الواقع المر يقول إن روسيا تواصل امتصاص دماء السوريين، وهذه المرة من خلال “أفواج اللاذقية” فبعد أن اكتفت من غاراتها على منازلهم والتي زهقت أرواح كثيرة طيلة سنوات، باتت تأخذهم إلى مصير أقرب للموت من الحياة، عبر حشرهم في الطائرات وإنزالهم في إقليم سيبيريا البارد بانتظار مصير مجهول.

هذا المصير اختاره مئات بل آلاف من السوريين، بسبب الظروف المعيشية القاسية في بلدهم، وموسكو بدأت تعمل على تجنيدهم؛ لأن فرقة “فاغنر” أداة “الكرملين” لحروب الوكالة، تشهد تخلخلا هيكليا فاضحا عقب مقتل زعيمها  يفغيني بريغوجين في أيلول/ سبتمبر 2023. 

من المستغرب أن روسيا قد اعترفت بتجنيد السوريين وغيرهم من جنسيات عربية أخرى، وهو ما نشر في موقع “روسيا اليوم”، الناطق باللغة الإنجليزية، مطلع الشهر الحالي، في دلالة على انتهاج موسكو لسلوك مغاير للسابق بالنسبة للحرب في أوكرانيا. 

الموقع الروسي كان عنوان تقريره تبريريا، إذ جاء كالتالي: “جيش أممي حقيقي.. مقاتلون من النيجر ومصر وسوريا يحاربون إلى جانب روسيا”، في تأكيد على مشاركة “سوريين” إلى صفوف القوات الروسية الغازية لأوكرانيا منذ عامين.

واقعيا، تدفع الظروف الاقتصادية المعدمة، الكثير من الشبان السوريين إلى القبول بالإغراءات الروسية، وهو ما أكدته منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في تقرير سابق. 

المنظمة قالت، إن “المرتزقة السوريين يقاتلون إلى جانب الروس من أجل المال والراتب، حيث يتقاضى كل مقاتل سوري مع الجيش الروسي مبلغ 1400 دولار أميركي”، موضحة أنها تُدفع لهم بالأقساط، 800 دولار تسلّم لعائلاتهم في سوريا، و600 دولار تسلم لهم في روسيا، علما أن راتب المقاتل في “الجيش السوري” لا يتجاوز الـ 30 دولارا أميركيا. 

من اللاذقية: رحلات إلى الموت على شكل أفواج

مؤخرا، ومع بداية العام الجاري 2024، جنّد الجيش الروسي مجموعة من السوريين والمصريين، بعد أن منحهم الجنسية الروسية، للزج بهم في جبهات القتال المشتعلة بأوكرانيا، بحسب موقع “السويداء 24”.

هنا لا بد من الإشارة، إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وافق في  منتصف أيار/ مايو الماضي، على مرسوم يسهّل منح الجنسية الروسية للأجانب الذين أبرموا عقودا مع الجيش الروسي خلال غزو موسكو إلى أوكرانيا.

روسيا سيّرت رحلات جوية على شكل أفواج من مطار اللاذقية إلى موسكو، تقلّ عشرات السوريين من محافظات مختلفة، وبعضهم من السويداء، وجاءت عملية النقل بعد توقيعهم على عقود تجنيد بواسطة “مستقطبين” يعملون مع شركة أمنية روسية.

الرحلة انطلقت قبل نحو أسبوعين من مطار اللاذقية بطائرة مدنية إلى مطار موسكو، بحسب موقع “السويداء 24″، الذي لفت إلى أنه، فور وصول المسافرين إلى مطار موسكو، نقلتهم طائرة “اليوشن” عسكرية إلى مدينة في إقليم سيبيريا، علما أن الشبان الذين وقعوا عقودا باللغة الروسية، جرى جمعهم في مبان داخل المدينة التي نُقلوا إليها، دون إدراك المهام القتالية الموكلة إليهم.

في هذا السياق، يرى الباحث السوري في مركز “أبعاد للدراسات”، فراس فحام، أن روسيا تعمل الآن على إعادة هيكلة القوى المنضوية ضمن “فاغنر”، بعد تمرد زعيمها قبل موته، وتنشئ ما يعرف “بفيلق روسيا”. 

فحام يوضح في حديث مع “الحل نت”،أن  قاعدة “فيلق روسيا” الرئيسة، هي في شرق وجنوب ليبيا، ويسمى الفيلق الإفريقي الروسي ومخصص بشكل أساسي للنشاط في القارة الإفريقية انطلاقا من ليبيا، لذا يتم تجنيد مقاتلين سوريين وشيشان وطاجكستان وأوزبكستان للانضمام إلى الفيلق.

روسيا واستغلال حالة الفقر المجتمعي

حول الفرق بين الفيلق الجديد و”فاغنر”، يشير فحام، إلى أن “الأول يتبع بشكل مباشر إلى وزارة الدفاع الروسية، ويشرف على نشاطه وتأسيسه، نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكوروف، والغاية منه ليست المعارك لكن تأمين نفوذ روسيا والإمساك بحقول النفط التي كانت تنتشر فيها “فاغنر” سابقا، ودعم بعض الأنظمة الإفريقية المتحالفة مع روسيا، من أجل تأمين النفوذ الروسي. 

بشأن تداعيات الأمر على المجتمع السوري، وجد أنها “تكمن في إشكالية التسويق لحالة الارتزاق في الأوساط السورية، من خلال استغلال الفقر المجتمعي وغياب الخدمات من أجل زج المقاتلين السوريين في حروب أخرى، وهذا ينعكس على صورة الشعب السوري الذي يظهره كمصدر للمرتزقة”، حسب رأيه. 

بحسب التقارير المتبعة لدى “مركز جسور للدراسات”، فإن عملية تجنيد  مجموعات تابعة إلى حكومة دمشق للقتال في أوكرانيا بدأت في منتصف 2022، وكانت تشرف عليها “فاغنر” بشكل مباشر، وكانت تستهدف “الفرقة 25 اقتحام” و”لواء القدس” الفلسطيني الذي يقوده المهندس محمد السعيد، ومجموعات “الدفاع الوطني” التي درَبت في الصقيلبية وأعداد الموقعين منهم كبيرة جدا. 

بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، فإن أعداد المقاتلين السوريين الذين وصلوا بالفعل إلى الأراضي الأوكرانية بعد تجنيدهم من قبل موسكو، تقدر بنحو 2000 مقاتل حتى الآن، فيما ينحدر معظم المقاتلين الذين يتم تسفيرهم من “مطار اللاذقية”، من مدن حمص وحماة والسويداء.

الباحث والمحلل في الشؤون السياسية، وائل علوان، يقول إن هنالك “عمليات تجنيد أخرى تجرى في السويداء وريف دمشق ودير الزور”، مستدركاً أنه “لم يتم نقل هذه المجموعات التي تم تجنيدها من معسكرات التدريب بقاعدة حميميم وفي معسكر الصايد شرق حمص إلى جبهات أوكرانيا بعد، حيث كانت هنالك عمليات تدريب مستمرة، وعمليات تجنيد وتوقيع عقود”. 

يعود سبب عدم نقلهم، إلى “اعتماد روسيا على نقل المجموعات الأكثر كفاءة  والمدربة والتي خاضت معارك في سوريا وليس المجندين الجدد”، بحسب حديث علوان لـ “الحل نت”، وهو باحث ضمن وحدة معلومات “مركز جسور للدراسات”.

المحلل السوري يُشير، إلى أن المسألة تتعلق بحاجة روسيا إلى مقاتلين لديهم خبرة في المعارك الشديدة والطويلة وبيئة اقتحام المدن، فيما نوه إلى “توجه العديد من الدول على غرار روسيا، لعمليات جلب المرتزقة من أجل تجنب المسؤولية القانونية والاقتصادية والاجتماعية من زج جنودها في المعارك التي يعتقد وقوع خسائر بشرية فيها”.

هذا التنصل من المسؤولية، هو السبب في “نشوء شركات أمنية خلال العقدين الأخيرين، تزامنا مع سير الكثير من الدول ذات النفوذ خارج حدودها، والتهرب من المحاسبة حول الخسائر البشرية لجيش الدولة الوطني، وهذا مبدأ روسيا في التعامل مع المرتزقة في سوريا”، يقول علوان. 

حرب عصابات: سر لجوء موسكو إلى الأجانب

في تقييم استخباراتي أميركي تم رفع السرية عنه في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، تم الكشف عن صدمة الخسائر الهائلة التي تكبدتها القوات الروسية منذ بداية الغزو لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022 إلى الآن. 

التقييم أظهر، أن أكثر من 315 ألف عسكري روسي سقطوا بين قتيل وجريح في الأراضي الأوكرانية، فيما بلغت خسائر الروس أيضا أكثر من 2000 دبابة، وهذا التقرير الاستخباراتي الأميركي يعد مؤشرا على التأثير البالغ الذي تركته الحملة العسكرية الأوكرانية على الجيش الروسي، حيث يُظهر الأثر الواضح لهذه الخسائر على الإمكانيات والتكتيك العسكري لروسيا.

فيما يتعلق بلجوء روسيا إلى الأجانب، خاصة السوريين، يفسّر المحلل السياسي، يحيى السيد عمر، أن القتال في أوكرانيا يأخذ شكل حرب العصابات، وفي هذا النوع من الحروب يعد العامل البشري حاسم بها، ويتفوق في بعض الحالات على العامل التكنولوجي، كما تعد الخسائر البشرية مرتفعة نسبيا في هكذا حروب”.

قوات روسية، قاعدة حميميم في سوريا (أ ف ب)

عمر يردف في حديث مع “الحل نت”، أنه نظرا لتعرض روسيا لخسائر بشرية كبيرة، وكونها لا تريد خسارة نخبتها العسكرية في هذه الحرب، فهي “تستعين بالمرتزقة”، مبينا، أن موسكو كانت تعتمد في السابق على قوات “فاغنر”، أما حاليا فيتم الاعتماد على السوريين والشيشان والأوزبك وغيرهم.

السيد عمر مضى في تفسير ذلك بقوله، إن “التكاليف المدفوعة للمرتزقة تقل عن تكلفة تدريب مقاتلي الجيش الروسي، لذلك يعد الاعتماد على المرتزقة قضية ذات جدوى اقتصادية مقارنة بخسارة الجنود الروس، فالأمر يعد تكتيك عسكري أكثر منه ضعف”. 

أما فيما يتعلق بعدم معارضة الحكومة السورية لانضمام المقاتلين السوريين في الحرب على أوكرانيا، فإن سبب ذلك يعود إلى أنها لا تملك الخيار في الموافقة أو الرفض، كما أنه “من الممكن أن تحصل على عمولة مقابل إرسال المقاتلين”، وفق السيد عمر.

لماذا لا تعارض دمشق تجنيد السوريين؟

ما يجب ذكره، أن الشركات التي تقف وراء تجنيد السوريين، تمنح ضمانات لحصول أسر المقاتلين على تعويضات مالية عند مقتلهم أو إصابتهم بجروح خلال مشاركتهم في الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ من المقرر أن تحصل عائلة المقاتل على تعويض مالي تبلغ قيمته 15 ألف يورو عند مقتله. وعلى 7000 يورو عند إصابته بجروح بليغة، وفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”. 

من ناحية تأثير هذه القضية على المجتمع السوري، يؤكد عمر، أنها “ذات تأثيرات خطيرة، فالمجتمع السوري يعاني من ارتفاع معدل الإناث مقابل الذكور، نتيجة موت العديد من الشباب في الحرب، وحاليا هجرة الشباب إلى روسيا للحرب تزيد من هذه الأزمة، كما أن العديد من الشبان لا يعودون، إما بسبب موتهم في أوكرانيا أو نتيجة استقرارهم في روسيا، وهذا يزيد من حدة أزمات المجتمع السوري، مثل تراجع معدلات الزواج، وتراجع إنتاجية المجتمع، وغيرها من الأزمات”. 

الجدير بالذكر، أن روسيا سبق لها وأن جنّدت سوريين في مناطق سيطرة الحكومة السورية للقتال إلى جانبها في ليبيا وأذربيجان، ولذا فإنه من غير المستبعَد أن تزجّ موسكو بأولئك الشبان في حربها الدائرة مع أوكرانيا منذ نحو عام 2022.

الباحث السوري، عباس شريفة يوضح في حديث مع “الحل نت”، أن الخطوة الروسية جاءت؛ لأن “هناك نقصا في فاغنر، لكن روسيا لا تريد تحمل فاتورة الخسائر البشرية من أجل تجنب رد فعل المقاتلين وذويهم الروس”، مردفا أن الرواتب التي تدفع للمقاتلين السوريين أقل بكثير من التي تدفع للمقاتلين الروس على الجبهات، وبذلك توفير للموارد المالية والبشرية وعدم تحمل الكلفة السياسية والضغط الاجتماعي في الداخل الروسي. 

شريفة يقول، إن “النظام السوري لا يعارض الروس لأنه داعم سياسي وأمني لروسيا، وهذه الفرقة بالذات (25 اقتحام) لا سلطة للنظام عليها ولا يريد أن يواجه روسيا ويوتّر العلاقة في هذا الصدد، خاصة في ظل المصلحة المتبادلة بين موسكو ودمشق”، لافتا في الوقت نفسه، إلى أن دمشق ترغب في  التخلص من ضغط المقاتلين الذين هم بحاجة إلى رواتب مع توقف المعارك على الأرض. 

يأتي ذلك بعد أكثر من 8 سنوات على تواجد الشبح الروسي في سوريا خلال أيلول/ سبتمبر 2015، فيما قتلت القوات والطائرات الروسية نحو 7 آلاف مدني سوري منذ دخولها للأراضي السورية، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”. 

في النهاية، فإن الخسائر البشرية الفادحة التي تكبدتها روسيا في حرب أوكرانيا، دفعتها خشية من أي ردة فعل غير متوقعة يقوم بها الشعب بأي لحظة ضد “الكرملين”، دفعت موسكو إلى تجنيد السوريين في محرقة ستأكل الأخضر واليابس، مستغلة العوز الاقتصادي للشباب السوري، الذي كانت روسيا طرفا أساسيا في صنعه بسوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات