خطوتان على الميدان ونحو عمقه المباشر، والثالثة على رقعة السياسة و أدواتها الدبلوماسية؛ الأولى ضربة عملياتية تحمل عديد الرسائل والدلالات، بينما الثانية ردّ فعلٍ مماثل على ذات الدرجة والحِدّة، أما الثالثة والأخيرة استجابت لدرجة الضبط الاستراتيجي وديناميات التفاعل والتنافس عبر مسرح النظام الدولي وتناقضاته العميقة في الأُفق المنظور، مما فرضت معه حديث التهدئة وسكون وتر القوس المشدود.

هذا ما رافق نشاط إيران مؤخراً، وقد شنّت ضد باكستان ضربات صاروخية الأمر الذي سارعت بالرّد عليه الأخيرة، وكان الاستهداف ضد جماعة “جيش العدل” داخل الأراضي الباكستانية بينما نفّذت باكستان ضربات مماثلة ضد “جيش التحرير” في محافظة بلوشستان إيران محاولة تلفيقية ومناورة على ملف الأقليات لبدء مسار تهدئة بين الطرفين ورغبة بعدم التصعيد، تحديداً من الطرف الإيراني الذي بدا وكأنه نفّذ العملية بحسابات ليست دقيقة.

بين الحسابات الإقليمية والأبعاد الثنائية

جاءت تلك الضربات الاستثنائية في توقيتها ودلالاتها على هامش تبادل الاتهامات بين طهران وإسلام آباد باستخدام أراضيهما لشنّ هجمات ضد كل منهما؛ بيد أنها لم تتحول مرّة في الماضي إلى فعل عملياتي مباشر من طرف ضد آخر مما يضع التوقيت والدلالات محل نظر وتدقيق.

ما وراء خفوت التصعيد الإيراني تجاه باكستان ومعضلة الدور الصيني المرتبك؟ (4)
نشطاء جمعية أهل الحديث الباكستانيين يحتجون في لاهور في 19 يناير 2024، بعد أن شنت إيران غارة جوية على مقاطعة بلوشستان جنوب غرب باكستان. (تصوير عارف علي / وكالة الصحافة الفرنسية)

الهجمات الإيرانية داخل الحدود الباكستانية أتت في وقت تتصاعد فيه حدّة التوتر بين طهران والولايات المتحدة وإسرائيل عبر وكلاء “الحرس الثوري” على خلفية الحرب في غزة وتداعياتها ميدانيا في أكثر من ساحة.

تزامنت تلك الضربات مع فعل سياسي ودبلوماسي وبيانات رسمية، إذ استدعت باكستان سفيرها لدى إيران وأعلنت أنها لن تسمح بعودة السفير الإيراني لديها، فضلاً عن بيان شديد اللهجة ندّد بخرق طهران لسيادة باكستان واعتباره عملاً غير قانوني وغير مقبول، بحسب بيان وزارة الخارجية الباكستانية.

بعد ساعات من ردّ باكستان بالمثل في العمق الإيراني، وإعلان الصين استعدادها للتوسّط بين البلدين قررت الحكومة الباكستانية إنهاء الأزمة مع إيران وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، كما قال مكتب رئيس الوزراء الباكستاني يوم الجمعة التاسع عشر من شهر كانون الثاني/يناير الجاري، إن باكستان وإيران قادرتان على التغلب سوّياً على الخلافات البسيطة عبر الحوار والدبلوماسية، وأضاف: “باكستان سترحّب وستردّ بالمثل على كل الإجراءات الإيجابية التي يتخذها الجانب الإيراني”.

وتابع: “في صالح البلدين، اتخاذ خطوات لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل السادس عشر من شهر كانون الثاني/يناير”.

جاء ذلك بعد اتصال هاتفي تم بين وزير الخارجية الباكستاني، جليل عباس جيلاني، ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، حيث “اتفقا على ضرورة تعزيز التعاون على مستوى العمل والتنسيق الوثيق بشأن مكافحة الإرهاب وجوانب أخرى ذات اهتمام مشترك”.

في المقابل قال عبد اللهيان -في بيان- إنه أكد لنظيره الباكستاني احترام طهران سيادة باكستان ووحدة أراضيها مشددا على ضرورة تحييد وتدمير ما وصفها بالمعسكرات الإرهابية في باكستان. إبّان ذلك الاتصال كشف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لنظيره الباكستاني أن الحكومة لم تعلم بالضربات التي نفّذها “الحرس الثوري” على الجار ولا بالخطة، وفقاً لموقع “إيران إنترناشونال”.

باكستان أرض الرسائل الإيرانية

الخبير في الشؤون الإيرانية، وجدان عبد الرحمن، تحدث لـ”الحل نت”، عن دوافع استهداف إيران لجماعة داخل باكستان في هذا التوقيت قائلاً: إن “الخلافات الإيرانية الباكستانية قديمة وتأزمت، مؤخراً؛ لأن الأخيرة تعتقد أن إيران تتعاون مع الاستخبارات الهندية في دعم معارضي بلوش لإسلام آباد بينما تعتقد إيران أن باكستان تؤوي جماعات من البلوش المعارضين لطهران داخل أراضيها”.

أحد السكان المحليين يظهر جبلًا في منطقة كوه سبز بإقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان حيث شنت إيران غارة جوية في 18 يناير 2024. (تصوير باناراس خان / وكالة الصحافة الفرنسية)

يتابع عبدالرحمن حديثه، بأن الأحداث الأخيرة تثبت كون “حسابات الحرس الثوري الإيراني خاطئة” من ناحية رؤيته في نقل المشاكل الداخلية التي تعانيها إيران إلى خارج الحدود عبر إظهار “قدرته العسكرية وقوة إيران على الردع”.

يضيف الخبير في الشؤون الإيرانية وجدان عبدالرحمن، أن طهران أرادت كذلك أن توجّه لإسرائيل رسالة بأن صواريخها التي وصلت إلى باكستان قادرة على الوصول إلى تل أبيب حال استهدفت إيران، وكذلك رسالة بشأن القدرة على الردع موجهة لواشنطن والغرب بشأن خلافاتهما معها حول الملف النووي الإيراني.

ويستند عبد الرحمن في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، نحو توصيفه للضربة الإيرانية لباكستان بـ”الخاطئة” إلى أن “الحرس الثوري” لم يكن يتوقع الرّد الباكستاني بهذه الدرجة والسرعة، فقد اعتقد أن أزمات باكستان ستعطّلها لكن الرّد الباكستاني جاء أكبر من الضربة الإيرانية.

يختتم الخبير في الشؤون الإيرانية تصريحاته بتأكيده، أنه من الطبيعي والمنطقي أن تتحرك إيران نحو “التهدئة وتمتص الضربة وتلتزم الصمت كون إسلام آباد بعثت من ناحيتها برسالة لإيران واضحة وحازمة، بأنه لا مجاملة ولا مهادنة بالنسبة إلى انتهاك أراضيها. فضلاً عن كون طهران ليست لديها القدرة على مواجهة التصعيد مع باكستان في الوقت الحالي، خاصة وهي مقبلة على انتخابات البرلمان في شهر آذار/مارس المقبل بجانب مشاكلها الاقتصادية”.

تخلخل المنظومة الإيرانية

الباحث الباكستاني عبد الكريم شاه، مدير مركز “إسلام أباد” للدراسات السياسية من جانبه وصف الفعل الإيراني بـ”خطأ فادح”، مضيفاً لـ”الحل نت”، أن شكاوى بشأن هجمات البلوش من طرف الجانبين كانت محل دراسة وبحث منذ فترة طويلة، وقد عمل البلدان على التّوصل إلى حلول سلمية بشأنها.

رجل يقرأ الصفحة الأولى من صحيفة “دون” الباكستانية الناطقة باللغة الإنجليزية والتي تعرض أخبارًا عن الغارة الجوية الإيرانية في إسلام آباد في 18 يناير 2024. (تصوير عامر قريشي / وكالة الصحافة الفرنسية)

في هذا السياق كشف شاه في سياق تصريحاته، أن البلدين شكّلا لجانا تضم ضباطا من “الحرس الثوري” الإيراني، وعناصر من الاستخبارات العسكرية الباكستانية، زارت طهران الأسبوع الماضي، إذ كان الطرفان على وشك التوصل إلى اتفاق مشترك يقضي بالسماح بتشديد الرقابة على الحدود وتبادل المعلومات بخصوص ذلك.

يختتم عبد الكريم شاه مدير مركز “إسلام أباد” للدراسات السياسية تصريحاته بقوله: إنه “مع كون البلدين أعربا عن استعدادهما للتّوصل إلى تسوية سلمية عن طريق التفاوض لقضايا أمن الحدود، يظل أن اعتراف طهران بأن ذلك كان خطأً فادحاً من جانبها كان نتيجة منطقية لتنفيذ باكستان لانتقام كان أكثر ملاءمة وأن ذلك جعل إيران تفهم الدرس جيداً”.

تفصح الجغرافيا أن إيران وباكستان يشتركان في حدود تمتد لنحو تسعمائة كيلومتر مع إقليم بلوشستان الباكستاني من جهة وإقليم سيستان-بلوشستان الإيراني من جهة أخرى، وتقاتل الدولتان منذ فترة طويلة مسلحينَ في منطقة بلوش المضطربة على طول الحدود ورغم محاربة البلدين “عدو انفصالي مشترك”، فمن غير المعتاد أن يهاجم أحدهما الآخر في العمق.

تعد محافظة سيستان بلوشستان في جنوب شرق إيران وإقليم بلوشستان في غرب باكستان من أكثر المناطق فقراً في البلدين، وتشكل بلوشستان موطناً لمجموعة البلوش الذين يُقدّر عددهم الإجمالي بنحو عشرة ملايين نسمة يعيش غالبيتهم في باكستان بما في ذلك إقليم السّند مع وجود ملايين عدة في إيران وأقلية أصغر بكثير في أفغانستان.

تاريخيا تأسس “جيش العدل” في السنوات الأولى من العقد الماضي بعد تفكك تنظيم “جند الله” الذي نفّذ لسنوات هجمات ضد قوات الأمن الإيراني، بيد أن وتيرة أعماله تراجعت منذ أن أعدمت إيران قائد التنظيم، عبد الملك ريغي، في العام 2010 إثر اعتقاله.

لطالما اشتكى الناشطون من أن المنطقة تعرضت لتمييز اقتصادي وسياسي من السلطات الإيرانية التي أعدمت أعدادا كبيرة من البلوش بتهم عدة أبرزها تهريب المخدرات. 

وفي انعكاس للفقر الذي يسود المنطقة يعمل عدد كبير من البلوش في شاحنات نقل الوقود ويقومون بتهريب المحروقات عبر الحدود إلى باكستان حيث يمكن بيعه بسعر أعلى، وفق وكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس”. 

فيما على الجانب الآخر يشكو البلوش في باكستان من أنهم محرومون من حقوقهم ومن عدم إنفاق الإيرادات المتأتية من الموارد الطبيعية بشكل ملائم على الإدارة المحلية والاحتياجات الاجتماعية.

تحولات القوى النووية

ترتكن علاقات طهران وإسلام أباد على عدة إجراءات صعبة نحو بلوغ آفاق آمنة، يتجاوز اللغة الدبلوماسية الهادئة، وصولا للمصالح والمنافع المشتركة ومقاومة التناقضات التي تبرز مع تصاعد تجنيد “الحرس الثوري” الإيراني للشيعة الباكستانيين من أجل الالتحاق بلواء “الزينبيون” للقتال في المناطق التي تنخرط فيها لا سيما سوريا واليمن. 

صورة لأفغانستان وباكستان والدول المحيطة بها على كرة أرضية قديمة تحت عدسة مكبرة – غيتي

وعلى الجانب الآخر تشعر إيران بالقلق من الدعم الخارجي للمسلحين البلوش والسنة في سيستان بلوشستان.

إلى ذلك، دعت الولايات المتحدة والأمم المتحدة البلدين إلى ضبط النفس، وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في “البيت الأبيض”، جون كيربي، إن الولايات المتحدة “لا تريد تصعيدا في جنوب آسيا وآسيا الوسطى” ردا على سؤال عن الضربات المتبادلة بين إيران وباكستان في الأيام الأخيرة. 

كيربي أكد لصحفيين يرافقون الرئيس جو بايدن في الطائرة الرئاسية الخميس الثامن عشر من كانون الثاني/يناير الجاري، أن الإدارة الأميركية “تتابع عن كثب” التوتر بين البلدين، وقال: “إنهما بلدان مدجّجان بالسلاح ومجددا لا نريد أن يشهدا تصعيدا”.

أشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، إلى أن هجوم إيران الذي بدأ هذا التصعيد كان “خطيراً ومثالاً جديدا على دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة”، بنفس المعنى جاءت تصريحات الرئيس الأميركي‌ بايدن، في وقت سابق من يوم الخميس عن التصعيد إذ قال يبدو أن إيران “ليست محل تقدير” في المنطقة وإنه “لا يعلم إلى أين سيؤدي هذا الأمر”، في حين قالت روسيا إنها تجري اتصالات مع الجانبين، معتبرة أن التصعيد نتيجة جزئية لأزمة غزة.

بدوره يشير السياسي الأميركي، توم حرب، مدير “التحالف الأميركي الشرق أوسطي”، إلى أن إيران تحاول أن تلعب دوراً أكبر من حجمها في المنطقة، واليوم ترى ما يحصل على الساحة الدولية، وتعرف بأنه إدارة الرئيس بايدن لا تواجهها بـ”الحزم والقوة” المطلوبة نظراً لتعدد أزمات الداخل والخارج في أميركا، وهو الأمر الذي تستغلّه إيران بشكل أو بأخر.

يتابع حرب في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، بقوله إن حضور المشاكل بين إيران وباكستان موجود منذ فترة طويلة، لكن إيران من خلال تنفيذها لثلاث ضربات في سوريا وأربيل وباكستان بشكل متزامن إنما هي رسالة لعدة أطراف إقليمية من جهة وواشنطن بشكل خاص من جهة أخرى بأنها ضمن “معادلة المنطقة”.

يضيف توم حرب، بأنه من دون شك قامت باكستان بردة الفعل المطلوبة، وقصفت إيران بالمثل ولا شك أن ذلك كانت رسالة قوية من إسلام أباد.

ويعتقد حرب أن ذلك كان بالتنسيق مع السعودية لأنه في حال توسعت الحرب بين باكستان وإيران ستكون الأولى بحاجة لترتيب تنسيق دفاعي ومالي مع دول الخليج وعلى رأسهم السعودية، الأمر الذي يجعل عضو الحزب “الجمهوري” بالولايات المتحدة، حرب، ينظر إلى أُفق القادم بكثير من الريبة كنتيجة مباشرة لسلوك طهران العدائي في محيطها.

التحديات التي تواجه الدور الصيني

بخصوص الوساطة الصينية ودور بكين في ضبط إيقاع طهران، يختتم توم حرب تصريحاته لـ”الحل نت”، بأن بكين ليست في حالة وفاق مع طهران ورغم الاتفاق الاستراتيجي الاقتصادي بين الصين وإيران؛ لكن الأسبوع الماضي شهد اختلافات بموضوع أسعار النفط فيما بين الصين وإيران، وكانت نتيجته عدم شراء الصين النفط الإيراني من طهران، فضلاً عن حرص بكين على مستوى علاقاتها مع الدول العربية.

ما وراء خفوت التصعيد الإيراني تجاه باكستان ومعضلة الدور الصيني المرتبك؟ (1)
الأعلام الباكستانية والإيرانية ترفرف على الحدود الباكستانية الإيرانية المغلقة. (تصوير باناراس خان / وكالة الصحافة الفرنسية)

إن ديمومة الاشتباكات التي تخوضها باكستان وإيران ضد “الانفصاليين” الذين ينشطون على جانبي حدود كل منهما ليست فجائية ولا وليدة اللحظة، بل تعود وتمتد لسنوات طويلة مضت، بينما كان آخر وقائعها قبل هجوم الأسبوع الماضي ما حدث في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي. 

وذلك حين اتهمت إيران مسلحي “جيش العدل” باقتحام مركز للشرطة في سيستان بلوشستان مما أدى إلى مقتل أحد عشر ضابط شرطة إيراني، بحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “تسنيم”. 

ورغم ذلك كله ثمة إرادة هشة في طور مواجهة التحديات المشتركة لدى طهران وإسلام آباد نحو تجاوز الأزمات ومنح المصالح المشتركة مساحات أكبر، وربما ذلك تبدى خلال اجتماع وزراء البلدين، مؤخراً، في دافوس وإجراء قواتهما البحرية مناورات مشتركة في مضيق هرمز والخليج.

إذاً، نحن في عمق معضلة الجغرافيا ودورة التاريخ وتفاعل التهديدات الأمنية بينهما، الأمر الذي يفرض تحديات مستمرة، ويضع علاقات إيران وباكستان على المحك من خلال الحدود المشتركة أو من الدول المجاورة، مثل أفغانستان والهند والشراكات الإقليمية والدولية لكل منهما وتوظيف الجانب العقائدي والمذهبي. فضلاً عن تهديدات التنظيمات المسلحة مما يجعل سيناريو سيولة الأحداث وسخونة الساحات مرجحا ومرشحا للتكرار.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات