الحصار المالي المفروض على إيران دولياً.

تقرير لموقع “إيران إنترناشيونال”، كان قد كشف في شباط/فبراير الفائت، عن شبكة غسيل أموال تابعة لـ”فيلق القدس” عبر شركات وهمية في العراق، تستحوذ على ملايين الدولارات باسم “المقاومة” والعمق الاستراتيجي عبر معاملات صورية.

وجاء في التقرير، إن “معلومات تظهر شبكة غسيل الأموال تابعة لفيلق القدس، وبمساعدة سفارة إيران في بغداد، تقوم بنقل الأموال الإيرانية الناتجة عن تصدير الطاقة للعراق، إلى الحرس الثوري الإيراني بدلاً من إيداعها في خزينة البلاد.. وأن قادة فيلق القدس أنشأ سلسلة من شركات البناء المزيفة في إيران والعراق، والتي يتمثل هدفها الرئيسي في غسيل الأموال والدعم المالي للإرهاب”.

لماذا الإمارات؟

لا بدّ من الإشارة من أن دولة الإمارات وبخاصة إمارة دبي تُعد شريكاً تجارياً واقتصادياً بارزاً لإيران ولا سيما في قطاعات حيوية مثل العقارات والتجارة وأسواق الأسهم، إضافة لاحتضان إمارة دبي آلاف الشركات والتجار ورجال الأعمال الإيرانيين المؤثّرينَ في اقتصاد بلادهم الذي يعاني تدهوراً كبيراً. 

تحت المجهر شركات إماراتية تواجه العقوبات بسبب دعمها لـالحرس الثوري الإيراني (2)
أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني (يمين) يلتقي بالمستشار الأمني لدولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان في طهران في 6 ديسمبر 2021. (أتا كيناري/ وكالة الصحافة الفرنسية)

ورغم توتر العلاقات بين الجارين  لفترات متقطعة، إلا أن الإمارات هي المصدر الأول لواردات إيران بقيمة 10.1 مليار دولار من البضائع، وفقاً للأرقام الرسمية الإيرانية، كما تُعد الدولة الخليجية رابع أكبر وجهة للصادرات الإيرانية غير النفطية بقيمة 2.9 مليار دولار.

ومن المعروف أن السياسة الإماراتية هي الأكثر براغماتية في علاقاتها الإقليمية لضمان مصالحها وأمنها، إذ تسير السياسة في نهج الانفتاح على خصومها ومنافسيها ولا سيما الجيران والأطراف الإقليمية، إضافة لتوظيف القوة الناعمة في توسيع مصالحها الاقتصادية والشراكات التجارية الدولية. 

وقد برز ذلك في زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد، إلى طهران في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2021، حيث نقل عنه قوله حينها، إن الزيارة ستكون “نقطة تحوّل”  في العلاقات.

في حديثه لـ “الحل نت”، يشير الباحث المختص في الشؤون الإيرانية، عمار جلو، إلى أن إيران متقدمة جداً في بناء شبكات تجارية اقتصادية حول العالم لتفريغ العقوبات المفروضة عليها من مضمونها، مضيفا “ولا أدلّ على ذلك من فضيحة أن أغلب قطع الطائرات المسيّرة الإيرانية كانت تأتي من أميركا وأوروبا”.

بالمقابل -وحسب الباحث جلو- فإن الإمارات ليس بمقدورها ضبط حدودها البحرية بشكل يمنع حالات تهريب النفط الإيراني إلى شواطئها أو ضبط صفقات لفروع شركات الواجهة الإيرانية الموجودة على أراضيها، وقد تكون هي من يبلغ عن هذه الصفقات للجانب الأميركي بحال اكتشافها، مبينا أن هذه العقوبات المفروضة على شركات موجود في الإمارات تعكس فشل الحكومة الإماراتية في منع التهرب من العقوبات، رغم الدعم الخطابي للعقوبات التي تفرضها واشنطن على إيران.

 تحييد الاقتصاد عن السياسة

تُعد الإمارات واحدة من أبرز مواقع غسل الأموال في العالم، إذ تبدي تسامحاً كبيراً تجاه الأموال الضخمة الواردة إليها بأي شكل من الأشكال ولا سيما من زعماء المافيا والخاضعينَ للعقوبات المفرطة كـ “الحرس الثوري” الإيراني، الذي يتطلع إلى غسل ملايين الدولارات لتمويل العمليات الخارجية، وشخصيات مقرّبة من الرئيس السوري، بشار الأسد، و الأوليغارشية الروسية، وغيرهم من الشخصيات والكيانات المختلفة، ما يعني تأمين مصالحها من خلال شبكات النفوذ الأجنبي.

تحت المجهر شركات إماراتية تواجه العقوبات بسبب دعمها لـالحرس الثوري الإيراني (1)
الشرطة ترفع علم إيران خلال حدث وطني في الجناح الإيراني في معرض إكسبو 2020، في إمارة دبي الخليجية، في 7 فبراير 2022. (تصوير كريم صاحب / وكالة فرانس برس)

وقد ظهر مبدأ تحييد الاقتصاد عن السياسة جليّاً بعدم تراجع العلاقات التجارية الإماراتية-التركية حتى في ذروة تراجع العلاقات السياسية بين الدولتين، كما أن الإمارات وبحكم تموضعها كأحد مراكز التجارة العالمية ووجود المكاتب الإقليمية للشركات العالمية فيها، ستتمركز فيها مكاتب فرعية لشركات “الواجهة” الإيرانية. 

هذه الشركات والمكاتب متخصصة بالالتفاف على العقوبات الأميركية، عدا وجود أكبر الجاليات الإيرانية على أراضي الإمارات، ومنهم نسبة كبيرة من رجال مال وأعمال، إضافة لعمليات تهريب للنفط الإيراني يديرها “الحرس الثوري “عبر قوارب صغيرة للوصول للسفن الكبرى على شواطئ الإمارات، قبل أن  وتقوم تلك السفن بمزج النفط الإيراني بنفط آخر غير إيراني. 

فضلا عن إدخال مواد كيميائية أو علامات يمكن أن تغير البصمة الجيوكيميائية للنفط الإيراني والتي بدورها تجعل التعرّف عليه أكثر صعوبة من قِبل المراقبينَ الدوليينَ، كتزوير شهادات المنشأ باعتباره عراقي أو ماليزي لتتم بعد  ذلك عمليات البيع لشركات أوروبية صغيرة.

وفق الباحث جلو، فإن الإمارات أكبر سوق لتبييض الأموال والتهرّب من العقوبات في العالم، وهو ما بدى واضحاً باستقطابها للأوليغارشية الروسية والذهب والاستثمارات الروسية أو الاستثمار في روسيا المعاقبة بأشد العقوبات، ولا سيما بعد الحرب الأوكرانية، متجاهلة أي ارتدادات سلبية، متحزمة في ذات الوقت بسلسلة إجراءات التفافية. 

وهذا لا يعني أنها على علم بكل عمليات الغسيل، فهي مرنة التعامل مع ملفات الغسيل من حيث مصلحتها في التغطية عنها أو فضحها كوسائل ضغط وتحصيل مكاسب ولا سيما ضد إيران، حسب وصف جلو.

مؤخرا تناولت دراسة أوروبية أعدها الباحث أندرياس كريغ، خفايا إدارة الإمارات شبكات عميقة في مجال غسيل الأموال حول العالم وجذب التمويل الدولي تحت إدارة ثلاثة من كبار المسؤولين في أبوظبي.

المسؤولون الثلاثة هم رئيس الإمارات الجديد محمد بن زايد ومنصور بن زايد وهو رجل أعمال ملياردير ووزير، وطحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن القومي لدولة الإمارات.

وبحسب الدراسة، فإن دبي كمركز مالي عالمي  مكان يسهل فيه القيام بأعمال تجارية وإخفاء الأموال، التي باتت جزءاً لا يتجزأ من أجندة الإمارات للسياسة الخارجية والأعمال، كما أن الشبكات التي زرعتها أبوظبي لخدمة تشمل شخصيات أجنبية مؤثرة، ومؤسسات تجارية، وبنوك، وجماعات ضغط في واشنطن، وحتى مراكز فكرية، وكثير منها إما مرتبط بمحافظ منصور الاستثمارية أو بمكتب طحنون للشؤون الاستراتيجية.

وجاء في الدراسة: “منذ غزو روسيا لأوكرانيا، ذهب التدفق الهائل للثروة الروسية المخبأة في الخارج في اتجاه واحد فقط بعيداً عن منازلها في لندن ونيويورك وغيرها من المدن التي كانت ذات يوم مرحّبة للهروب من الستار الحديدي الجديد للعقوبات الغربية”.

ويبدو أن إيران ماضية في مشروعها التوسعي مستخدمةً كل المُتاح من تكتيكات ملتوية وتجنيد عملاء ووسطاء لتأجيج الصراعات الإقليمية وزعزعة أمان المنطقة، إذ تبرز مطامح النظام الإيراني جليّة في تحقيق توسع إقليمي على حساب السلم العالمي، ومن المعلوم أن ذلك يتطلب تبني استراتيجيات مخالفة تستفيد من سياسات بعض الدول في تغليب مصالحها على حساب ضرب شعوب البلدان الأخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات