رغم انشغال العالم بالحرب في غزة، الصين منذ ثلاثة أيام تستضيف القمة الثالثة لمبادرة “الحزام والطريق” بمشاركة ممثلين عن 140 بلدا وحضور لافت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذه القمة تعكس إرادة بكين في تعزيز مشروعها الاقتصادي والاستراتيجي الذي تعتبره “مشروع القرن”، فبالرغم من التحديات والضغوط التي تواجهها الصين في صراعات التجارة والتكنولوجيا مع الغرب، إلا أنها تسعى إلى تحقيق أهدافها والتأكيد على قوتها وتأثيرها العالمي.

هذا السياق، يقودنا إلى نقطة مهمة، وهي تراجع الداعم الرئيسي للفصائل الفلسطينية في غزة عن تصريحاته الإعلامية، وهنا الإشارة إلى إيران التي تتصدر حاليا ما يسمى “محور المقاومة”، فمنذ أيام ذكر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن هناك احتمالا لما وصفه بالتحرك الوقائي و الاستباقي من قِبل “محور المقاومة” في الساعات المقبلة، لكن هذه الساعات انقضت دون أي إجراء.

كذلك، قبل يومين ألمح وزير الخارجية الإيراني، إلى إمكانية اتساع جبهات الحرب الدائرة في قطاع غزة ومحيطه، وأشار إلى أن هذا الاحتمال يزداد كل ساعة، مع تأكيده أن طهران لن تبقى متفرجة على الوضع الراهن.

وهنا يكمن التساؤل: لماذا باتت الملامح واضحة بأن قرار الانخراط بالحرب مع غزة هو قرار صيني وليس إيراني؟ 

تحرك وقائي

لم تتصاعد الأحداث في الحركات والمجموعات التي تصنّف نفسها على أنها نشأت لمحاربة إسرائيل سواء في سوريا أو لبنان، ولا سيما التي تدعمها إيران ماليا وعسكريا، حيث كان من المتوقع أن تنخرط هذه المجموعات ضمن حرب مفتوحة بسبب الصراع في غزة.

الحرب الصين إيران

أمس الثلاثاء، في منطقة الحدود بين لبنان وإسرائيل، شهدت المنطقة هجمات صاروخية وقصف مدفعي بين “حزب الله” اللبناني والجيش الإسرائيلي، إلا أن هذا الوضع لم يُصنّف لدى الخبراء خطيرا، أو أنه سيجر المنطقة إلى حرب إقليمية مع إسرائيل كما كان متوقعا في السابق.

مصادر أمنية في لبنان أفادت أن العنف رغم اتساعه على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، بعد مقتل 5 من عناصر جماعة “حزب الله” خلال عمليات ضد إسرائيل، واستهداف الحزب لآلية عسكرية إسرائيلية، وقصف الجيش الإسرائيلي مناطق حدودية في جنوب لبنان وإلقائه قنابل فوسفورية على منطقة سهل مرجعيون-الخيام، إلا أن هذا لا يندرج سوى تحت البند الوقائي.

الرؤية السائدة والبديهية أن نشر مجموعتين من حاملات الطائرات الأميركية، هي من ردع الميليشيات الإيرانية في سوريا و”حزب الله” بشكل كبير في الانخراط بحرب برّية من إسرائيل، لكن هناك عنصر بعيد مختفي خلف الشاشات، كان له الأثر الأكبر في ذلك.

مَن يشار له في هذا الحديث، هو التيار الشرقي الذي شاهد الرد العنيف للغرب على ما يدور في الشرق الأوسط، والذي تلقى منه خلال الفترة السابقة ضربة موجعة، أصابت ما يسميه مشروع القرن “مبادرة الحزام والطريق” الذي يسعى له، وذلك عبر استحداث منفذ جديد تحت مسمى ربط الهند بأوروبا.

مشكلة صغيرة في الشرق

خلال اليومين الماضيين وبشأن ما يدور في قطاع غزة، علت أصوات مهددة للقيادات الإيرانية على رأسها المرشد علي خامنئي، تارة، و”الحرس الثوري” طورا، ما يسلط الضوء على حليف طهران “حزب الله”، لاسيما وسط التوتر على الحدود الشمالية لإسرائيل مع لبنان.

الحرب الصين إيران

هذه الأصوات خفتت مع استضافة الصين هذا الأسبوع في بكين ممثلي 130 بلدا في منتدى “الحزام والطريق”، وهو مشروع ضخم لتطوير البُنى التحتية في الخارج أطلقه الرئيس شي جين بينغ، قبل عقدٍ من الزمن.

الخبير السياسي، محمد عبيد، أرجع خفض حدة الخطاب الإعلامي للإيرانيين ومن يتبعهم بالنسبة لدخول في حرب مع إسرائيل، إلى طلب رسمي بشكل مباشر من الحلف الشرقي، كون انخراط المنطقة بحرب سيكون له عدة عواقب، أهمها خسارة هذا الحلف ولا سيما إيران نفوذهم بالمنطقة، وأيضا رفع التكلفة الاقتصادية على هذا الحلف، وتراجع المشاريع التي يخططون لها.

ففي هذا المنتدى، تسعى الصين وروسيا لرسم مشروع ممر “شمال جنوب” للسكك الحديدية وطرق السيارات في الجانب الأوروبي من روسيا بين بحر البلطيق وجنوب البلاد وصولا إلى إيران، وبدء تنفيذه اعتبارا من العام المقبل بمبلغ 100 مليار دولار.

أيضا وبنظرة سريعة، فوسط أخبار المأساة الإنسانية في غزة والحرب الروسية – الأوكرانية والتضخم العالمي، لم يلاحظ الكثير المشكلة الصغيرة في الزاوية الشرقية من العالم أي الصين، حيث طابور من الأفراد ينتظرون سحب أموالهم من إحدى البنوك الصينية في إقليم “هيبي” خوفا على أموالهم من الاختفاء، وسط مخاوف من انهيار ذلك البنك نظرا لتعرّضه لديون الشركة العقارية العملاقة والمنهارة “إيفرغراند”، وهو ما يعني هزّة خفيفة للنظام البنكي الصيني. 

أيضا ارتفعت تكلفة شحن النفط بشكل كبير منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل و”حماس”، وقفزت تكاليف الشحن في منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​بأكثر من 100 بالمئة، ارتفعت أسعار الشحن على 16 طريقًا تجاريًا عالميًا بمعدل 50 بالمئة تقريبًا، علاوة على تجاوز أسعار النفط 90 دولارا، لدينا الآن تكاليف شحن أعلى بكثير، وهي معركة أخرى في الحرب ضد التضخم.

الطلب الصيني الذي يستشعر الخطر الاقتصادي، جاء بحسب عبيد، نظرا لمعرفة بكين أن تحالفات إيران مع جماعات مثل “حزب الله” والميليشيات التابعة لها لن يكون له فائدة على المستوى الاقتصادي، لأن هذه الجماعات تعتمد بشكل رئيسي على العنف والعسكرة، ولا تساهم بشكل فعّال في تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، وحاليا الحلف الشرقي بحاجة إلى بناء علاقات جيدة مع دول الجوار والعالم، ولكن تبقى مرتبطة بملفات مكلِفة مثل النفوذ في المنطقة.

المصالح فوق القضية

وفقا لتقديرات عبيد، هناك دليل قاطع على أن قرار الانخراط بالحرب مع غزة هو قرار صيني وليس إيراني، فرغم أن إيران لها دور في دعم “حماس” وتزويدها بالسلاح والمال والدعم السياسي، ولم تنفِ تورطها في الحرب، بل رحّبت بها واحتفلت بها، إلا أن هذا تراجع بعد إعلان بكين اتخاذ موقف محايد من الحرب.

الصين عبر رئيسها دعت إلى وقف إطلاق النار وحل الصراع في غزة عبر الحوار، لذلك، يبدو منطقيا أن تكون الصين هي المسؤولة عن قرار طهران بشنّ الهجوم على إسرائيل من لبنان أو سوريا، لأن لها مصالح استراتيجية في المنطقة.

هذه المصالح تبلورت ترجمتها بخشية الأسواق من هجوم برّي من جانب إسرائيل، والذي يمكن أن يشعل صراعا إقليميا أكبر وأكثر تعقيدا يهدد سلاسل الإمداد الإقليمية وإنتاج الطاقة والنمو الاقتصادي والاستقرار المالي.

قبل بضعة أشهر فقط، أعلنت أكبر شركة تطوير عقاري في الصين “إيفرغراند”، إفلاسها بموجب الفصل الخامس عشر، وهذا الأسبوع، تخلفت شركة “كانتري غاردن”، وهي شركة تطوير صينية كبرى أخرى، عن سداد ديونها.

كل ذلك مع انخفاض مؤشر “إتش واي” العقاري في الصين بنسبة 85 بالمئة تقريبا عن أعلى مستوى له، ويشكّل قطاع  الإسكان وحده 25 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في الصين، وهنا يبدو أن الصين تتجه نحو الركود بسرعة كبيرة.

كيف يمكن أن تؤثر الحرب في الشرق الأوسط على المخزون النفطيّ الاستراتيجي للولايات المتحدة، كان اللافت في هذا النقاش، فبحسب الخبير الاقتصادي، مخلص نذير، تنتج الولايات المتحدة نحو 20.3 مليون برميل يوميا، في المقابل، الولايات المتحدة تستهلك حوالي 20.01 مليون برميل يوميا.

أميركا بدورها تنتج ما يقرب من 300 ألف برميل يوميا أكثر مما تستهلكه، وفي الوقت الحالي، ووفقًا لأحدث تقرير عن مخزونات إدارة معلومات الطاقة، يوجد 351 مليون برميل من النفط في الاحتياطي الاستراتيجي للنفط، وهذا أقل بمقدار 300 مليون برميل من 650 مليون برميل التي كانت  قبل خطة بايدن في بيعها بالكامل.

لذا فإن فكرة  القدرة على ملء الاحتياطي الاستراتيجي  بسرعة هي فكرة منافية للعقل ويمكن رفضها الآن، ومع وجود فائض قدره 300 ألف برميل يوميا، سيستغرق الأمر ما يقرب من عامين وتسعة أشهر لإعادة ملء الاحتياطي الاستراتيجي إلى مستوياته الطبيعية.

ولكن هذا أيضا بافتراض بقاء الطلب على حاله، وفي حالة الحرب، فإن الطلب على النفط سيرتفع حتما، والشيء الذي لا يعرفه معظم الناس هو أن مصافي النفط في الولايات المتحدة، وهي مصممة في الغالب لمعالجة النفط الخام الثقيل.

النفط الذي في الولايات المتحدة هو زيت خفيف المعروف باسم خام غرب تكساس الوسيط، ويتم تصدير معظم هذا النفط فعلياً إلى بلدان أخرى، ولهذا السبب،  تستورد في الواقع ما يقرب من 8.3 مليون برميل من النفط يوميا لتلبية الطلب الاستهلاكي لدينا.

والأمر المثير هنا هو أن 12 بالمئة من تلك الواردات، أو ما يقرب من مليون برميل يوميا من تلك الواردات تأتي من دول “أوبك”؛ لذا، في حالة استمرار التصعيد ووحدة الدول العربية بشأن غزة، فمن الممكن أن ننظر إلى مخاوف جدية بشأن أمن الطاقة.

ثلاثة سيناريوهات

نحن نتحدث عن انخفاض فوري بنسبة 12 بالمئة في إمدادات الواردات، وانخفاض القدرة على التصدير، من بين العديد من المخاوف الأخرى.

الحرب الصين إيران

أسعار النفط قفزت مباشرة بعد أن هاجمت “حماس” إسرائيل، ومع تصاعد الحرب، مما يهدد بإشراك المزيد من اللاعبين في الشرق الأوسط الغني بالنفط وربما تعقيد طرق تجارة الطاقة، هناك نمطين تاريخيين يمكن الاستناد إليها في تحليل هذه الحالة.

كان لغزو صدام حسين للكويت في آب/أغسطس 1990 الأثر الأبرز على أسواق النفط، وبعد أقل من شهرين، تضاعفت الأسعار.

كما شهدت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، ارتفاعا قصير المدى للغاية، لكن أسعار النفط سرعان ما بدأت في الانخفاض وسط مخاوف من أن يؤدي الركود الناجم عن الهجمات إلى انخفاض الطلب.

في هذه المرحلة، يكون عدم اليقين مرتفعا فيما يتعلق بالحجم والمدّة وتداعيات الحرب، وسوف يأخذ المتداولون في الاعتبار التفاعل بين الاقتصاد العالمي الأضعف إلى جانب نطاق الصراع الأوسع، بالإضافة إلى تصميم “أوبك” على خفض الإنتاج.

الخيارات الصعبة هنا بحسب نذير، والتي تأخذها بكين بعين الاعتبار، أنه من الممكن أن تؤدي الحرب الآخذة في الاتساع في الشرق الأوسط إلى دفع الاقتصاد العالمي إلى الركود، ومن الممكن أن تترتب على ذلك أزمة اقتصادية عالمية إذا تسببت الصراعات المتصاعدة في ارتفاع أسعار النفط.

لذلك ترى الصين، إذا تم زجّ إيران في الصراع فإن تقديرات “بلومبرج إيكونوميكس” قد ترتفع أسعار النفط إلى 150 دولارا للبرميل، وقد ينخفض ​​النمو العالمي إلى 1.7 بالمئة؛ وهذا ركود سيؤدي إلى خسارة ما يقرب من تريليون دولار من الإنتاج العالمي.

ثلاثة سيناريوهات لكيفية تطور الصراع بين إسرائيل و”حماس” والأثر الاقتصادي للحرب، يتوقعها نذير، منها:

السيناريو الأول: أن يظل الصراع محدودًا بين إسرائيل وغزة، والأثر الاقتصادي ارتفاع أسعار النفط بمقدار 4 دولارات، وتأثير مؤشر التقلب لتوقعات سوق الأسهم “في أي إكس” محدود، وتأثير الناتج المحلي الإجمالي، سيكون -0.1 نقطة، وتأثير التضخم، +0.1 نقطة.

السيناريو الثاني: أن ينتشر الصراع إلى الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا ويتحول إلى حرب بالوكالة، خاصة بين إسرائيل وإيران، والتأثير الاقتصادي سيبدأ بارتفاع أسعار النفط بمقدار 8 دولارات، وتأثير “في أي إكس” سيبلغ +8 نقاط، وتأثير الناتج المحلي الإجمالي، -0.3 نقطة، أما التضخم فسيكون +0.2 نقطة.

السيناريو الثالث: تصعيد التبادلات العسكرية المباشرة بين  الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، فإن الأثر الاقتصادي سيكون زيادة قدرها 64 دولارا في أسعار النفط، وتأثير “في أي إكس” +16 نقطة، وتأثير الناتج المحلي الإجمالي -1.0 نقطة، وتأثير التضخم +1.2 نقطة.

هنا يظهر أن الصين ويبدو من خلفها روسيا هي من تضغط على إيران لتقييد الجماعات التي تتبع لها في المنطقة سواء في سوريا أو العراق و”حزب الله” في لبنان، حتى لا تنجر المنطقة نحو السيناريو الثاني والثالث، والذي سيؤدي إلى نكسة جديدة للحلف الشرقي وخصوصا بكين التي تعاني من أزمة اقتصادية محلية.

0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات حول دولي

جديداستمع تسجيلات سابقة