يُعد انتشار وسائط التواصل الاجتماعي من “مفرزات العولمة” التي هيمنت على كل المجتمعات، و أثرت بدرجة كبيرة في مفهوم الثقافة ومحدّداتها، فهذه الوسائط ساهمت في تداخل الأنساق الثقافية والقيم الكونية، كما سهّلت عملية التفاعل بين الأفراد من مختلف الثقافات وقرّبت بينهم، وكان من نتائجها هدم كل مقومات بناء الهوية وإعادة تشكيلها من منطلقات حداثية أثرت في طبيعة التفاعلات الاجتماعية وبالتالي في العلاقة بين الأفراد، وهذا أمرٌ طبيعي نظراً لبروز أنساق ثقافية وقيمية جديدة يتم من خلالها إعادة تشكيل مفهوم الهوية والذات، مما أثر فعلياً على الهوية الدينية عند الشباب الذي لا يمثّل له الدين إلا مجرد انتماء للنسق الاجتماعي.

وعليه نستجلي تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تغيير المنظومة الثقافية والدينية للمجتمع التونسي خاصة ما بعد الثورة، وللقارئ أن يتساءل لماذا بعد الثورة، والإجابة هي أن هذه الفضاءات التواصلية كانت في عهد نظام

زين العابدين بن علي، تخضع لرقابة مشددة وبالتالي لا يوجد ما يسمى “بحرية التعبير”، لكن إبّان الثورة ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في دعم الحِراك الاحتجاجي وبالتالي دعم عملية التغيير السياسي والذي كان من نتائجه بروز حرية التعبير من خلال رفع الرقابة على الشبكات العنكبوتية.

معظم الذين شملهم الدراسة الميدانية يعتبرون الدين مجرد “فولكلور شعبي” لا غير. كما أقروا بأن التمسك بما يسمى بالعادات والتقاليد هو نوع من الجهل.

وهذا الرفع ساهم إلى حدٍّ كبير في بروز صفحات “فيسبوكية” لمجموعات دينية كانت مغيّبة تماماً في عهد بن علي، فمن خلالها اكتشف المجتمع التونسي أنه كان يعيش في وهم التجانس الديني الذي سوّقت له النّظم السياسية ما قبل الثورة. فانفتاح الشباب التونسي على الثقافات الغربية وتأثره بها جعله متحرّر من كل الأنماط التقليدية التي مازالت متجذرة في المجتمع.

وكمثال نجد دراسة مشتركة بين منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية والمرصد الوطني للشباب والصندوق العربي لحقوق الإنسان حول مفهوم التديّن وحريّة الضمير في تونس، وجدنا العديد من الإحصائيات التي قدّمت استقراءً لظاهرة التديّن، فأهمّ ما أكّده الأستاذ “منير السعيداني” ضمن مقال مُدرَج بهذه الدراسة أن التديّن في تونس لا يخضع لمقاييس محدّدة بل أنه منوط بشخص الأفراد، وقد عزّز طرحه هذا بجملة من الأمثلة الإحصائيّة فنجد أن 3.73 بالمئة من العيّنة المدروسة يقرّون بعدم رغبتهم في الصلاة مطلقاً، وهذا الأنموذج موجود بنسبة أكبر لدى الشباب خاصة.

“الدين مجرد فلكلور شعبي”

وفي دراسة ميدانية لمجموعة من الطلبة في كلية الآداب سوسة، وجدنا أن أغلب المبحوثين (الذين شملهن الدراسة الميدانية) يعتبرون الدين مجرد فلكور شعبي لا غير، كما أنهم أقروا أن التمسك بما يسمى العادات والتقاليد هو ضرب من ضروب الجهل والدليل أن المجتمعات العربية مازالت رجعية بينما المجتمعات الغربية جداً متطورة لذلك تعد ثقافتهم نموذج مثالي بالنسبة لهم.

فانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتقاطعها مع الظاهرة الدينية خلق تصورات حول الدين وأثر حتى في أنماط وأشكال التديّن وبالتالي أثر في الجانب الثقافي، نظراً للتلازم الوثيق بين ما هو ديني وما هو ثقافي الذي يصل إلى حدّ التجانس وربما التماثل في العديد من المجتمعات والمجموعات، إذ يشكّل فيها الاعتقاد الديني هوية جماعية بعيدة كلّ البعد عن الاعتقاد الفرديّ، وهو ما أكده عبد الغني عماد بقوله:فيها يتطابق الثقافيّ والدينيّ، حينها يمثّل الدين ثقافة كاملة لشعب أو أمة أو حضارة، ليس في كونه نصوصا وتعاليم وقيما فحسب بل بما هو كيان مجسّد اجتماعياً، ومبلور بالممارسة في أنماط وتقاليد وأفعال“.

فبعد الثورة انخرطت كل الجماعات الدينية في تونس ضمن شبكات التواصل الاجتماعية وذلك في إطار رقمنة الدين أولا، وإنشاء قواعد استقطابية ثانيا،ً ويلفت كامبل Campbell “إلى أن الطوائف الدينية في تعاملها مع وسائل الاتصال لم تكن معارضة للتكنولوجيا الحديثة كما قد يتبادر لتفكير البعض، غير أنهم تعاملوا مع تلك الوسائل في إطار مجموعة من القيود والمحددات والعوامل ذات الأساس الديني، هذه المحددات والعوامل أثرت في تشكيل أنماط تعامل الأفراد المتدينين مع وسائط الاتصال والعالم الجديد“.

نشاط الحركات الدينية على مواقع التواصل الاجتماعي

وكمثال لما ذكرناه آنفاً، نشطت عدة حركات دينية في تونس على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها: صفحات خاصة بالحركات الجهادية والتي منها تم استقطب العديد من المراهقين والشباب إناثاً وذكوراً للالتحاق ببؤر التوتر (سوريا، العراق، ليبيا)، وقد أخضعت هذه الصفحات للغلق والمتابعة الأمنية من الفِرق المختصة في مقاومة الإرهاب في تونس.

المتعارف عليه أنه في المجتمعات التقليدية يكون النسق التفاعلي صلب العلاقات الاجتماعية إذ يقوم بتذويب “الأنا” لصالح “النحن” لكن في المجتمعات الافتراضية وخاصة في حالة التحوّل الديني وجدنا العكس تماماً.

بالإضافة إلى صفحات خاصة بالتنصير والتي استقطبت حسب بحث ميداني أجريناه بهذا الخصوص أكثر من 40.000 شاب تونسي اعتنقوا المسيحية في الفترة الممتدة ما بين 2012 و2016.

وثمة صفحات خاصة بنشر الإلحاد واللادينية في صفوف الشباب وقد أثرت على آلاف الشباب حسب دراسة أجريناها مع بعض طلبة.

وغير هذه الصفحات الكثير كصفحة خاصة بالتعريف بالدين البهائي في تونس، وصفحات خاصة بجماعات اللاأدرية والأنيمزم.

فالعديد من الشباب المتحول دينياً من الإسلام إلى أديان أو عقائد أخرى أكدوا فاعلية الوسائط الاجتماعية في تشكيل هوية بديلة لهويتهم الاجتماعية التي لا تتوافق مع انتماءاتهم الدينية والفكرية.

هذا بالطبع إلى جانب سياسة الإقصاء والتهميش التي يتعرضون لها بسبب انسلاخهم عن المعايير الاجتماعية، فهذه الوسائط قد ساعدتهم في بناء هوية افتراضية التي أصبحت بديلة للهوية الاجتماعية بل يمكن القول أنّها باتت هي ذاتها هويّة اجتماعية، إذ تخوّل للفرد إمكانية تشكيل ذاته بعيداً عن رقابة محيطه بل حتى أنها تساهم في بناء مجتمع افتراضيّ يسمح بتفاعل العديد من الأفراد الذين تربطهم اهتمامات وأنشطة مشتركة.

أثر التحول الديني على الهوية الوطنية

لم يعد مفهوم المجتمع مرتبطاً بسياق زماني أو مكاني، بل بمبدأ الاهتمامات كما أن هذا الفضاء يوفّر للفرد الذي ينخرط فيه ضمانات أهمّها غموض هويّته للعموم مما يخلق له فرصة للتعبير عن قناعاته الدينيّة والفكرية دون الخوف من تسلّط الجماعة عليه، فهو فضاء يجعله يخرج من حالة الرُهَاب والاغتراب التي يعيش فيها.

فهذا الفضاء الافتراضي يشكل لهم وسط للاندماج الاجتماعي الذي يلعب من المنظور السوسيولوجي دوراً أساسياً في تحليل سياقات التفكّك والبناء الهوياتي، وهو من المفاهيم التي يصعب تحديدها إذ أنه يتشكّل وفقا للسياق الذي يبرز فيه، فالمتعارف عليه أنه في المجتمعات التقليدية يكون النسق التفاعلي صلب العلاقات الاجتماعية إذ يقوم بتذويب “الأنا” لصالح “النحن” لكن في المجتمعات الافتراضية وخاصة في حالة التحوّل الديني وجدنا العكس تماماً فلا وجود للأنا بل الهيمنة الكليّة “للنحن” فكل النماذج تتكلّم باسم الجماعة وكأن بهم يكوّنون جسداً اجتماعياً صلباً وهو ما أشار إليه دوركايم بما معناه أن المجتمع الحديث معنيّ بكل الجماعات الخاصة التي تشكّله، انطلاقاً من أن كل مجتمع “ديني” أو “إثني” أو أسري معنيّ بعدد من التفاعلات بين الأفراد واقتسام قيم مشتركة.

فالاندماج، هو نتاج لكثافة التعاملات بينهم، كما هو نتاج لقبول قيم وممارسات وأهداف مشتركة تتجاوز المصالح المباشرة للفردوتتحول هذه الهوية الافتراضية في مرحلة ما إلى هوية جماعية مشتركة بين المتحولين لنفس العقيدة وهنا يبدؤون بتشكيل ثقافة بديلة لمجتمعهم الأصل خاصة من حيث تغيير أسمائهم، لباسهم، وحتى اللغة التي يعتمدونها منسلخة عن الثقافة اللغوية للمجتمع التونسي المتمسك بمنظومته الثقافية التقليدية ذات الطابع الإسلامي.

وهذا الأمر ينطبق قياساً حتى على الشباب المسلم غير الممارس، فكثيراً ما يتم اتهامه بأنه منسلخ عن المنظومة الدينية والأخلاقية والقيمية وأنه متماهي مع الثقافة الغربية المتحررة من كل القيود الأخلاقية، وقد أثر هذا التحول الديني والثقافي حتى على الهوية الوطنية ومسألة الانتماء للوطن بالنسبة للشباب وهو ما أدى إلى بروز إشكالية جداً هامة وهي مسألة الحرية الدينية والمواطنة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات