لم يكن إعلان كتائب “حزب الله” العراقية، المصنّفة على قوائم الإرهاب، تعليق أنشطتها العدوانية، ووقف عملياتها المرتبطة باستهداف المصالح الأميركية بالعراق، سوى مناورة جديدة لتجنّب التصعيد مع الولايات المتحدة، والاكتفاء بعملية التوازن المؤقت بين المواجهات الخشنة والاستمرار العملياتي في الصراع والهجوم من جهة، والاستعراض العسكري، من جهة أخرى.

ولذلك جاء عبر بيانٍ صُدر نهاية شهر كانون الثاني/يناير الماضي، أنها بدأت بـ”تعليق العمليات العسكرية والأمنية على القوات الأميركية” وذلك “دفعاً لإحراج الحكومة العراقية”، مبيّنة أنها سوف تبقى تدافع “عن أهلنا في غزة بطرق أخرى”. كما طالب البيان من سمّاهم “مجاهدي كتائب حزب الله الأحرار” بـ”الدفاع السّلبي مرحلياً في حال وقع  أي عمل أميركي  تجاههم”.

ربما هذه المناورة هي لحظة كمونٍ لتفادي ضربة أميركية وردّ فعل يضعها على حافة الانهيار والتفكيك، لا سيما أن النظام الإيراني هو الآخر بادر إلى وسائل الإعلام العربية والعالمية، ليقول أنه قرّر سحب قادة “الحرس الثوري” من سوريا.

تهدئة مفروضة أم فرار واضح

البيان الذي نشرته قناة “كتائب حزب الله” عبر تطبيق  “تلغرام” تم توقيعه باسم الأمين العام لـ”الكتائب” أبو حسين الحميداوي، مما يلفت النظر لملابسات الهجوم الأخير الذي تمّ تنفيذه ضد القوات الأميركية في المنطقة الواقعة على المثلث الحدودي بين الأردن والعراق وسوريا، وتداعيات ذلك على إيران ووكلائها جميعا. فضلا عن كون واشنطن وجّهت الاتهام مباشرة لـ”الكتائب” وحمّلتها مسؤولية مقتل ثلاثة مواطنين أميركيين وإصابة آخرين.

مقاتلون يرفعون أعلام العراق والجماعات شبه العسكرية، بما في ذلك النجباء وكتائب حزب الله، خلال جنازة في بغداد لخمسة مسلحين قتلوا في غارة أميركية في شمال العراق. (أحمد الربيعي/ وكالة فرانس برس)

أيضا لفت مضمون البيان نحو هدف تكتيكي لـ”كتائب حزب الله”، يتمثّل في رفع مسؤولية الهجوم الأخير عن بقية مكونات ما يسمى بـ”محور المقاومة”، حيث جاء في البيان، أنه “اتخذت المقاومة الإسلامية كتائب حزب الله قرارها بدعم أهلنا المظلومين في غزة الصمود بإرادتها ودون أي تدخل من الآخرين”. 

وأفصح البيان صراحةً أن “إخوتنا في المحور لا سيما في الجمهورية الإسلامية لا يعلمون كيفية عملنا الجهادي وكثيراً ما كانوا يعترضون على الضغط والتصعيد ضد قوات الاحتلال الأميركي في العراق وسوريا”، ما يشير من بعيد أن أصابع طهران وراء هذا البيان المنفرد.

هذا وقد حمّل الرئيس الأميركي جو بايدن، في تصريحاتٍ للصحفيين إيران مسؤولية تزويد المجموعات الموالية لها بالسلاح،  وأضاف أن الولايات المتحدة لا تريد حربا أوسع نطاقا في الشرق الأوسط، فيما قال “البنتاغون” إن الهجوم يحمل بصمات كتائب “حزب الله العراقية”، معتبرا أنه “تصعيد”، بعد أن أدّى إلى مقتل ثلاثة جنود وإصابة عشرات آخرين.

لذا وبعد هذا البيان بيوم واحد، ومع موافقة واشنطن على خطط لشنّ سلسلة من الضربات تستمر عدة أيام ضد أهداف، تشمل أفراداً ومنشآت إيرانية، داخل العراق وسوريا، سارع النظام الإيراني ليسرّب أنباء عن سحب قادة “الحرس الثوري” من سوريا.

“الحرس الثوري” وفق ما نقلته وسائل إعلامية إيرانية سحب عدداً من كبار ضباطه من سوريا، في سياق الحفاظ على النفوذ الإيراني في سوريا من خلال تقليل الخسائر البشرية بين صفوف الضباط الإيرانيينَ.

إلى ذلك، كشفت مصادر أن “الحرس الثوري” سيبقى حاضراً في المشهد السوري، على أن يدير ويوجّه تلك العمليات عن بُعد عبر مساعدة “حزب الله” اللبناني.

أمّا في ما يتعلق بالقوات الإيرانية أو المستشارينَ الذين ما زالوا داخل سوريا، فكشف مسؤول إقليمي مقرّب من إيران، أنهم تركوا مكاتبهم ومراكزهم واختفوا عن الأنظار، مقلّلين من تحرّكاتهم إلى أقصى الحدود، خصوصا أنه بات لديهم مخاوف من تسرّب المعلومات الحساسة من الداخل السوري، مع عدد من المسؤولينَ الرسميينَ في دمشق.

استراتيجية الهرب من واشنطن

يبدو من بيان التنظيم الميليشياوي، أن هناك تهدئة مرحلية وهي تهدئة مطلوبة حتما من القوى الداعمة في إيران، والتي حاولت “كتائب حزب الله” أن تبرّئ ساحة طهران، في حين أن نشاط القوى المسلحة الولائية وتحركاتها لا يخرج عن نطاق رؤية ودائرة معلومات وأهداف “الولي الفقيه” بقيادة “فيلق القدس” بـ”الحرس الثوري” الإيراني. 

الحرس الثوري وحزب الله العراقي خفايا وألغاز بيانات الانسحاب (1)
رجال من جماعة “كتائب حزب الله” المدعومة من إيران يلوحون بأعلام الحزب أثناء سيرهم في شارع مطلي بألوان العلم الإسرائيلي خلال موكب بمناسبة يوم القدس السنوي، أو يوم القدس – إنترنت

ورغم محاولات إخفاء الكتائب بالعراق وجود صلات أو معلومات لدى إيران عن أنشطتهم وتحديدا العملية الأخيرة؛ إلا أن الأكيد والحتمي من سياق الأحداث وطبيعة التنظيم وشبكة ارتباطاته بـ”الحرس الثوري” أن القرار الإيراني فرض هذا البيان، وطالب بتلك المناورة لعدم التصعيد المحفوف بمخاطر جمّة في مواجهة واشنطن، خاصة مع تخطّي الخط الأحمر.

المتحدث باسم الوزارة، بات رايدر، قال “إننا نأخذ بالأفعال لا الأقوال”، مضيفا “لا جدوى من تصعيد التوتر في المنطقة لكننا سنتخذ كل الإجراءات اللازمة للدفاع عن مصالحنا وقواتنا”. وفي العراق ذكرت وسائل إعلام رسمية أن وزير الخارجية، فؤاد حسين، ندّد في اتصال هاتفي مع نظيره الأردني بالهجوم الذي أدى إلى مقتل جنودٍ أميركيين في الأردن قرب الحدود السورية.

وأضافت وسائل الإعلام أن حسين ووزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، شدّدا على ضرورة إبعاد البلدين والمنطقة عن التهديدات العسكرية من أي جهة كانت.

إذاً، بدت العملية الأخيرة التي نفّذتها جبهة ما يُعرف بـ”المقاومة الإسلامية” التي استهدفت “البرج 22” تحوّلاً لافتاً في المسار الأمني كونها “تجاوزت الخطوط التي دقّقها الإيرانيون”، وفق مصدر سياسي عراقي مطّلع  فضّل عدم الكشف عن هويته.

يتابع المصدر في سياق حديثه لـ”الحل نت”، أن طهران تستند لرؤية استراتيجية نحو العمل بعيداً عن أُطر المواجهة المباشرة مع واشنطن والأخيرة تتحرك نحو ذات التوجه؛ بيد أن الهجوم الأخير فرض نفسه على الجميع وألزم الإدارة الأميركية بـ”ضرورة ردّ الضربة والاعتبار وهو الأمر الذي تستطيع أن تجده في كافة التصريحات الرسمية التي وردت عن الرئيس الأميركي ووزير الدفاع أيضا”.

بالرغم من كون كتائب حزب الله جزء من منظومة الحرس الثوري غير أنها قامت بعمليتها الأخيرة دون إذن مباشر من فيلق القدس، أو أمر صدر من قيادته، كاشفا أن فيلق القدس ينظّم الخطوط العامة والنقاط التي ينبغي أن تعمل فيها الفصائل والميليشيات المختلفة وعمليتها العسكرية.

مصدر سياسي عراقي

إلا أنه ووفقا للمصدر العراقي نفسه، فإن الكتائب بهذا الهجوم تجاوزت الهدف المحدّد، ما تطلّب تحرّكاً مباشراً نحو تجميد عملها مرحليا وهو ما يفسّر مضمون البيان الذي صُدر باسم الكتائب، خاصة وأن قوات “الحرس الثوري” أبلغت الجبهة بأنها “غير مسؤولة” عن الرّد الأميركي و”لا الدفاع عن قواعدهم” كما أن الضربة في تقدير “الحرس الثوري” جاءت “خارج قواعد الاشتباك” وأدت لمقتل جنود أميركيين.  

إذاً وبحسب المصدر ذاته “علينا خلال الفترة القادمة  تتبّع ومراقبة ردود فعل الميليشيات العراقية، وما إذا كان ذلك سيُفضي نحو توقّف العمليات الميدانية من جهة ما سُمّي “المقاومة الإسلامية”. وإذا ما كانت التشكيلات المسلحة الموازية ستوقف هي الأخرى أنشطتها العسكرية، كون المُضي في ذلك سيقود بالتبعية إلى تصاعد التوتر في العلاقات بين الحكومتَين؛ الأميركية والعراقية، وأيضا سيُربك الحوار غير المباشر بين واشنطن وطهران.

خوف من النسر الأميركي

القراءة الدقيقة للبيان الأخير لـ”كتائب حزب الله” في العراق يشي بكثير من الوضوح لما هو أكثر وأعمق من مسألة تعليق العمليات العسكرية إلى تبرئة ساحة الحكومتَين العراقية والإيرانية من الهجوم الأخير.

تعرضت القواعد الأميركية في العراق وسوريا للقصف 100 مرة منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول، وهو اليوم الذي أدى فيه انفجار في مستشفى في غزة إلى مقتل المئات. (تصوير علي عبد الحسن / ا ب)

هذا الأمر يقدّره الدبلوماسي العراقي، قيس النوري، بأن وراء ذلك “حساب دقيق يتخوف من درجة وشكل الرّد الأميركي خاصة مع الرسالة العنيفة التي تلقتها الكتائب من طهران، وكذا الرسائل الواضحة التي تلقتها  الحكومة العراقية من واشنطن، بأن الرّد الأميركي سيكون لائقا بمقتل ثلاثة جنود واستهداف قاعدة مهمة للولايات المتحدة الأميركية على الناحية الجيوستراتيجية مما دفع نحو ممارسة الضغط اللازم لصدور بيان تعليق العمليات الميدانية”.

يتابع الدبلوماسي العراقي حديثه لـ”الحل نت” بقوله: إن السيناريو المتوقع خلال الفترة القادمة، أن إيران سوف تعمد إلى تقليص دور ميليشياتها في العراق وسوريا تحديداً، تجنّبا للتصعيد ولغرض الحفاظ على قاعدة التفاهم. 

من ضمن هذا التوجّه تأتي إعلانات بعض الفصائل توقّفها عن مهاجمة الأهداف الأميركية. إذ إن ما تتعرض له جغرافيا الشرق الأوسط لا يخرج عن إطار إعادة صياغة المشهد السياسي والجغرافي في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد.

رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، وفق حديث النوري، ورغم عدم إعلانه مواقف تناهض  النظام الإيراني، بيد أنه مضى نحو تحركات أزعجت كثيراً المليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، وذلك بهدف أن يعمل (السوداني) على إدارة  الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة بشكل متزن، ويشيد من خلاله علاقات ممتدة ومتّصلة ثم يبني “علاقات حسنة ومستدامة مع دول المنطقة وتبتعد بلاده عن الصراعات بالوكالة، وأن تضحي قاعدة للهجوم على الدول المتاخمة جغرافيا، أو تعتصر في الصراع الدائر بين طهران من جهة وواشنطن وتل أبيب من جهة أخرى”.

تجاوز “الخطوط الحمر”

في سياق متصل، يرتبط ما جرى بحدود وملامح المنطقة وتحرّك طهران نحو توظيف كافة وكلائها للضغط على الإدارة الأميركية ومواجهتها من خلال ميليشياتها التي تطوّق المنطقة، قبل عتبة الاشتباك الكامل خاصة فيما يتصل بجبهة لبنان وتحرّكات “حزب الله”. 

كتائب “حزب الله” هي أقوى فصائل المقاومة الإسلامية في العراق المدعومة من إيران – إنترنت

الكاتب اللبناني، حنا صالح، يذهب بقوله: إن “المشهد الذي على اللبنانيين أخذه بالاعتبار حاليا، هو أنه من جبال اليمن وكهوفها المسيطر عليها من الميليشيات الحوثية إلى جنوب لبنان الذي يتحكم فيه (وبلبنان) حزب الله مروراً بميليشيات الحشد الشعبي العراقية المشرّعة قانوناً وقوة الأمر الواقع في آن معاً، يبدو أن النظام الإيراني مستمر عبر أذرعه في اعتماد استراتيجية الضغط على الأميركيين كي يضغط هؤلاء على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف الحرب على غزة، فلا يتم تقويض القدرة العسكرية لحماس”.

بيد أن ما هو حاصل ووقع بالفعل أن الضغط تجاوز “الخطوط الحمر” سواء في استهداف الأميركيين في الأردن وسقوط أول ثلاثة قتلى من الجيش الأميركي وعشرات الجرحى، إلى استهداف الملاحة في البحر الأحمر. وتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، ما يهدد بخروج الأمور عن السيطرة رغم تأكيدات واشنطن بتجنّب مواجهة شاملة وفي الوقت نفسه تجنّب تداعي النفوذ الأميركي في المنطقة.

يتابع حنا صالح تصريحاته لـ”الحل نت”، بتوقعه أنه “خلال هذا التوقيت يصبح التفلّت الإسرائيلي من الرقابة الأميركية قاب قوسين أو أدنى لتوسيع جبهة الحرب شمالاً”، موضحا أنه يكاد يكون اتساع الحرب لجبهة لبنان الجنوبية ونشوب الصراع  يبدو قرارا قريب في الأفق وقد يدخل حيّز التنفيذ. 

بالنسبة لنتنياهو تبدو فرصةً لإطالة مدّة وجوده بالسلطة وترفع عنه سيف المسائلة والتحقيق في ما جرى منذ اندلاع “طوفان الأقصى”، خاصة مع جوانب التقصير التي يتم التحقق منها على خلفية الهجمات المباغتة التي نفّذتها حركة “حماس”، لكنه نجح في تعطيل التحقيق العسكري لحين انتهاء الحرب على غزة. 

قرار سحب ضباط “الحرس الثوري” من سوريا و وتعليق “حزب الله” العراقي عملياته العسكرية ضد القوات الأميركية، بعد أن كان الموالون لـ”محور المقاومة” ينظرون إعلان إيران الحرب في إطار التضامن مع الشعب الفلسطيني الذي قدّمه خامنئي قربانا لإسرائيل انتقاماً من مقتل قاسم سليماني، كما صرّح هو بذلك، يستشف منه أنه عندما شعر النظام الإيراني بأن أميركا الغاضبة تريد قرابين إيرانية صرفة وليست عراقية أو سورية، سارع إلى سحب ضباطه، وبات واضحا مَن هي إيران التي ما زال البعض يصدّق أنها تتزعم حلفاً يسمى بهتانا بحلف “الممانعة أو المقاومة”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات