منذ أن بدأت روسيا في حربها على أوكرانيا واجهت موسكو عزلة اقتصادية غربية بهدف تقييد قدرتها على تمويل الحرب، حيث فرضت الدول الأوروبية حزم عقوبات مشددة عليها، شملت مجموعة واسعة من القيود، وهو ما أدى بعد نحو عامين من الحرب إلى تراجع حجم التجارة الروسية مع السوق الأوروبي.

هذا التراجع جاء بفعل العقوبات الأوروبية التي وصلت لغاية الآن إلى 12 حزمة ضد روسيا شملت مجموعة واسعة من القيود، بما في ذلك التجارة والتمويل والطاقة والصناعة والتكنولوجيا والنقل والنفط والفحم والمنتجات ذات الاستخدام المزدوج ومنتجات فاخرة، بما في ذلك تجارة الذهب والألماس، في حين يستعد الاتحاد الأوروبي لفرض حزمة عقوبات جديدة، لتشديد القبضة على حركة التجارة الروسية. 

إلى المركز العاشر 

حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا العام الماضي 2023 استمر في الانخفاض، إذ تراجعت روسيا من المركز الخامس إلى المركز العاشر في قائمة الشركاء التجاريين الرئيسيين للاتحاد الأوروبي، بحسب ما أعلن القائم بأعمال الممثل الدائم لروسيا لدى الاتحاد الأوروبي كيريل لوغفينوف، في مقابلة حديثة مع وكالة أنباء “ريا نوفوستي” الروسية.

إذ انخفض حجم التجارة الروسية مع الاتحاد الأوروبي على مدى 11 شهرا من عام 2023، بحسب لوغفينوف، بنسبة 66.1 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022. وتكشف الأرقام عن انخفاض كبير من 243.5 مليار يورو (نحو 262.8 مليار دولار أميركي) إلى 82.5 مليار يورو (زهاء 89 مليار دولار).

في ذات الوقت، تشير إحصاءات إلى التراجع الكبير في واردات الاتحاد الأوروبي من المنتجات الروسية، التي شهدت انخفاضا كبيرا بنسبة 75.6 في المئة لتصل إلى 46.9 مليار يورو (قرابة 50.6 مليار دولار)، في حين شهدت صادرات السلع من الاتحاد الأوروبي إلى روسيا انخفاضا ملحوظا بنسبة 30.3 بالمئة، لتصل إلى 35.6 مليار يورو (حوالي 38.4 مليار دولار).

وفق الباحث الاقتصادي عامر الشوبكي، فإن أوروبا كانت الشريك الاقتصادي الأول لروسيا وموسكو كانت الشريك الاقتصادي الخامس لأوروبا، حيث كان حجم التبادل التجاري يتخطى 260 مليار يورو سنويا قبل الحرب، لكن هذا الوضع اختلف بشكل كبير بسبب حزم العقوبات الكبيرة التي فرضت على الجانب الروسي والتي شملت قطاعات روسية واسعة. 

بحسب أرقام المفوضية الأوروبية، كانت التجارة مع روسيا تمثل 4.8 بالمئة من مجموع المعاملات التجارية للاتحاد الأوروبي خلال عام 2020، في حين كانت أوروبا تستورد 37.3 بالمئة من مجموع ما تصدره روسيا من سلع وبضائع، أي أكثر من ثلث السلع الروسية كانت تتجه للأسواق الأوروبية. 

ماذا عن الطاقة؟ 

دول الاتحاد الأوروبي أوقفت معظم عمليات الشراء المرتبطة بالطاقة من روسيا بعد عمليتها العسكرية في أوكرانيا، حيث تأثر تصدير الغاز الروسي والنفط إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كبير عقب الحرب، إذ كانت أوروبا، بحسب حديث الشوبكي لـ “الحل نت”، تعتمد على روسيا بنسبة 28 بالمئة من حاجتها النفطية والآن أصبحت من 3-5 بالمئة، في حين تراجع الاعتماد بالنسبة للغاز من 45 بالمئة إلى نحو 12 بالمئة، أي فقدت روسيا نحو ثلثي إيرادات مبيعات الغاز الطبيعي لأوروبا.

وتحاول روسيا الآن تمرير نفس الكمية إلى الصين عن طريق إنشاء بنية تحتية جديدة، فهي تملك فقط أنبوب “قوة سيبيريا 1″ وهي على وشك البدء بتنفيذ أنبوب “قوة سيبيريا 2” والذي سينتهي مع نهاية العقد الحالي، ولكن إلى حينه ستبقى روسيا تفقد جزءا كبيرا من إيرادات صادراتها من الغاز الطبيعي التي كانت تذهب إلى أوروبا.

في حين تمكنت روسيا من تمرير معظم صادراتها النفطية التي كانت تذهب إلى أوروبا إلى الصين وهذا ساعدها في الحفاظ على جزء كبير من إيراداتها من النفط والغاز، حيث كانت تشكل إيرادات النفط معظم الإيرادات للخزانة الروسية والغاز يشكل فقط من 20-30 بالمئة من إيرادات الطاقة. 

الغاز الروسي إلى أوروبا (تعبيرية) – (العربية نت)

لكن موسكو توقفت عن نشر مجموعة واسعة من الإحصاءات الاقتصادية بعد العقوبات، بما في ذلك البيانات التجارية مع كل دولة على جنب، لكي لا تظهر أي نوع من الخسائر، لكنها حاصلة ولو بنسب قليلة بحسب الشوبكي، الذي اعتبر أن الأرقام التي تنشرها روسيا قليلة الجودة ولا يأخذ بها وهذا أيضا لعدم إظهار حجم التبادلات التجارية الجديدة مع كوريا الشمالية والصين والهند أو دول أخرى. 

مكتب الإحصاء الاتحادي في “فيسبادن” أفاد في تقرير، بأن حجم التجارة الخارجية بين ألمانيا وروسيا انخفض بشكل كبير في عام 2023، مع انخفاض الصادرات من ألمانيا بنسبة 38.8 بالمئة على أساس سنوي، بينما انخفضت الواردات من روسيا بنسبة 90 بالمئة مقارنة بعام 2022، إذ بلغت الواردات من روسيا 3.7 مليارات يورو، مقارنة بـ 36.4 مليار يورو في العام السابق.

الصين الشريك الأول مع روسيا

حزم العقوبات على روسيا لم تؤت ثمارها بتحقيق صدمة أو شلل اقتصادي سريع لموسكو وهذا يعود إلى مرونة الاقتصاد الروسي والتوجه إلى أسواق جديدة لتعويض خسائرها من فقدان السوق الأوروبي والأميركي، كما أنها استفادت من ارتفاع أسعار النفط ووصوله إلى حائط 100 دولار في عام 2022.

“على الرغم من المرونة الكبيرة في الاقتصاد الروسي إلا أنه تأثر بشكل كبير بفعل العقوبات الأوروبية، إلا أن الروس اتجهوا لتوطيد علاقاتهم مع الصين بشكل أكبر لتعويض تجارتهم الفائتة مع الاتحاد الأوروبي، حيث باتت الصين اليوم الشريك الاقتصادي الأول لروسيا، وللصين دور هام ورئيسي بتقليل أثر العقوبات على الاقتصاد الروسي”، يقول الشوبكي. 

أظهرت بيانات جمركية صينية، بأن التجارة مع روسيا سجّلت رقما قياسيا قدره 240 مليار دولار العام الماضي 2023، على وقع تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية بين بكين وموسكو، بينما ذكرت وكالة “إنترفاكس” الروسية نقلا عن هيئة الجمارك الروسية بأن الصادرات إلى آسيا التي حلّت مكان أوروبا، كأهم سوق للطاقة الروسية، ارتفعت بنسبة 5.6 بالمئة إلى 306.6 مليارات دولار.

وفقا لحديث الباحث عامر الشوبكي، وهو متخصص في شؤون النفط والطاقة، فإن تحديد سقف سعر النفط الروسي لم ينجح نوعا ما، حيث استطاعت روسيا إيجاد أسطول ظل يحمل نفطها الى الهند والصين ودول أخرى في إفريقيا.

“مع استقرار سعر النفط الآن عند 80 دولارا سيكون له أثر أكبر على الاقتصاد الروسي من العام الماضي والعام 2022 وبالتالي سيحاول الروس تقليص الإنتاج مع منظمة أوبك + وبالتالي رفع الأسعار لتعويض الخسائر وزيادة الإيرادات”، أضاف الشوبكي. 

التجارة بين أميركا وروسيا 

تراجع حجم التجارة الروسية لم يتوقف عند الاتحاد الأوروبي فقط، بل يشمل أيضا الولايات المتحدة الأميركية، إذ شهدت تراجعا كبيرا ووصلت إلى أدنى مستوياتها منذ سقوط الاتحاد الأوروبي، بحسب ما قالت مجلة “فوربس” في وقت سابق. 

وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الأميركي، فقد انخفضت الصادرات الأميركية إلى روسيا بنسبة 91 بالمئة، بينما انخفضت الواردات بنسبة 85 بالمئة في الـ 11 شهرا الأولى من عام 2023 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021.

“لا ننسى أن روسيا تستنفذ جزءا كبيرا من الإيرادات لتمويل الحرب على أوكرانيا وهذا عبء إضافي على الاقتصاد الروسي وأعتقد أن الآثار ستظهر هذا العام 2024 على الاقتصاد الروسي أكثر من العام الماضي إذا ما امتدت الحرب حتى نهاية هذا العام والعقوبات أيضا”، يقول الشوبكي. 

لا يبدو أن روسيا ستكون قادرة على امتصاص صدمات العقوبات المفروضة عليها في حال فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على شركات صينية، وأخرى في تركيا والهند وصربيا، بسبب اتهامات بمساعدة روسيا على التحايل على العقوبات الغربية المفروضة عليها، حسبما صرح العديد من الدبلوماسيين لمجلة “بوليتيكو” الأميركية. 

القائمة تضم أيضا شركات في كازاخستان وتايلاند وسريلانكا، بالإضافة إلى 11 كيانا آخر في روسيا، وتستعد بروكسل الآن لفرض عقوبات على أربع كيانات صينية تعتقد أنها تساعد “الكرملين” على شراء سلع أوروبية مزدوجة الاستخدام، وفقا لمسودة الاقتراح، وإذا وافقت دول الاتحاد الأوروبي على إدراج الأسماء الأربعة في قائمة العقوبات، فسيتم منع المؤسسات الأوروبية من التعامل مع تلك الشركات.

يريد الاتحاد وضع اللمسات الأخيرة على الحزمة الـ 13 من العقوبات ضد روسيا قبل 24 شباط/ فبراير الجاري، وهو موعد الذكرى السنوية الثانية للحرب على أوكرانيا.

بناء على ما سبق، فإن الاقتصاد الروسي يتجه هذا العام إلى ضغوطات تختلف عن سابقاتها بفعل حزم العقوبات المفروضة، إضافة إلى استقرار أسعار النفط عند مستويات متدنية بالمقارنة مع 2022، ومما يشير إلى ذلك إبقاء بنك روسيا المركزي سعر الفائدة دون تغيير عند 16 بالمئة وهو ما يعني أن “الاقتصاد يتجه نحو التباطؤ” بحسب “بلومبرغ إيكونوميكس”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
3.7 3 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات