مع استمرار الحرب على غزة، تحاول بعض الدول استثمار الأمر عكس الدول الرامية إلى إنهاء الصراع، ولعل الصين من أبرز الدول التي ترغب -ولا تعلن- بإطالة أمد الحرب التي تقوم بها إسرائيل على “حركة حماس”، بهدف استثمارها ضد الغرب، فكيف تفعل ذلك؟

أصداء الحرب في غزة طالت أنحاء العالم، لتمثل تحديا سياسيا للغرب، ما قد يسهم في تدهور مكانته في العالم، بما لذلك من آثار على مستقبل النظام الدولي الذي تسعى الصين لتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب يسمح لها بالبروز كقوة متكافئة مع أميركا، ووضع قواعد جديدة للنظام الدولي الليبرالي الغربي، وفقا للدكتور جمال عبد الجواد، مستشار “مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

في هذا السياق، تحاول إدارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إعادة تعريف الشؤون العالمية باعتبارها نوعا من الحرب الطبقية العالمية، الاقتصادات الغنية والمتقدمة ضد العالم الفقير النامي، حسب “المجلس الأطلنطي”. مشيرا لتصريح وزير الخارجية الصيني السابق، تشين قانغ، بإن التناقض الرئيسي في عالم اليوم، ليس ديمقراطية مقابل استبداد، إنما بين التنمية واحتواء التنمية، وبين العدالة العالمية وسياسات القوة. 

وعليه، توجه بكين رسالتها الأوسع للجنوب العالمي، بأنها “ليست الغرب، من خلال تعاملها مع الدول النامية بقدر أكبر من الاحترام، ولن تتدخل في شؤونها الداخلية، أو تفرض عليها أيديولوجيتها السياسية، أو تفرض عليها سياساتها عبر الإكراه الاقتصادي، كما تفعل واشنطن وشركاءها. فالصين تتنفس نفس النفس مع الدول النامية الأخرى وتشاركها نفس المستقبل”، حسب نائب الرئيس الصيني هان تشانغ.

الصين واستثمار الأزمات

في تقييمه لموقف الصين من الحرب الروسية على أوكرانيا، قال مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، وليام بيرنز: من مصلحة الصين بقاء روسيا والغرب منقسمين، حتى لا يتعاونا معا ضد الصين كما حدث في القرن الـ 19. ووفقا “للجزيرة نت“، فإن طول أمد الصراع في أوكرانيا، يصرف انتباه الغرب عن مسرح المحيطين الهندي والهادي. مع إضعافه لروسيا، بما يمنعها من تهديد نفوذ الصين المتنامي في فضاء الجمهوريات السوفيتية السابقة. إضافة لمنح الصين فرصة ملء الفراغ الاقتصادي الذي خلفه انسحاب الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية من روسيا.

الصحفية المتخصصة بالعلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية، أورنيلا سكر، وهي مديرة موقع “أجيال القرن الواحد والعشرين”، تشير في بداية حديثها مع “الحل نت”، إلى أن علاقة الصين مع الدول الأخرى تتخذ طابعا تعاونيا تكامليا في كافة المجالات، التكنولوجية، الاقتصادية، العسكرية، الدبلوماسية، عبر أنشطة القوة الناعمة للصين. وهو ما تستفيد منه الأخيرة في منافسة الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما مع دعم الأخيرة المطلقة لإسرائيل مؤخرا، وهذا ما نفّر الدول الخليجية بشكل خاص من سياسة واشنطن، واتجهت نحو الصين.

إضافة إلى ذلك، استغلت الصين ما جرى في أوكرانيا، لإعادة تموضعها في محيطها الاستراتيجي، مستغلة توجه أنظار العالم تجاه الساحة الأوكرانية. وهو ما تستفيد منه روسيا اليوم في الساحة الأوكرانية، نتيجة توجه الأنظار باتجاه الحرب على غزة. بما يعني أن المسألة جيدة جدا، بالمنظور الصيني، بما يعنيه من تحول العالم إلى حالة من تعددية الأقطاب، لكن لكون الأمر لم يحسم بعد، نشهد هذه الفوضى. وطبعا للصين دور في ذلك، من خلال استفادتها من جميع الثغرات. مما فتح مجال للصين لملء الفراغ والتمدد والتغلغل أكثر في اقتصاديات الشرق الأوسط وأفريقيا.

بعد انسحاب إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وتشديد العقوبات على إيران، بسبب تطويرها النووي وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، تراوحت التقديرات المتعلقة بحجم الخام الإيراني المهرب إلى الصين بين كانون الثاني/ يناير 2019 وأيار/ مايو من نفس العام من 12 مليونا إلى 14 مليون برميل. ولتلافي غضب واشنطن، احتفظت الصين بهذا النفط ضمن ما يسمى بالتخزين الجمركي، أي أن النفط لم يتم تخليصه من خلال الجمارك الصينية ولا يتم استخدامه، وبالتالي لا ينتهك العقوبات الأمريكية، وهذا يفيد كلا من إيران والصين بعدة طرق، حسب شبكة “CNBC“. التي أشارت إلى أن 20 مليون برميل أخرى كانت في طريقها للصين آنذاك. حيث تشتري شركات التكرير الصينية المستقلة، الصغيرة والمتوسطة الحجم، النفط من إيران باليوان، بعد تداول خصم للخام الإيراني بمتوسط 13 دولارا عن خام برنت، حسب موقع “آسيا نيكيا“.

مع ذلك، لا تدفع الشركات الصينية ثمن النفط الإيراني نقدا، بسبب العقوبات المالية التي أبقت إيران خارج النظام المالي العالمي. لذا تضطر إيران لاعتماد نظام مقايضة عائدات النفط من الصين لشراء سلع صينية تتراوح من المنتجات الاستهلاكية إلى السيارات، والتي يتذمر منها الإيرانيون، لرداءتها وسرعة عطبها، حسب دراسة مؤسسة “راند” البحثية الموسومة “الصين في الشرق الأوسط، التنين الحذر”. وإلى جوار ذلك، تشير الدراسة إلى أن الصين كانت تبيع الأسلحة لإيران زمن الحرب الإيرانية-العراقية، مع بيعها لأسلحة وطائرات عسكرية إلى العراق في ذات الوقت.

حرب غزة فرصة مثالية لبكين!

حرب غزة فرصة مثالية تخفف الضغوط الغربية المفروض على كل من موسكو وبكين، حسب الباحث في التاريخ والعلاقات الدولية، أحمد دهشان، في “مركز الدراسات العربية الأوراسية“. خلالها، استفادت روسيا بصرف أنظار الغرب عن جبهة أوكرانية، وبالتنسيق مع الصين، استنزفتا أميركا دبلوماسيا في مجلس الأمن والأمم المتحدة، لإظهار “نفاقها”، بحسبهما، أمام المجتمع الدولي ودول الجنوب العالمي، والتأكيد لشعبيهما على ازدواجية معاييرها، مع مقارنة رد فعل واشنطن تجاه الحرب في أوكرانيا، أو تعامل الصين مع الإيغور ومطالبتها بتوحيد تايوان، مع ما تقوم به إسرائيل من إبادة ممنهجة وقتل للأطفال في غزة. 

خلال حديثه مع “الحل نت” يلفت ماركو مسعد، وهو باحث علاقات دولية بمجلس سياسات الشرق الأوسط (MEPC)، ومقره واشنطن، إلى إظهار بكين اهتماما متزايدا على مدى عقد أو أكثر، للعب دور أكبر في منع وتخفيف النزاعات الإقليمية وعدم الاستقرار. وتتم متابعة هذا الطموح من خلال مجموعة متنوعة من الطرق، بدءا من تدفقات التمويل لمشاريع الأمم المتحدة إلى تعزيز أنماط الأمن الخاصة بها من خلال المنظمات الإقليمية وتقديم المساعدة الأمنية للدول في الجنوب العالمي، منوها لنهج الصين للتأثير على معايير منع النزاع مؤسسة بطرق تتماشى بشكل أكبر مع تفضيلات الصين للدولة القوية وعدم التدخل والاستقرار والأمان الداخلي.

إزاء تصاعد الغضب العالمي تجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، ركزت الصين على تعميق الفجوة بين واشنطن ودول الجنوب العالمي بشأن هذه الحرب، حسب “فورين بوليسي“. ومع وقوفها على الهامش، خشية تورطها في الصراع أو تعريض علاقاتها الإقليمية للخطر، انحازت بكين لدول الجنوب العالمي، التي ابتعدت عن موقف واشنطن المؤيد لإسرائيل وأدانت بشدة تصرفات الأخيرة. لخص ذلك مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، جون ألترمان، بالقول: تنظر الصين لواشنطن وهي تجمع الإساءات، إذ تقف الصين موقف المراقب، بينما ينفتح شرخ أكبر بين واشنطن وأجزاء كبيرة من الجنوب العالمي.

وزير الخارجية الصيني وانغ يي يصافح وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود بينما يقف الرجلان أمام مجموعة من الناهضين قبل التقاط صورة تذكارية في حدث دبلوماسي استضافته غرفة مزينة بشكل مزخرف في بكين – (أ ف ب)

مع ذلك، يُشير البعض للطبيعة الدعائية لموقف بكين. فبحسب أحمد عبود، الواسطة الصينية في الحرب بين إسرائيل وحماس دخانية وغير جدية.  منوها لغموض اللغة الدبلوماسية الصينية، ومبلغ الأموال الضئيل المقدم لغزة من قبل قوة تعتبر ثاني أكبر اقتصاد في العالم. والصين برأيه، قررت التعامل مع إسرائيل كضرر جانبي، مقارنة بأكثر من 50 دولة في الجنوب العالمي، تريد الصين اكتسابها وجني دعم هذه الدول لرؤية بكين الخاصة للحوكمة العالمية وأولوياتها الاستراتيجية.

بعكس الصين، للولايات المتحدة الحصة الأكبر، من ناحية المساهمة وتحريك المنظمات الدولية، أو دفع مستحقاتها، حسب أورنيلا سكر. مشيرة إلى أن بعض الدول الأفريقية باتت تتململ من الصين، كونها لا تبادر في دفع مستحقاتها الاقتصادية هناك. لذا باتوا يتوجهون نحو أميركا أو روسيا أكثر. وهذه إشكالية في التنافس بين الدول الإقليمية والدولية، وهي مشكلة بطبيعة الحال أكثر تأثيرا في القارة الأفريقية. لذا شاهدنا ما يجرى فيها من انقلابات، في مالي والنيجر وسيراليون وبوركينا فاسو ودول أفريقية أخرى. وهو ما لابد من الإشارة إليه في هذه المسألة.

بكين ورواية “الغرب الفاشل”

بدوره، ينوه المؤسس المشارك لمشروع الجنوب العالمي الصيني، إريك أولاندر، ينوه لمكاسب واستراتيجية الصين في تقويض مكانة أميركا في أعين دول العالم، لا سيما المهمة للأولى، بهدف إظهار مدى عزلة أميركا وعدم توافقها مع بقية دول العالم، معتبرا أن الصينيين يلعبون هذا الأمر بمهارة كبيرة في سياستهم الخارجية، لتعزيز بعض القيم التي يحاولون قولها عن عيوب النظام الدولي الذي تقوده واشنطن.

فنموذج التحديث الصيني، باعتباره بديلا متفوقا وترياقا للتغريب يروج له من قبل قمة الهرم السياسي الصيني، الرئيس شي. وإلى جواره، يشير الوزير السابق تشين إلى أن التحديث الصيني لا يتم السعي إليه من خلال الحرب أو الاستعمار أو النهب، وأنه مكرس للسلام والتنمية والتعاون والمنفعة المتبادلة. معتبرا إياه مسارا جديدا مختلفا عن التحديث الغربي.

حسب ماركو مسعد، تركز الصين جهودها في تشكيل معايير منع النزاع تستند بشكل أساسي على المشاركة بين الحكومات، إما ثنائيا أو متعدد الأطراف. ما يبقي مساحة ضئيلة في حسابات بكين للتفاعل مع منظمات المجتمع، أو قوى المعارضة، والمنظمات غير الحكومية الداخلية والدولية، كجزء من عملية شاملة لمنع النزاع. وفي مجال الاقتصاد، تحرك الصين اهتمامات اقتصادية تسعى من خلالها لاستثمارات تغذي بها اقتصادها المتوحش.

الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بنفوذ هائل في جميع أنحاء الجنوب العالمي وتتعامل مع الدول النامية بشكل أعمق وأوسع بكثير من الصين، التي لا تزال في بداية بناء شبكاتها وبرامجها الدبلوماسية في أجزاء كثيرة من العالم، حسب “المجلس الأطلنطي”، رغم إدراك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخرا لهذا الخلل في سياستها الخارجية، وعملها على تكريس اهتمام أكثر بالجنوب العالمي، مع مبادرات تنمية وأشكال تواصل جديدة بجهد لا يزال يفتقر للتركيز والموارد. وعليه، فإن رواية بكين عن الغرب الفاشل ليست صحيحة تماما. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات