ثمّة يقين أنه من المستبعد جريان حدث يختص بالشأن العسكري والميداني، وما يتصل بذلك من سياق سياسي كسبب أو نتيجة تفضي إليه، في الفراغ ومن دون حسابات واضحة ومحددة، كما أنه من التعسف منطقياً تراكم عدد من الضربات العسكرية على نطاق جيوسياسي وعلى تخوم جغرافيا ساخنة وبؤر توتر دون ترقب نتيجة مباشرة أو غير مباشرة في الأفق المنظور، خاصة عندما يرتبط ذلك داخل إطار واحد، يتعلق بدول وتنظيمات بعينها، وضد أهداف ترتبط بالتبعية بمصالحها.

منذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شهدت جغرافيا جنوب لبنان استهدافات يومية للمواقع والمستوطنات الإسرائيلية المحاذية للحدود اللبنانية، وتبنت عدة تنظيمات مسؤولية تلك الضربات كان من بين منفذيها ميليشيات “قوات الفجر” الجناح المسلح للجماعة الإسلامية (فرع الإخوان المسلمين بلبنان)، وكذا بيان كتائب “العز الإسلامية” ذلك التنظيم المجهول الذي أعلن مسؤوليته عن هجمات الرابع عشر من كانون الثاني/يناير الجاري.

“حزب الله” يتلاعب بالسنة

تلفت تحركات قوات “الفجر” مؤخراً، إلى ذلك التنسيق الميداني فيما بينها وبين “حزب الله” وفقا لما جاء في تصريحات رئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية في لبنان علي أبو ياسين، الأمر الذي يشير إلى أن “حزب الله” سمح وسهل لقوات “الفجر” العمل الميداني في الجنوب اللبناني، حيث يسيطر فعلياً على خطوط التماس مع الجيش الإسرائيلي. 

زعيم حزب الله حسن نصر الله يلقي خطابا متلفزا في خربة سلم بجنوب لبنان في 14 يناير 2024، بمناسبة مرور أسبوع على مقتل القائد الميداني وسام الطويل. (تصوير محمود الزيات/وكالة الصحافة الفرنسية)

ولا ينبغي تصور حدوث أي تحركات في تلك المساحة الاستثنائية دون موافقة “حزب الله” وفقا لرؤاه التكتيكية وخططه في المرحلة الحالية، سواء من خلال ترقب سقف الصراع على الحدود اللبنانية، وأيضا عبر مستوى معركة لي الذراع بين واشنطن وطهران.

بدت الأيام الأخيرة وكأنها تحمل مرة رسائل طهران، ومرة أخرى عبر وكلائها في لبنان واليمن برفع دقيق ومحسوب لدرجة التوتر على مسرح الأحداث من خلال ما قامت به إيران بتوجيه ضربات صاروخية داخل سوريا، وإقليم كردستان العراق، ثم عبر قصف “حزب الله” لإسرائيل غير مرة وهجمات ميليشيا “الحوثي” التي تستهدف السفن التجارية والنفطية المرتبطة قرب باب المندب وفي عمق البحر الأحمر. 

واستهداف فصائل عراقية لقواعد تضم قوات أميركية في العراق وسوريا على خلفية الحرب في غزة؛ بيد أنها على المستوى الاستراتيجي تحرص، إيران، على أن يكون ذلك بعيدا عن التسبب في سيولة كاملة على مسرح الأحداث ما يؤدي إلى الاشتباك داخل مواجهات مباشرة.

إلى ذلك أعلن “الحرس الثوري” الإيراني، خلال ساعات الليل فيما بين الإثنين والثلاثاء، أنه استهدف بصواريخ باليستية ما اعتبره حسب زعمه “مقار تجسس وتجمع الجماعات الإرهابية المناهضة لإيران في المنطقة”، مؤكداً تدمير “مقر لجهاز “موساد” في إقليم كردستان وتجمعات لتنظيم “داعش” في سوريا.

وأكد “الحرس الثوري” أن هذه الضربات، إنما أتت رداً على هجمات مباشرة وغير مباشرة تعرضت لها إيران في الآونة الأخيرة، خصوصاً عمليات اغتيال منسوبة إلى إسرائيل طاولت أسماء بارزة في ما يعرف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده طهران، وهجمات دامية في جنوب إيران بينها تفجيران انتحاريان تبناهما تنظيم “داعش”.

هذا وقد شهد فجر الأحد الرابع عشر من شهر كانون الثاني/ يناير الجاري، عملية عسكرية على الحدود اللبنانية. إذ سعت مجموعة من المقاتلين لم تعرف هويتهم نحو التقدم إزاء موقع إسرائيلي في مزارع شبعا. وقال الجيش الإسرائيلي إنه تصدى للمجموعة وقتل عناصرها الثلاثة فيما أصيب خمسة جنود إسرائيليين بحالات متفاوتة.

شرعنة متوهمة أم توسعة للصراع

نحو ذلك أشار فصيل مجهول قدم نفسه باسم “كتائب العز الإسلامية”، إلى أن مقاتليه نفذوا ذلك الهجوم على موقع رويسات العلم في مزارع شبعا، وقتل ثلاثة عناصر، فيما عاد اثنان سالمين إلى مواقعهما، وقال في بيان إن العملية جاءت رداً على استهداف مجموعة رصد في المنطقة نفسها يوم الجمعة، وأسفر القصف الإسرائيلي عن مقتل ثلاثة من عناصر القوة.

“كتائب العز الإسلامية” تنظيم جديد يربك الساحة في لبنان – إنترنت

وجاء في البيان في نقطة لافتة أن الفصيل فقد مقاتليه بعد أن أمضوا في النقطة الإسرائيلية خمس وثلاثين ساعة في مهمة استطلاعية.

القراءة الدقيقة لذلك الفصيل يشي بأننا، ربما، صوب تنظيم جديد كأنه يقدم نفسه للمرة الأولى في لبنان وعلى مسرح العمليات الميدانية المحتدمة بالفعل وفي عمق بؤرة ملتهبة إقليمياً، وكذا أن “كتائب العز الإسلامية” تتحرك إزاء هدفين محددين لا ثالث لهما بحسب البيان، لبنان ودعم حركة “حماس” أو بالأحرى الجناح العسكري لها كتائب “القسام”، تحديداً. 

وذلك كله يشتبك بالكلية مع التوجهات الاستراتيجية لإيران ومصالحها المشبوهة، في مسار الصراع الممتد مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل.

على جانب آخر متصل ينبغي فهم انطلاق تلك العملية من جغرافيا الجنوب اللبناني الذي يقبض عليه “حزب الله” بالكلية، ولا يمكن تصور تلك التحركات سوى من خلال موافقة مباشرة أو ضمنية من “حزب الله” عليها إلا ارتباطاً برؤية “الحزب” لواقعه المأزوم في الداخل اللبناني، ومدى الارتباك الذي يواجهه من المواطن اللبناني باعتبار “الحزب” المسؤول المباشر عن الانفلات والسيولة الأمنية عبر الحدود المشتركة مع إسرائيل. 

فضلا عن تهديد البلاد نحو جرها لنزيف جديد مما يدفع الحزب المدعوم من إيران نحو كف البصر مرتين عن أي تحركات تحدث في مناطقه، وكذا تخطيط وتنفيذ أي عملية. الأمر الذي يحشد شركاء آخرين معه في تلك العمليات الميدانية، ويبعد عنه المسؤولية المباشرة فضلاً عن تحقيقه هدف طهران بوضع لبنان منصة تحمل رسائل طهران الساخنة. 

في هذا السياق قال النائب اللبناني، أشرف ريفي، إن “حزب الله لا ينفك نحو استحداث العديد من التنظيمات بل إنه يسعى لتوسيع دائرة المنظمات وبخاصة السنية لشرعنة نشاطه الميداني و الاصطفافات الموجودة التي تعمل لصالحه، فهو يسعى طوال الوقت لبناء كتل عسكرية مسلحة للتأكيد على وجود حواضن سنية معه”. 

استراتيجية خطيرة

توالي العناصر المسلحة وفقا لحديث ريفي لـ”الحل نت”، والتي تباشر نشاطها الميداني ضمن إطار دعائي بواسطة “حزب الله” للقيام بمهام ميدانية من خلال أسماء وهمية خاصة عندما يتماهى ذلك مع الوضع السياسي والمحددات الأمنية، يأتي لتحقيق هدف التهرب من المسؤولية والمواجهة المباشرة. 

عمال الطوارئ الإسرائيليون يتفقدون طريقًا متضررًا، بعد أن أصيب بصاروخ أطلق من لبنان في 11 كانون الثاني (يناير) 2024 في كريات شمونة، إسرائيل. (تصوير أمير ليفي /غيتي)

وأضاف ريفي في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، ثمة سيناريوهات عديدة ينبغي النظر إليها والتدقيق فيها عند الاشتباك مع تنظيم “العز” كتنظيم بهوية مذهبية معينة وانطلاقاً من خبرتنا الأمنية فإن إيران بأهدافها ورؤيتها لإدارة الصراع على جبهات مختلفة، وفي ظل وقائع مماثلة بمناطق نفوذها الإقليمي، وكذا الوكلاء الفاعلين دوماً فهي تلجأ نحو العمل من خلال هكذا تنظيمات لتحميلها مسؤولية عمل أمني بعيداًعن كلفة تلك المسؤولية المباشرة، وكذا الحمولة السياسية المترتبة عليها.

كما رأى النائب اللبناني، والذي سبق وتولى وزارة الداخلية والعدل في حكومات سابقة، أن “الحزب المدعوم من طهران، لا يتورع عن استخدام تنظيمات أخرى مختلفة في مرجعياتها الطائفية لتوسيع شرعيتها والتخفي خلف الجسد التنظيمي الذي يبدو ظاهرياً لا ينتمي للشيعية السياسية الولائية إنما يؤدي ضمناً مصالح الطبقة السياسية التي تقوم على المحاصصة الطائفية”.

وختم ريفي تصريحاته قائلاً: إن “حزب الله يتولى وحده السيطرة التامة على الحدود الجنوبية وليس من المعقول ميدانياً وعسكرياً أن تكون هناك أطراف تعمل خارج إدارته وإرادته حتماً”.

وفيما لم يعلن حتى اللحظة أي طرف عن هوية وشخصية ذلك التنظيم، وماهية جنسيته وتبعيته الحقيقية، أشارت مصادر أمنية لبنانية أن هذا الفصيل لا يزال غامضاً، وليست هناك أدنى معلومات واضحة ومحددة عنه حتى اللحظة. 

محاولة لإنشاء حليف وهمي

العميد ركن متقاعد، سعيد القزح، من الجيش اللبناني، قال إنه ما زالت المعلومات عن “كتائب العز الإسلامية ” غامضة وغير متوفرة، لكنه أردف قائلاً في سياق تصريحاته التي خص بها “الحل نت”، إنه في هذا الواقع المتوتر ميدانياً والذي يزداد سخونة “لا أرى أي مفاعيل حقيقية لتلك العملية المحدودة ولن يكون لها أي تأثير على مجريات الحرب في لبنان كون الفاعل الرئيس في الأمور ومن يحدد مسارات الأمور ومدى تطور منسوبها الميداني والسياسي هو حزب الله وإسرائيل”.

جندي إسرائيلي يوجه وحدة مدفعية بالقرب من الحدود مع لبنان في 11 يناير/كانون الثاني 2024 في شمال إسرائيل. (تصوير أمير ليفي /غيتي)

ويلفت سعيد القزح العميد ركن المتقاعد، إلى أنه ينبغي التيقن أن أي تحرك عسكري في جنوب الليطاني على الحدود اللبنانية الإسرائيلية إن لم يكن بتوجيه من “حزب الله” فهو على الأكيد بمعرفته التامة، وبغض نظر منه لما يراه يمضي في سياق أهدافه التكتيكية، ومحددات سياسة طهران الخارجية سواء في إطار الصراع مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية، أو فرض وبسط الهيمنة في محيط الشرق الأوسط.

بدوره، قال الأكاديمي اللبناني الدكتور علي خليفة، المؤسس في حركة “التحرر” من أجل لبنان، إن “كتائب العز الإسلامية” لا يمكن أن تكون فصيلاً مسلحا مستقلا في الميدان الخاضع تماما لنفوذ حزب الله عند الحدود اللبنانية الجنوبية.

تابع الأكاديمي اللبناني علي خليفة في إطار تصريحاته لـ”الحل نت”، أنه معلوم كون “حزب الله” ينتزع دور الدولة اللبنانية في الدفاع والأمن، بينما يمتنع عن تطبيق قرارات الشرعية الدولية لا سيما منها القراران 1559 و 1701 بما يعرض المصلحة الوطنية العليا للبلاد للخطر الدائم، والعدوان عليه في أية لحظة. ولكن أكثر من ذلك كله هو أن “حزب الله” يختزل الميدان ويصادر وحده دون سواه القرار العسكري في مناطق نفوذه وبلا منازع وكل التنظيمات والفصائل العسكرية السنية الأخرى المعلن عنها أو الناشئة لتوها عليها أن تعمل تحت جناح “حزب الله” أو بالتنسيق معه أو يغض الحزب طرفه عنها لغايات معينة وحسابات خاصة به أو تعليمات مباشرة بذلك من إيران.

غطاء لأهداف مخفية

إشارة خليفة تتمحور حول أن “حزب الله” يشعر، حالياً، بالضغط الكبير نتيجة عدم التفاف اللبنانيين حوله، هذه المرة في قراره بفتح الجبهة الجنوبية. 

الوجه الآخر لـ"حزب الله": استخدام التنظيمات السنية لإنشاء حليف وهمي!
رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي خلال لقاء مع المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوشستين في بيروت في 11 يناير 2024 وسط استمرار التوترات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. (تصوير جوزيف عيد / وكالة فرانس برس)

وبالتالي هو يضبط إيقاع تدخله على وقع التعليمات الإيرانية التي لا يستطيع تجاهلها وفي الوقت عينه يسعى لحفظ ماء الوجه بعدما هزلت أدبياته وسقطت شعاراته التي بنى عليها أوهامه الباطلة بدءاً من ادعاء “ردع العدوان” وصولاً إلى ادعاء القدرة على إزالة إسرائيل من الوجود وتحرير كامل فلسطين. هذا المأزق يدفع “حزب الله” إلى تمديد حال الفوضى الأمنية السائدة عند الحدود اللبنانية الجنوبية.

لذلك يأتي تقديري، والحديث للأكاديمي اللبناني، أن “كتائب العز الإسلامية هي جزء من حال الفوضى هذه. الفوضى الأمنية المقصودة و المترافقة مع تعطيل النظام السياسي اللبناني عبر امتناع نواب حزب الله عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية”.

ويختتم علي خليفة بقوله إن “حزب الله” يلعب “أوراقاً خطيرة” عبر استدامة المواجهات العسكرية في الجنوب، بشكل مباشر أو بالواسطة عبر تنظيمات مسلحة، آخرها “كتائب العز الإسلامية”. 

هذه المواجهات قد تنقلب في أي لحظة إلى حرب غير محسوبة وغير متكافئة لا منفعة منها للفلسطينيين في غزة، ولا تجلب سوى الضرر والأذى والدمار للبنان واللبنانيين وتحقق من خلالها إيران مصالحها على خريطة تقاسم النفوذ وصراع المحاور في المنطقة.

من خلال ذلك، قد تبدو السيناريوهات مفتوحة حول الخلفية المذهبية لـ”كتائب العز الإسلامية” وكونها داخل مكون الإسلام السياسي في نسخته السنية أو الشيعية نظرا لتوجه “حزب الله” لتوسيع تحالفاته في الداخل اللبناني سيما مع تنظيمات الإسلام السياسي، ما يتفق مع فهم تصريحات طهران بمنحها المرونة اللازمة لوكلائها في التصرف داخل محيطها بما يتواءم مع الوضع المحلي والدولي والسياق السياسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات