الاقتصاد الموازي: كيف يستخدم “حزب الله” الدولة كجهاز خدمي لتأمين الميلشيات الولائية؟

يمثّل الاقتصاد والسياسة متلازمة حيوية وفاعلة في المشهد السياسي لأي مجتمع، كما أنه ممرٌّ فاعل لكل سلطة حين ترغب في أن تمضي إلى أهدافها وغاياتها، فضلاً عن كونهما معاً سبيل الكشف عن الوضع الطَبقي المسيطر والمهيمن على وسائل الإنتاج، وكذا مقدرات السلطة النافذة، مما يسمح بإنتاج وتوليد شرائح طبقية متباينة بعضها يتّصل عضوياً بمصالح السلطة ويرتبط بها، والبعض الآخر من الفئات الأضعف والمهمّشة التي تقوم للحصول على حقوق وامتيازات.

“حزب الله” بدوره منذ ثمانينات القرن الماضي نفّذ منهجية عمله وحركته في لبنان نحو العمل على بناء ترسانته العسكرية، وكذا المُضي قدماً نحو إنشاء وتنمية اقتصاده من خارج المؤسسات الرسمية. الأمر الذي من خلاله أقام وشيّد هيكل الاقتصاد الموازي في لبنان عبر مؤسسات متعددة ومختلفة. فضلاً عن أرصدة التمويل الخارجي التي تأتي مباشرة من خلال الدعم الإيراني، والتي قدّرتها بعض المصادر بمبالغ تربو على 600 مليون دولار.

شبكة أموال طائفية

ثمة ارتباط حقيقي وموضوعي فيما بين المال والاقتصاد، ونشأة وميلاد تنظيمات الإسلام السياسي بتنويعاتها السّنية والشيعية. إذ من اليقين أن تجد روابط موضوعية، ودلائل يقينية، في ما بين تلك التنظيمات والمكاسب الاقتصادية التي توافرت لها وجعلتها تتسيّد الفضاء الاجتماعي والمجال العام والسياسي، ومن يمثّل ذلك من طبقات وشرائح اجتماعية خاصة في مراحل التّحول والانتقال المجتمعي والاقتصادي والسياسي.

في هذه الصورة الأرشيفية التي قدمها المكتب الصحفي للحكومة الإسرائيلية (GPO)، نساء لبنانيات يمررن تحت أنقاض موقع مسلح مدمر خلال حملة “سلام الجليل” العسكرية الإسرائيلية في تموز (يوليو) 1 تشرين الأول 1982 في عين الحلوة في لبنان. (تصوير يعقوب ساعر/غيتي)

يضم الاقتصاد الموازي الذي يدير به “حزب الله” في لبنان شبكة أمواله الطائفية، مجموعة من المؤسسات الاجتماعية، مثل مؤسسة “الشهداء” و جمعية “الإمداد” الخيرية وشركات مقاولات وتعهّدات أشغال بُنى تحتية مثل شركة “البنيان” للهندسة والمقاولات، بالإضافة إلى تعاونيات استهلاكية مثل سوبر ماركت “الموسوي ستار” وشركات إنتاج الألبان والأجبان وشركات تصنيع المطاط الصناعي وتجارة السيارات.

فيما دأب “حزب الله” على التسلل داخل المجتمع اللبناني والنمو على تخومه الاجتماعية والاقتصادية كحركة جماهيرية، والعمل على ذلك من خلال هياكل التنظيم الداخلي للحزب، وشبكته الكبيرة من مختلف المؤسسات، والأخيرة عملت على تغلغل أفكار الحزب داخل المجتمع الشيعي وفرض نفوذه عبر توفير الخدمات الضرورية من خلال أربعة قطاعات حيوية: الدور الدعائي المجتمعي، المؤسسات الدينية، ونشاط الإعلام والثقافة، ثم التربية والتعليم والعمل الشبابي.

الأكاديمي السويسري من أصول سورية جوزيف ضاهر في كتابه: “حزب الله: الاقتصاد السياسي لحزب الله في لبنان”، يشتبك عبر فصول الكتاب مع جدلية المال و التنظيمات الإسلاموية من خلال الإضاءة على “حزب الله” كنموذج لتلك التنظيمات في صورتها الشيعية، وتعرية آليات عملها واشتغالها الخفي والمُعلن على إنتاج طبقة بورجوازية شيعية تضمن لها سلامة بنيتها وديمومة عملها وسط بيئة حاضنة لأهدافها ومعبّرة عن مصالحها.

من خلال ذلك يشتبك جوزيف ضاهر في كتابه مع مسألة تطوّر الاقتصاد السياسي اللبناني في الفترة بين عامي 1990 و 2020. إذ تغطي هذه الفترة نهاية الحرب الأهلية والتّحولات الهائلة التي خاضتها لبنان حتى الوصول لانسداد سياسي وتلامس الإفلاس وكل منهما بدأ وهناك أزمة معبرة عرفت بأزمة النفايات والتي عبّر عنها اللبنانيون في انتفاضتهم الأولى بـ”طلعت ريحتكم” في إشارة لفساد الطبقة الحاكمة قبل انتفاضة تشرين الأخيرة. 

وما يتصل بالشيعة اللبنانيين يمكن مراقبة تآكل الحواضن الشيعية ونبذ “حزب الله” سياسيا وفقدانه الشرعية، تحديداً نتيجة الأزمات الاجتماعية والتَبعية لإيران بصورة قصوى والانخراط في الصراع بسوريا وعودة الشباب اللبنانيين في توابيت في حرب “لا ناقة لهم فيها ولا جمل”. 

برجوازية شيعية جديدة

لا يمكن تجاوز أن الشيعة اللبنانيين كانت مكانتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية أدنى على نحوٍ ملحوظ من بقية الطوائف اللبنانية عند نهاية الحرب الأهلية، ثم تغيّر الأمر وتبدل بشكل لافت وكذا تقسيمات شرائحهم الطبقية على خلفية تطوّر “حزب الله” كتنظيم سياسي له أهداف اقتصادية ومالية طائفية ومناطقية بامتياز.

صاحب متجر للهدايا التذكارية يعرض نظارات مزينة بصور حسن نصر الله، زعيم جماعة حزب الله الشيعية في لبنان، في ضاحية بيروت الجنوبية في 12 مايو 2016. (باتريك باز /أ ف ب)

يوضح ذلك جوزيف ضاهر في كتابه الاقتصاد السياسي لـ”حزب الله” في لبنان بشكل تفصيلي لافت. إذ عرض تطوّر فكرته عبر استقصاء ثلاث دراسات حالة في مناطق يتمتع فيها “حزب الله” بنفوذٍ وسيطرة كبيرين، إدارة السياسة العمرانية في بلدية الغبيري، والمواقف من قوانين ضبط الإيجارات في بيروت، والسياسة الزراعية في سهل البقاع.

إلى ذلك يرى المؤلف أن ذلك كله كان له أثرٌ كبير في صياغة التشريح الطبقي للمجتمع اللبناني، خاصة على مستوى السكان الشيعة مما أدى لتشكّل ما أُطلق عليه “برجوازية شيعية جديدة” ضمن مختلف قطاعات الاقتصاد. 

كما أن ذلك ساهم بشكل أو بآخر في “إعادة توازن السلطة الطائفية على مستوى البلد”؛ غير أنه أردف قائلا إن ذلك لم يسمح لمفهوم العدالة والمنافسة العادلة أن ينفذ بين أبناء المجتمع الواحد، بالتالي فقد ظل العديد من الشيعة في حالة تهميش في جميع المناطق الريفية والحضرية الهامة بعد ذلك.

تجلت خطة الاقتصاد الموازي واختراق مؤسسات الدولة من خلال خطوة تأسيس “حزب الله” لجمعية “القرض الحسن” عقِب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وترخيصها من وزارة الداخلية اللبنانية عام 1987. 

على الرغم من مزاولتها العمل المصرفي إلا أن تلك الجمعية غير مدرجة على لائحة المصارف المرخّصة من مصرف لبنان، وتشير المعلومات إلى أن “الحزب” يخصص للجمعية موازنة كبيرة ويسلّم بعض رواتب منتسبيها من خلالها.

وأشارت مصادر إعلامية لبنانية إلى أن المؤسسة استحدثت أخيراً خدمة الصراف الآلي (ATM) وبدأت اعتمادها في بعض فروعها المنتشرة على الأراضي اللبنانية مضيفة وفق ما نقل الكتاب أن “بطاقة الصرّاف الآلي تُقدم للمشترك تسهيلات عدة ومنها سحب الأموال بالدولار الأميركي للعملاء الذين يملكون حساباً بالدولار” مما طرح تساؤلات كبيرة حول تأمين السيولة في وقت تُقلّص فيه المصارف اللبنانية خدماتها وتضع سقوفاً منخفضة على السحوبات بالعملة اللبنانية والدولار، بحسب بيانات صحفية وإعلامية.

“حزب الله” وغسل الأدمغة

نحو ذلك يربط الكاتب والصحفي اللبناني، حنا صالح، نشأة “حزب الله” كنتيجة مباشرة لاستثمارات إيران السياسية في الشرق الأوسط، وذلك عبر تشكيل الأذرع الميليشياوية التي أنشأتها طهران لمراكمة أرصدة إيران في سياستها الإقليمية التوسعية ومشروع هيمنتها.

الاقتصاد الموازي كيف يستخدم حزب الله الدولة كجهاز خدمي لتأمين الميلشيات الولائية؟ (1)
متظاهرون مناهضون للحكومة يجلسون على لافتة طريق على الجسر الدائري، الذي كان في وقت سابق مسرحاً لمواجهة عنيفة بين المتظاهرين والأشخاص الذين أرادوا إعادة فتح الطريق، وكان الكثير منهم من أنصار حزب الله وحركة أمل في لبنان، في 29 أكتوبر 2019، في بيروت، لبنان. (تصوير سام تارلينج / غيتي)

فيحتشد “حزب الله” في قلب هذه الميلشيا بجانب “الحشد الشعبي” في العراق والميليشيات “الحوثية” في اليمن وغيرهما، وهي خطوط دفاعية خارجية عن إيران توظّفها في مواجهة الغرب والولايات المتحدة الأميركية.

يتابع صالح في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، بقوله إنه منذ نشأة “حزب الله” اعتمد على ما يُعرف بـ “محور الممانعة” منذ منتصف الثمانينات على السلطة السياسية في سوريا وطهران، وبدا منذ اللحظة الأولى يتسق مع ذهنية و عقيدة “ولاية الفقيه” بتكوين تنظيمات على تخوم مؤسسات الدولة. 

من خلال ذلك نجد أن “حزب الله” في لبنان أسّس جيشاً وعدداً من المؤسسات كرديفٍ داخل الدولة، وعبر ذلك تبصر القضاء والمحاكم والسجون والأهم في منظومة “حزب الله” الجانب الاقتصادي والعمل المالي.

من خلال ذلك تجد جمعية “القرض الحسن” وهو مصرف “حزب الله” الذي اعتمد على “غسل أدمغة فئة لبنانية واسعة” لكي يضعوا أموالهم لديه وأمسى حركة مالية واقتصادية كبيرة تغطي نشاطاته. بيد أن “حزب الله” كتنظيم أساسي في “فيلق القدس” يضطلع بمهامٍ أمام أكبر بكثير من أن يتمكن تأمين كلفتها في الداخل اللبناني. 

لذا تعتمد على إيران بمبالغ باهظة تصل في بعض التقديرات نحو مئات الملايين من الدولارات، وكذا دور “حزب الله” في عملية تهريب المخدرات وتهريب “الكبتاغون” بالاتفاق مع الجيش السوري، وكل القضايا الممنوعة التي تدرّ على الميليشيات الإيرانية الأموال الكبيرة، بحسب الصحفي اللبناني حنا صالح.

يصيغ صالح ضمن تصريحاته لـ”الحل نت”، سياق عمل “حزب الله” ضمن ثغرة دول الشرق الأوسط في الممارسات السياسية والديمقراطية من خلال حرص دول المنطقة على إنشاء جيوشٍ وقوى أمنية لحماية كراسي منظومة السلطة. 

ونحو ذلك استفاد “حزب الله” بأن يكون بديلا لمؤسسة الدولة بمفهومها الحديث الذي يحتكر أدوات السلطة وفق نظرية ماكس فيبر. غير أن واقع “حزب الله” ومثيلاته يهيمن على السلطة ويمارسها من خارجها وذلك يعني أنه يُملي على البلد رؤى السلطة الحقيقية كقوة أمرٍ واقع عسكرية وسياسية واقتصادية ومالية من خارج الدولة.

اقتصاد موازٍ

يشير حنا صالح، إلى إطار سياسي إبّان انفجار أحداث تشرين عام 2019، ضد الفساد والارتهان للقرارات الخارجية كإيران، إذ تنبّه “حزب الله” للقلق حينها كون ذلك المرة الأولى التي يتحرك فيها الشعب اللبناني من أقصى الجنوب إلى الشمال وعبر كافة الطوائف متجاوزينَ كل التقسيمات التقليدية الجهوية والمناطقية والمربعات الطائفية والأمنية التي شكّلها، وبدا حينها ذلك أن الحِراك سيؤدي لضعف وحلحلة الحركة.

رجل يقف لالتقاط صورة مع قطع من الورق المقوى لحسن نصر الله (يسار)، زعيم حزب الله الشيعي اللبناني، ووزير الخارجية السابق جبران باسيل، معلقين من قبل متظاهرين لبنانيين في وسط بيروت في 8 أغسطس 2020، خلال مظاهرة ضد قيادة سياسية يتهمونها بالمسؤولية عن الانفجار الوحشي الذي أودى بحياة أكثر من 150 شخصا وشوه العاصمة بيروت. (وكالة فرانس برس)

يقينا، لا يستطيع “حزب الله” أن يهدد شعب بكامله في الشارع، ويخرج مئات الآلاف منه يومياً في كل المناطق؛ لذلك “حزب الله” من اللحظة الأولى تنبّه للخطر، وبدأ يستفرد بجماعات الثورة ويحرق الخيام ويمنع الساحات ويمنع التجمعات ويعتدي على المتظاهرين بينما كانت الطبقة السياسية قررت الاختفاء.

في ذلك التوقيت ظهر “حزب الله” المدافع الأول والرئيس عن نظام المحاصصة الطائفية الذي يوزّع الحصص بين أركان الطبقة السياسية، وتكون كلفة ذلك وعوائده دوما من جيوب ومستقبل اللبنانيين.

يمضي حنا صالح في تصريحاته بالقول، إن قاعدة “حزب الله” الاجتماعية تمحورت حول فقراء الشيعة وبعض مكونات البرجوازية الصغيرة، لكنها تمددت لاحقاً بين مكونات الشيعة اللبنانيين لتشمل جميع الشرائح الاجتماعية كافة، الأمر الذي منحها دعم سياسي واجتماعي كبير وسط البرجوازية الشيعية النامية والمتواجدة في الداخل اللبناني.

ويختتم الصحفي اللبناني حديثه لـ”الحل نت” بقوله: إنه عبر ذلك كله استطاعت إيران أن تخلق دولة موازية في الفضاء اللبناني من خلال “حزب الله”، ويتماثل ذلك مع نظرية “الولي الفقيه” في المذهبية الإيرانية التي تأتي فوق الدولة بمفهومها السياسي كما فعل بـ”حزب الله” بلبنان. 

إذ يمتلك الأخير السلاح والمال والاقتصاد الموازي على خلاف فكرة الدولة بالعصر الحديث بمعنى حصرية السلاح واحتكار الدولة للعنف وحماية الجيش النظامي للحدود السياسية. في لبنان حدث ذلك من خلال “حزب الله”. 

بعبارة مقتضبة، إن “حزب الله” الوكيل المحلي لإيران بالمنطقة سعى لتقويض الدولة وإدارتها من خلال السيطرة على مفاصلها والهيمنة على عمقها ومؤسساتها الحيوية. 

وهي في كل الأحوال فكرة الإسلام السياسي المعاصر تاريخيا الذي لا يملك تصورات لصناعة وتأسيس الدولة يباشر من خلالها حكمه، إنما يسعى طوال الوقت إلى القفز على الدولة الحديثة التي يضمر تجاهها كراهية وعداوة ويصفها بـ”الكافرة” ثم يقوم بأسلمتها بشكل فوري. وهذا تحديدا ما جرى في إيران وتحوّل إلى اشتهاء سياسي لدى القوى المماثلة وتخفق فيه مراراً كما حدث في مصر وتونس بعد الربيع العربي.

لذلك نجد “حزب الله” في لبنان مثلما هناك الاقتصاد الرسمي والمصارف التابعة للدولة ووزراء الاقتصاد والمالية، فثمة اقتصاد موازٍ واختراق لبنية الدولة ممثلة في الوزراء والمسؤولين عبر “حزب الله” ومؤسساته التي تمثّل رديفا لكافة أجهزة الدولة. 

ومن خلال ذلك تستطيع التدقيق في كون “حزب الله” وإيران يمتلكا بشكل أو بآخر عدة تنظيمات ومؤسسات اقتصادية وتجارية ومالية على مستوى العالم لإدارة التهريب تحديداً في ما يخصّ النفط وطريقة بيعه وتوظيف علاقاتها الدولية خاصة مع روسيا وفنزويلا للهروب من العقوبات الغربية، وذلك بمعنى تدشين نظام اقتصادي على هامش النظام الاقتصادي المعروف والمتعارف عليه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات